عندما ذكر البلاغيون أن الاستعارة المرشحة أبلغ في المعنى، وأقوى من المجردة؛ وجدنا البيان القرآني يستعمل المجردة أبلغ ماتكون في مقامها الذي لايحل محلها غيرها في تأدية المعنى وعمقه، كما في قوله تعالى:( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [سورة النحل 112].
وهنا يعلم البيان المعجز البلغاء كيف تكون البلاغة!
إذ يستوقف البيان المعجز أساطين البيان!
ويشد انتباهم إلى دقة النظم والإحكام؛ بماهو مغاير للمتوقع في مألوف الكلام!
ذلك أنَّ الإذاقة يلائمها الطعم للجوع والخوف؛ فيرد الكلام على نحو: فأذاقها الله طعم الجوع والخوف
وأنَّ اللباس يلائمه لفظ الكساء؛ فيرد التعبير على نحو: فَكساهَا ٱللهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ.
لكنه البيان المحكم المدهش لأرباب البلاغة والبيان؛ إذ خرج عن المتوقع فكان (فَأَذَاقَهَا ٱللهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ)
وذلك ليعرج َ البيان الإلهي المعجز، فوق طاقات البشر البيانية في الدقة والإحكام!
إذ استعمل الإذاقة للدلالة على إحساس الألم إحساسا مكينا كتمكن ذوق الطعام في فم ذائقه.
واستعمل اللباس لبيان أن الجوع والخوف عم أثرهما جميع البدن عموم الملابس؛ فجمع بذلك بين تمكن الإحساس بالألم وعمومه.
ولا يمكن بحال تأدية هذا المعنى بغير ما استعمله بيان القرآن، فلو قيل ( فأذاقها الله طعم الجوع والخوف) أو ( فكساها الله لباس الجوع والخوف) لخفت بذلك بريق المعنى وانحسر نبع البيان وغار !