لا تختلف الأنظمة الاقتصادية عموما في أهمية العمل الدنيوي ووجوبه ، لا فرق في ذلك بين النظام الإسلامي وغيره، كما لا فرق في وجوبه وأهميته في حق الفرد، وفي حق الأمة جميعا.
غير أن هذا ليس معناه أنه لا توجد فروق بين المنظور الإسلامي للعمل، والمنظور الوضعي من اشتراكي ورأسمالي، فالواقع أن العمل في الاقتصاد الإسلامي يمتاز عن نظرة الأنظمة الأخرى له، ومن هذه الامتيازات :
1- حجم القوة العاملة
تحدد الأنظمة الوضعية سنًّا لعمل الفرد، لا يتجاوزه بدءًا وانتهاءً، فلا يُسمح للأطفال بالعمل في ظل هذه الأنظمة، كما لا يُضمن العمل بعد سن التقاعد للشخص الذي يصل إلى حوالي 60 عامًا. وذلك معناه أن القوة العاملة في دولة ما ، ليست هي مقدار القدرة العاملة، فليس كل قادر على العمل من حقه أن يعمل.
وأما النظام الإسلامي، فحجم القوة العاملة فيه يتكون من جميع القادرين على العمل بغض النظر عن العمر؛ فالفرد في ظل هذا النظام الإسلامي مكلف بالعمل متى كان قادرا عليه حتى آخر لحظة في حياته.
ومن الإضاءات النبوية في ذلك ما رواه ابن أبي شيبة : “كان سويد بن غفلة يؤمنا فيقوم بنا في شهر رمضان وهو ابن عشرين ومائة سنة »([1]) فمن إضاءات هذا الأثر أنه لا تقاعد في الإسلام ، وأن الحركة والعمل دائمة حتى الموت ما لم يمنع منها عجز بمرض ونحوه.
2- العمل والرغبة
كما لم يقيِّد الإسلام العمل بالعمر، كذلك لم يقيِّده بالرغبة والاختيار، فلا يشترط في العامل أن يكون راغبًا في العمل، أو باحثًا عنه؛ فالعمل في الإسلام عبادة وواجب ، وليس متروكا للرغبة والاختيار.
فواجب على الإنسان أن يعمل ليؤمن لنفسه ضرورات الحياة، كما عليه أن يعمل ليكفي من يعول؛ ففي الحديث أن رسول الله ﷺ قال : «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت»([2]) .
فإذا رفض الفردُ العملَ، وجلس يتكفف الناس، منع الإسلامُ الناسَ أن يعطوه، ففي الحديث أن رسول الله ﷺ: “إن المسألة لا تصلُح إلا لثلاثة: لذي فقر مُدْقِع، وذي غُرْم مُفْظِع، وذي دمٍ مُوجِع” ([3])
وهذه النظرة من شأنها أن توسع قاعدة حجم القوة العاملة أيضًا، بخلاف مثيلاتها في سائر الأنظمة الوضعية؛ حيث إن غير الراغب في العمل أو غير الباحث لا يدخل في حجم القوة العاملة عند هذه الأنظمة.
3- طبيعة العمل
مما يجعل حجم القوة العاملة أكبر في الإسلام من غيره، نظرته إلى طبيعة العمل، فالأنظمة الوضعية لا تسمي العمل عملا إلا إذا كان له عائد مادي، وبناء عليه، فالنساء اللواتي يقمن بتربية أولادهن، ورعايتهم، ويُقعدهم ذلك عن التكسب خارج البيت، فهؤلاء النساء في نظر هذه الأنظمة غير عاملات.
لكنهن لسن كذلك في نظر الإسلام ، فلسن متبطلات، بل عاملات، يقمن بأعمال جليلة مقدرة ومثمنة.
وإذا أهملت الأم أو الزوجة في هذا الواجب، كلَّفت الأسرة أموالا طائلة لتعويض دورها في صورة عاملة أو مربية أو مدرسة أو جليسة ونحو ذلك.
