يناقش الباحث اليمني إسماعيل عبد الحافظ العبيسي، في دراسة سيميولوجية تحليلية، في كتابه ” تفكيك وإعادة بناء ما أغلقته كتب تفاسير القرآن الكريم “، ثلاثة مفاهيم قرآنية رئيسة، بأسلوب جريء وجديد في حقل الدراسات القرآنية، يعتمد على تفكيك المعاني المنثورة في كتب التفاسير القديمة والحديثة، من أجل الكشف عما أغلقته تلك التفاسير من معاني هذه المفاهيم القرآنية الثلاثة، التي أخذت قسطًا كبيرًا من الدراسة والتمحيص من قِبَلِ المفسرين على اختلاف توجهاتهم، وظلت تشغل بال العلماء والباحثين منذ نزول القرآن إلى يوم الناس هذا.

سعياً إلى توسيع دائرة التفكيك وإعادة البناء، اعتمد الباحث -في دراسته- على مجموعة من التفاسير التي تعكس مذاهب إسلامية مختلفة، وقام بعرض المفاهيم القرآنية التي أراد تفسيرها على محَكِّمِين، وقد “بلغت نسبة الاتفاق (86%) على أن هذه التفاسير المحددة تمثل أساسًا مهما من أسس علم التفسير  عند معظم الفرق والمذاهب والطرق الإسلامية، فيما بلغت نسبة الاتفاق (93%) على أن هذه التفاسير كافية للإجابة على معاني مفردات الموضوعات وبكفاءة”[1].

نبذة عن الكتاب

صدر كتاب “تفكيك وإعادة بناء ما أغلقته تفاسير القرآن الكريم: دراسة سيميولوجية تحليلية”، عن دار العراب للدراسات والنشر والترجمة بدمشق 2018، وقد جاء في مقدمة وثلاثة فصول رئيسة وخاتمة، تناول الفصل الأول: معنى “الصراط المستقيم“، بينما تناول الفصل الثاني “القوامة والتفضيل في القرآن”، أما الثالث فركز  على تفكيك وإعادة بناء “مفهوم التنازع”. ومن بين الأسباب التي دعت الباحث –حسب قوله- إلى اختيار هذه المفاهيم الثلاثة دون غيرها من المفاهيم القرآنية العديدة، الأهمية الجوهرية لها في القرآن الكريم، وكونها تُطرَقُ لأول مرة من خلال منهجٍ جديدٍ (المنهج السيمولوجي) لم يسبق تطبيقه على علوم الدين، هذا بالإضافة إلى أنها تكشف عن الخذلان الذي لحق معاني هذه المفاهيم ودلالاتها[2].

صرّح الباحث بأنه اعتمد “المنهج الوصفي في أسلوب تحليل المحتوى، والمنهج السيميولوجي في تفكيك وإعادة بناء المعاني”[3]، والمعلومات النوعية المنثورة في كتب التفاسير الممتدة عبر الأمكنة والأزمنة، من أجل تقديم تفسيرٍ جديدٍ لهذه المفاهيم الثلاثة، التي أدخلها الباحث إلى مختبر ثلاثة عشر تفسيرًا، هي: تفسير الطبري، تفسير ابن كثير، تفسير الكشاف، تفسير ابن العربي، تفسير القمي، تفسير ابن تيمية، تفسير ابن القيم، تفسير الجلالين، تفسير الكاشاني، تفسير الشوكاني، تفسير الشيرازي، التفسير الميسر، تفسير الآصفي.

معنى الصراط المستقيم

في مقدمة الفصل الأول، صرّح الباحث بأن مفهوم “الصراط المستقيم” من المفاهيم التي لا تزال محجوبة عن المؤمنين، وقد ألقى غياب المفهوم الدقيق لمعنى الصراط المستقيم “بظلاله السلبية على الواقع العقائدي والاجتماعي والسياسي الإسلامي” [4]. بعد المقدمة استعرض الباحث آراء كتب التفاسير التي اعتمدها في دراسته، وجاءت الخلاصة التفكيكية لمعنى “الصراط المستقيم” في جملة نقاط، منها: غياب الجهد التأويلي لكل المفسرين، واكتفاؤهم بنقل التفسير والروايات بموجب المأثور، وتغليب الروايات عن المعنى القرآني، ولذلك ظل دور المفسرين غائبًا من هذه الناحية.

يبدو أن إيمان الباحث بعجز المفسرين عن تحديد المعنى الدقيق لمفهوم “الصراط المستقيم”، دفعه إلى إعادة بناء معنى هذا المفهوم، بناءً على المنهج السيميولوجي (الدلالي)، معتمدًا على القواميس والمعاجم، واستقراء الدلالات اللغوية للمفردة القرآنية. ويمكن القول إن النتيجة اللغوية التي توصل لها الباحث في هذا السياق، تتمثل في أن “الصراط المستقيم” تعني “النهج أو المنهج المعتدل أو العادل”، فهذا المعنى هو الذي يشكل “مدخلًا مناسبًا لفتح ما أغلقته التفاسير، وحالت دون وضوح معناه”[5]، بخلاف معنى “الطريق” الذي اعتمده المفسرون كتفسير للصراط المستقيم، من أجل الربط بين الكلمتين، ومن ثم توجيه المعنى “بما يتناسب والتوجهات المذهبية لكل تفسير (مفسر)، لإضافة أمير المؤمنين علي عليه السلام في المذاهب الشيعية، والسعادة عند الصوفية، والصحابة عند المفسرين السنيين”[6].

