مع صعود الثورة التكنولوجية وتطور العلوم وانتشارها وما حققته هذه الطفرة في مجال الابتكارات، استطاعت دول عديدة التغلب على ندرة الموارد الطبيعية وعوامل الإنتاج التقليدية عن طريق خلق ثروة بشرية قادرة على سد هذه الفجوة والتغلب على هذا المشكل ، وتمتاز هذه الثروة البشرية بالقدرة على الإنتاج والابداع ضمن مجال اقتصادي جديد عرف بـ اقتصاد المعرفة.
وهو مجال اقتصادي لا يقل شأنا ولا أهمية عن الاقتصاد التقليدي ،بل يعتبر أكثر قدرة على التغلب على المشاكل التي تسببها ندرة الموارد وأكثر فاعلية وتماشيا مع الواقع العالمي الجديد ، فالمعرفة ثروة دائمة تتطور بتطور العقل البشري، ثروة لا تنضب ما دام العقل البشري قادرا على التطوير والابتكار والإكتشاف.
والاقتصاد المعرفي هو اقتصاد يعتمد بشكل كبيرعلى الأنشطة العلمية المكثفة لخلق إنتاج معرفي يحقق فوائد اقتصادية ويعتمد هذا الاقتصاد على الابتكار ، التعليم و التدريب. تركز في هذه المقالة على اقتصاد المعرفة وما يتميز به من خصائص و هل يكون بديلا عن الاقتصاد التقليدي.
ركائز اقتصاد المعرفة
حسب تقرير لـ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD)) فإن الاقتصاد المعرفي يرتكز على مجموعة من القطاعات الهامة التي تشكل الحجز الأساس لهذا الاقتصاد هذه القطاعات هي: الصناعة التكنولوجية وتشمل (تقنيات الكمبيوتر، الصناعات الإلكترونية ، هندسة صناعة الطائرات) ، قطاع الخدمات ويشمل (التعليم، الرعاية الصحية ، برامج التصميم ) ، قطاع الأعمال ويشمل (شركات التأمين ، هندسة المعلومات، هندسة الاتصال)، تطوير هذه القطاعات هي الخطوة الأولى نحو الاندماج في الاقتصاد المعرفي الذي يوفر خيارات جديدة للدول لتحقيق المزيد من التنمية الاقتصادية.
الدول التى تبنت هذه الاستراتيجية قامت بخطط مدروسة لتطوير قطاعات التكنولوجيا والتعليم ودعم برامج التدريب والتكوين لتخلق بذلك قيمة إضافية في اقتصادها هذه القيمة المضافة تتمثل في رأس مال بشري قادر على خلق ابتكارات وتطوير صناعات تساهم بشكل كبير في الاقتصاد .
مميزات اقتصاد المعرفة
يتمز هذا النوع من الاقتصاد بمميزات تختلف في مجلمها عن الاقتصاد التقليدي ،هذه المميزات يعتبرها خبراء الاقتصاد ذات أهمية كبيرة استطاع من خلالها هذا الاقتصاد أن يوفر حلولا لمجموعة من المشاكل التى تعاني منها اقتصادات معظم الدول اليوم وفي طليعتها مشكل “الندرة”. في ورقة له حول اقتصاد المعرفة لخص الدكتور Ian Brinkley مدير البرامج الاقتصادية والاجتماعية بمركز البحث المعروف بـ The Work Foundation بعض مميزات اقتصاد المعرفة في مايلي:
– التحول الجوهري في أولويات الاستثمار نحو التركيز على العلوم والمعارف والبحث والتطوير لخلق منتجات جديدة كبرامج الكمبيونر ، وبرامج التصميم.
– يعتبر رأس المال البشري أحد أهم ميزات اقتصاد المعرفة في مواجهة التنافسية
– استخدام التقنيات التكنلوجية العالية في قطاع الصناعات وقطاع الخدمات العامة والخاصة
– دعم البرامج التعليمية وبرامج التدريب المكثف
هذه المميزات جعلت من اقتصاد المعرفة أحد الخيارات البديلة عن الاقتصاد التقليدي وهذا الخيار فرض نفسه في ظل التطور التكنولوجي والعلمي في عالم اليوم، الكثير من الدول استطاعت من خلال تطبيق سياسات واستراتيجيات اقتصاد المعرفة من خلق حلول مبتكرة ساهمت في ازدهار هذه الدول وزادت من قوتها التنافسية على المستوى الإقليمي والدولي، ليس هذا فحسب بل شكل الخيار الجديد حلا لمشكلة ندرة الموارد الطبيعة ، فبعض الدول التى حققت نجاحات كبيرة في تبني اقتصاد المعرفة استطاعت أن تتغلب على مشكل ندرة الموارد الطبيعة.
تجربة سنغافورة
تبنت سنغافورة استراتيجية تطويرية نحو اقتصاد المعرفة بدأتها بعد الأزمة المالية الآسيوية 1996 ، وسبب تبني سنغافورة لهذا الاقتصاد الجديد هو كونها دولة صغيرة تعاني من نقص في الموارد الطبيعية لذلك وجدت في اقتصاد المعرفة ضالتها واستطاعت عبر سنوات من الممارسة والتطبيق تصدر اقتصادات الدول الآسيوية وذلك من خلال تكوين رأس مال بشري متخصص استطاع تقديم اختراعات طورت قطاع التصنيع وزادت من قوته الانتاجية والتنافسية.
من الخطط التى تبنتها سنغافورة في هذا المجال ما عرف”The Global School House” وهي خطة لتطوير الجامعات والمؤسسات التعليمة وجعلها قادرة على استقطاب آلاف الطلاب حول العالم ، وقد حققت هذه السياسة عائدات ضخمة لميزانية الدولة حيث وصل عدد الطلاب الأجانب في الجامعات الخاصة والحكومية 150,000 طالب يدرسون مختلف التخصصات.
هذه السياسة قامت على تحديث وتطوير في المناهج التعليمية وخطط البحث العلمي كما فتحت الدولة المجال للجامعات الأجنبية ومراكز البحوث الراغبة في فتح فروع لها في الدولة ونجحت الحكومة من خلال هذه السياسة التي هي جزء من استراتيجيتها في خلق منظومة تعليمية قوية ساهمت في تطوير قطاع الابتكارات وتكوين القدرات البشرية القادرة على خلق قيمة مضافة اقتصادية بدون الاعتماد على عوامل الانتاج التقليدية.
من خلال استراتيجية اقتصاد المعرفة صنعت سنغافورة لنفسها مكانا متقدما في الدول المصدرة في آسيا والعالم ، فخلال الفترة من يناير – أغسطس 2018 وصلت قيمة صادرات سنغافورة 273.3 مليار دولار وتشمل أغلب هذه الصادرات المواد التى تعتمد في صناعتها على العقل البشري المدرب والمكون وعلى المعرفة التراكمية أو ما يعرف في اقتصاد المعرفة ب”Knowledge Intensive”.
دول عديدة حققت الازدهار والنماء من خلال تبنيها للاقتصاد المعرفي ،واستطاعت هذه الدول من خلال دعم قطاع التعليم والبحث العلمي من تحقيق طفرة اقتصادية مدعومة بابتكارات متطورة شملت مختلف ميادين التكنولوجيا ، الطفرة الجديدة حولت هذه الدول من اقتصادات تقليدية تعتمد على وسائل الإنتاج البدائية إلى اقتصادات تعتمد على المعرفة والابتكار في عملية الإنتاج.