4- بين الحق والواجب
يعتبر الإسلام العمل واجبًا على الفرد، وحقًّا له على الدولة، فواجب على الدولة أن تهيئ لأفرادها فرصًا للعمل، وقد استدل المنظرون للاقتصاد الإسلامي على وجوب ذلك على الدولة بالآتي :
1-يقول الرسول ﷺ : ” “: كلكم راع فمسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”([4])
فرعاية الفرد حق له على الدولة، وواجب عليها، ومن هذه الرعاية مسئوليتها عن توفير العمل لكل من عجز عن توفيره بنفسه بشتى الطرق ومختلف الأساليب، من تدريب للعمال، وتأهيلهم للفرص المتاحة، وتوجيههم للمجالات التي ربما يجهلونها، أو إعانتهم على مجالات يتهيبون من ولوجها.([5])
2-ومما يدل على ذلك من فعله ﷺ :
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رجلا من الأنصار «أتى النبي – ﷺ- يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء.
قال: ائتني بهما فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله – ﷺ- بيده، وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذها بدرهم، قال رسول الله – ﷺ-: من يزيد على درهم؟ – مرتين أو ثلاثا – قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: “اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما، فائتني به” ففعل.
فأخذه رسول الله ﷺ، فشد فيه عودا بيده وقال: “اذهب فاحتطب ولا أراك خمسة عشر يوما”.
فجعل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فقال: “اشتر ببعضها طعاما وببعضها ثوبا”، ثم قال: فهذا خير لك من أن تجيء والمسألة نكتة في وجهك يوم القيامة.([6])
ففي هذه الواقعة يتبين أن النبي ﷺ أرشد الرجل إلى فرصة عمل كان يجهلها ، واختار له فرصة تناسبه، وهيأ له أسباب العمل بها، فأعطاه ما يشتري به أدوات العمل ، ثم تابع ﷺ مسيرته في العمل ، فطلب أن يراه بعد فترة ليرى مدى نجاحه في هذا العمل، فإذا نجح أقره وباركه، وإذا ثبت أن هذه الفرصة لا تلائمه أبدله غيرها.([7])
3-تحريم طلب الصدقة على القادر على الكسب، فإذا كان الإسلام حرم عليه الصدقة، فمقتضى ذلك أنه ألزمه بالتكسب، فإذا تمكن بنفسه أن يجد فرصة للتكسب ، وإلا وجب على الدولة أن تعينه على ذلك حتى لا تتركه بين شرين : أن يتكفف الناس، أو أن يموت جوعا؛ فإن معنى إغلاق هذين المسارين في وجهه وتحريمهما عليه، معناه أنه مطالب أن يبحث عن مسار ثالث، فإذا بحث فعجز، وجب على الدولة إعانته.([8])
4-ومما يرشح وجوب ذلك على الدولة من هديه ﷺ مؤاخاته بين المهاجرين الفقراء وبين الأنصار الأغنياء، فلم تكن هذه المؤاخاة قائمة على الصدقة من الأغنياء على الفقراء، بقدر ما كانت تشاطرا في أدوات التكسب، وفرص العمل، وعناصر الإنتاج التي لا يتوصل بها إلى الإنتاج إلا من خلال العمل.
والنبي ﷺ إذ يقوم بهذه الوظيفة، فإنما يقوم بها باعتباره قائد ورئيس هذه الجماعة المؤمنة في تلك الدولة الوليدة، فهو المسئول عنهم ﷺ، وهذا ما فهمه الشوكاني([9]) من قوله ﷺ : ” «أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه» إذ ليس المقصود أن النبي ﷺ يرث من لا مال له إرثا شخصيا له ولعصبته ﷺ، ولكن المقصود أنه يرثه باعتباره رئيس الدولة، أي فإرثه لبيت مال المسلمين.
([1])مصنف ابن أبي شيبة (2/ 165)
([2]) – رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، رقم (996)
([3]) رواه أحمد، رقم (12278) مسند أحمد ط الرسالة، وقال محققوه : حسن لغيره (19/ 296)
([4])متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر، اللؤلؤ والمرجان (2/ 242)
([5]) الاقتصاد الإسلامي، د. يوسف إبراهيم يوسف، ص 107
([6]) رواه أبو داود (1641) ، وابن ماجه (2198) ، وأحمد، وانظر تخريجه في المسند (19/ 183)
([7])الاقتصاد الإسلامي، د. يوسف إبراهيم يوسف، ص 108
([8]) راجع : الاقتصاد الإسلامي، د. يوسف إبراهيم يوسف، ص 109
([9])نيل الأوطار (4/ 31)، دار الحديث، مصر.