معنى القوامة والتفضيل

في الفصل الثاني، توقف الباحث مع “القوامة والتفضيل في القرآن”، فأوضح في الجانب التحليلي أن موقف كتب التفاسير يتمثل في أن “القوامة” تعني نفقة الرجل على المرأة، بالإضافة إلى حق التأديب والتسلط والرئاسة، بينما يعني “التفضيل” أن الرجل خير من المرأة وأفضل منها. أما في الخلاصة التفكيكية فقال إن كافة التفاسير اتفقت “على استخدام الأسلوب اللغوي المباشر في تفسيرها للآية بالكلمة ومعناها، وتكاد تكون خالية من التفسير بالرواية والمأثور عدا تفسير ابن كثير“[7].

وفي سياق إعادة بناء معنى “القوامة والتفضيل”، ذكر الباحث أن المعنى الدقيق للتفضيل هو التفضيل في الرزق، بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}[8]، ولذلك فإن سبب تفضيل الرجل على المرأة لا يعود إلى كونه رجلًا، وإنما يعود إلى الرزق، وهذا يدفعنا إلى القول إن المرأة لا يمكن أن تكون أقل مكانةً من الرجل، لأن القرآن يصرح بأنهما مخلوقان من نفسٍ واحدةٍ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [9]، ومن هنا يتوصل الباحث إلى أن القوامة تكون لمن رزقه الله من فضله، لأن “التفضيل والتبعيض بين النساء والرجال يتحقق على إثر ما اكتسبوا من فضل الله [10].

معنى المنازعة

في مقدمة الفصل الثالث، أشار الباحث إلى أن الإجماع الفقهي الذي تم -عبر قرون طويلة- على مفهوم المنازعة، دفع إلى التأكيد على طلب الطاعة بشتّى الوسائل، وهو ما أدى إلى إنتاج أمة مكبلة بالتقليد والأحكام والفتاوى الجاهزة، ضد أي تفكير إسلامي تنويري يحاول تقديم مضامين مخالفة لهذا المبدأ.

وفي سياق تحليله لمعنى المنازعة، ذكر الباحث أن التفاسير الشيعية أجمعت على أن المقصود بأولي الأمر، علي ابن أبي طالب، وآل البيت من بعده، بينما أجمعت التفاسير السنية والصوفية على غير ذلك، ولذلك أرجع الباحث سبب غياب المعنى الحقيقي لمفهوم “أولي الأمر” في كتب التفاسير، إلى التناقض الموجود في الروايات المختلفة، وقال إن المعنى كان يأتي “ملبيًا لحاجة وهدف المفسر”، الأمر الذي أدى إلى غياب معنى محدد للآية القرآنية.

ومن بين النتائج التي توصل إليها الباحث في تفكيكه لمعنى “المنازعة”، أن المفسرين والفقهاء أهملوا معنى “المنازعة”، ولم يتطرقوا له بالقدر الكافي، وإذا تطرق له أحد منهم، تطرق إلى “المنازعة” في أمور الدين وأهمل “المنازعة” في أمور الدنيا، وهذا خطأ من وجهة نظر الباحث، والسبب في ذلك أنه لا يمكن وضع سقف للأمور المتنازع عليها بين المؤمنين [11]. أما النتائج المرتبطة بمفهوم الطاعة، فمن بينها أن الطاعة لا تعني الانقياد الأعمى للحكام دون إعمال العقل، وإنما تعني “الالتزام الأدبي والأخلاقي الكامل بالضوابط الاجتماعية التي تكفل سلامة المجتمع وأمنه واستقراره” [12].


  1. إسماعيل عبد الحافظ العبسي، تفكيك وإعادة بناء ما أغلقته تفاسير القرآن الكريم: دراسة سيميولوجية تحليلية، (دمشق: دار العراب للدراسات والنشر والترجمة 2018).

  2. انظر: العبسي، المرجع نفسه، 18.

  3. العبسي، المرجع نفسه، 16.

  4. العبسي، المرجع نفسه، 21.

  5. العبسي، المرجع نفسه، 38.

  6. العبسي، المرجع نفسه، 32.

  7. العبسي، المرجع نفسه، 70.

  8. سورة النحل الآية 71.

  9. سورة الأنعام الآية 98.

  10. العبسي، تفكيك وإعادة بناء ما أغلقته تفاسير القرآن الكريم، 74.

  11. انظر: العبسي، المرجع نفسه، 120-121.

  12. العبسي، المرجع نفسه، 123.