يناقش حمادي ذويب في كتابه “مراجعة نقدية للإجماع بين النظرية والتطبيق” موضوعا حساسا وخطرا، وهو موضوع حجية الإجماع الذي يعتبره أغلب العلماء أصلا من أصول التشريع بعد الكتاب والسنة، والذي تأسست بناء عليه كثير من الأحكام والأصول والمبادئ الشرعية، وقد ناقش المؤلف الموضوع من عدة زوايا نظرية وتطبيقية، وسنحاول في هذه العجالة عرض أهم الأفكار التي استعرضها المؤلف في كتابه المذكور.

الإجماع: مفهوم غير محدد

يذهب المؤلف إلى أن مفهوم الإجماع غير واضح جدا، وذلك ما يعتبر نقطة الضعف الأولى التي دخل منها منتقدوه أو مراجعوه على حد تعبير المؤلف، حيث يعتبر تحديد المفهوم مهمة المهمات في أي مسألة علمية، بدونها تبقى تلك المسألة غير علمية ولا قابلة للمعيرة والقياس، ولتبيان هذه الضبابية في مفهوم الإجماع يقدم المؤلف جملة من تعريفات العلماء له، وخصوصا الغزالي الذي يقول: “الإجماع عبارة عن اتفاق أمة محمد خاصة على أمر من الأمور الدينية.

وينتقد الآمدي تعريف الغزالي هذا فيقول: مدخول من ثلاثة أوجه: الأول أن ما ذكره يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى يوم القيامة، فإن أمة محمد جملة من اتبعه إلى يوم القيامة..، الثاني: أنه وإن صدق على الموجودين منهم في بعض الأمصار أنهم أمة محمد غير أنه يلزم مما ذكره أنه لو خلا عصر من الأعصار  عن أهل الحل والعقد وكان كل من فيه عاميا واتفقوا على أمر ديني أن يكون إجماعا شرعيا وليس كذلك، الثالث أنه يلزم من تقييده للإجماع بالاتفاق على أمر من الأمور الدينية أن لا يكون إجماع الأمة على قضية عقلية أو عرفية حجة شرعية وليس كذلك

ويقدم أي الآمدي تعريفا يراه أنسب وهو :”والحق في ذلك أن يقال: الإجماع عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع.

وقد امتد هذا النقد لمفهوم الإجماع ولشروطه إلى العصر الحديث، ومن الذين نقدوا المفهوم التقليدي للإجماع محمد رشيد رضا الذي نقد مفهومه وأسسه وشروطه ومجالاته نقدا قويا قام فيه بتفكيك منهجي عقلاني لأقوال الفقهاء والأصوليين فيه، وكذلك محمد عبد ومن بعدهم محمد توفيق صدقي والزهراوي.

ويذهب المؤلف إلى أنه حدث الانزلاق الدلالي في مفهوم الإجماع بشكل خاص عندما انتقل من الدلالة على إجماع الأمة بعامة إلأى إجماع العلماء بخاصة، ومن إجماع العلماء بعامة إلى إجماع الفقهاء بخاصة، أو إجماع علماء مذهب واحد أو فرقة واحدة، وهكذا تحلو مفهوم الإجماع إلى أداة صراع مذهبي تقضي على حرية الاختلاف، وتصادر الرأي الذي لا ينتمي إلى هذا المذهب الضيق.

مراجعة أسس بناء سلطة الإجماع

يعد وصل الإجماع بالدليل القرآني أحد المستندات التي اتكأ عليها الفقهاء في تدليلهم على قطعية الإجماع وحجيته، ومن ذلك قوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس” وكذلك قوله سبحانه: “ويتبع غير سبيل المؤمنين”، إلا أن بعض العلماء من مختلف الفرق رد على هذه الأدلة معتبرا أنها ليست قطعية الدلالة على المقصود وإنما هي محتملة لدلالات أخرى، ومن أولئك إبراهيم النظام المعتزلي وإمام الحرمين الجويني السني، فقد اعتبرا الآية “ويتبع غير سبيل المؤمنين” لا تصلح دليلا لإثبات حجية الإجماع وإن اختلفا في الموقف التفصيلي من الإجماع نفسه.

يقول إما الحرمين الجويني معلقا على الآية المذكورة: “وجه في التأويل لائح ومسلك في الإمكان واضح، فلا يبقى للمتمسك بالآية إلا ظاهر معرض للتأويل، ولا يسوغ التمسك بالمحتملات في مطالب القطع”، ونفس الأمر ذهب إليه الغزالي تلميذ الجويني الذي قال أن آيات إثبات الإجماع حجة “كلها ظواهر لا تنص على الغرض بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر”.

أما الأحاديث التي استدل بها الأصليون أيضا على حجية الإجماع فقد تعرضت للنقد، وأقوى الأحاديث في ذلك حديث: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”، وقد تكلم غير واحد في متنه وسنده، أما في سنده فقد ذهب رافضوه إلى أنه خبر آحاد لا يفيد إلا الظن وأنه لا يصلح حجة لتأسيس أصل في قوة ومركزية الإجماع، كما ذهب ابن فركاج إلى أن جميع رجاله لا تصل به إلى مستوى الصحيحين أحرى أن يكون متواترا.

وأما المتن فقد ذهب النظام والجويني وابن برهان الحنبلي وغيرهم إلى تأويله تأويلات تبعده عن دلالته على تزكية الإجماع، وقال فيه الجويني قولا قريبا من قوله في الآية السابقة: “ثم الأحاديث متعرضة للتأويلات القريبة المأخذ الممكنة، فيمكن أـن يقال: قوله : لا تجتمع أمتي على ضلالة بشارة منه مشعرة بالغيب، في مستقبل الزمان، مؤذنة بأن أمته لا ترتد إلى قيام الساعة”، ثم يناقش هذا الدليل من زاوية أخرى فيقول: “ولا حاصل لقول من يقول: هذه الأحاديث متلقاة بالقبول، فإن المقصود من ذلك يؤول إلى أن الحديث مجمع عليه، وقصاراه إثبات الإجماع بالإجماع، على أنه لا تستتب هذه الدعوى أيضا مع اختلاف الناس في الإجماع”، أما ابن حزم فقد قال بأن لفظ هذا الحديث ومتنه غير صحيحين، ولكنه قبل معناه وجلب له أحاديث أخرى تعضده من خارجه.

وظائف الإجماع سياسيا واجتماعيا

قام المؤلف أيضا بمراجعة وظائف الإجماع السياسية حيث تم توظيفه –حسب المؤلف- لتبرير شرعية نظام الحكم السني متطرقا للسياق التاريخي الذي برز فيه استخدام الإجماع في النظرية السياسية السنة، ومبينا كيف تم توظيف الإجماع لتبرير طاعة الحكام حتى لو كانوا جائرين أو مستولين بالقوة على الحكم، ونقل في ذلك أقوالا لبعض الفقهاء من مختلف المذاهب، منها قول ابن بطال المالكي: “وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حق الدماء وتسكين الدهماء”.كما تعرض المؤلف لتضييق دلالة الإجماع وأثر ذلك على حرية الرأي والاختلاف.

وفي مبحث خاص بوظائف الإجماع الاجتماعية بين المؤلف كيف أن الإجماع استخدم أداة من أدوات الضبط القانوني لمختلف فئات المجتمع وعاداته وأعرافه، ومن أبرز تلك الأدوار التي أداها الإجماع في المجتمع هو التأكيد على ضرورة لزوم الجماعة والابتعاد عن التفرق، ثم عرض لعدد من الإجماعات الخاصة بالمرأة مثل تعدد الزوجات والحجاب، فيرى المؤلف أن الاقتصار على أربع زوجات لا دليل قطعيا عليه وأن الحديث لا يسعف في تأكيده، ولكن الفقهاء أثبتوا ذلك بالإجماع، يقول الرازي: “واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين، الأول الخبر –وهذا الطريق ضعيف- والأمر الثاني هو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد”.

يرى المؤلف أن حكاية الإجماع هنا هو “آلية دفاعية لمواجهة موقف مهمش ومسكوت عنه في أغلب الأحيان، ذهب أصحابه إلى فهم مخالف للنص القرآني يفيد عدم حصر الزوجات في أربع بناء على أن الواو في الآية تدل على الجمع لا على التخيير” .

استفاض المؤلف في الحديث عن أقوال المراجعين للإجماع، وانطلق من نفسية مؤزرة لهم لم يستطع التخلص منها خلال كل فصول كتابه، ورغم أنه قال في مقدمته أن هدفه هو إعادة طرح تلك الآراء في الساحة من جديد وعدم السماح باستمرار تجاهلها، رغم ذلك إلا أنه لم يخف إعجابه وموقفه من تلك الآراء والاجتهادات، ومع ذلك فإن الكتاب يعتبر مهما في مجاله وإضاءة ضرورية في عتمة التقليد والاتباع السائدة داخل الحركة الفقهية المعاصرة.