من المسائل التي تتعلق بأحاديث الآحاد وحجيتها، وخلاف العلماء حولها، ما تكلم فيه العلماء عن حجية أحاديث الآحاد في مسائل العقيدة، ولعل الخلاف في حجية حديث الواحد في المسائل الفقهية يكاد يكون معدوما، لكن الخلاف في حجيته في مسائل الاعتقاد أكثر، وإن كان الراجح أنه حجة في العقيدة كما أنه حجة في الفقه، لكن بشروط.
وبيان ذلك ما يلي:
موقف العلماء من حديث الآحاد في العقيدة
هناك نقاط اتفق العلماء فيها فيما يتعلق بخبر الواحد، كما أن هناك مسائل اختلفوا فيها فيما يختصّ بخبر الواحد أيضا، وأما ما اتفقوا عليه فهو كما يقول الدكتور دياب سليم:
“واتفق العلماء على ما يأتي:
1- أن خبر المعصوم يفيد العلم.
2 – إذا تلقت الأمة خبر الآحاد بالقبول فإن هذا الخبر يفيد العلم أيضًا.
3 – إذا أجمعتِ الأمة على أنها عملت بمقتضى خبر الآحاد، وأن الأمة استندت إليه في إجماعها أفاد هذا الخبر العلم، حيث إن الأمة لا تستند إليه إلا وقد صحّ عندهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة.
4 – خبر الواحد غير العدل لا يفيد العلم، …. هذا ما اتفقوا عليه”(1)
وقد اختلف العلماء في إثبات مسائل العقيدة بأحاديث الآحاد، ومردّ خلافهم في هذا، هل خبر الواحد يفيد العلم اليقيني أم لا؟
وقد نقل هذا الخلاف الإمام ابن حزم الأندلسي فقال: “اختلفوا في الواحد العدل إذا أخبر بخبر هل يفيد خبره العلم؟”(2)
وعلى هذا، فالعلماء في هذه المسألة ثلاث فرق:
الأولى: ترى أن خبر الواحد لا يفيد العلم مطلقا، وهو مذهب جمهور الأصوليين والمتكلمين، ومذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي ومحققي الحنابلة، وهو عندهم يفيد وجوب العمل، لكنه لا يفيد العلم، سواء بقرينة أم بغير قرينة.
ونقل هذا الرأي عن الإمام ابن عقيل وابن الجوزي، وعدد من أئمة الشافعية كالنووي وأبي بكر الباقلاني وأبي حامد الإسفراييني وابن برهان وفخر الدين الرازي والآمدي وإمام الحرمين وابن الحاجب والسبكي والبيضاوي وأبي الحسين البصري وهو الذي أيده شيخ الإسلام زكريا الأنصاري.(3)
الفرقة الثانية: وهي ترى أن حديث الواحد يفيد العلم مطلقا، وهو مذهب أحمد وداود الظاهري، والحارث المحاسبي، والكرابيسي، وجمهور المحدّثين، وهو منسوب لعامة السلف، وبه قال الشيخ أحمد شاكر والشيخ ناصر الدين الألباني وعامة الحنابلة في هذا العصر.
قال الشوكاني: “وقال أحمد بن حنبل: إن خبر الواحد يفيد بنفسه العلم وحكاه ابن حزم في “الإحكام” عن داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارث المحاسبي قال: وبه نقول، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك بن أنس، واختاره وأطال في تقريره، ونقل عن القفال أنه يوجب العلم الظاهر”(4)
وقال ابن الصلاح: “ما أسنده البخاري ومسلم: يفيد العلم اليقيني والنظري واقع به، خلافًا لمن نفى ذلك، محتجًا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظنّ، وإنما تلقته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظنّ والظنّ قد يخطئ”.
قال: وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويًا ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولاً هو الصحيح، لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ”(5)
وقال ابن قاضي الجبل:”مذهب الحنابلة: أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات، ذكره القاضي أبو يعلى في (مقدمة المحرر) والشيخ تقي الدين في عقيدته”(6)
الفرقة الثالثة: وهي ترى أنه يفيد العلم إذا احتفّ بالقرائن، كحديث الصحيحين، لتلقي الأمة لها بالقبول،وهو رأي ابن الصلاح وجماعة من متأخري الشافعية كالإسفرائيين:أبي إسحاق وأبي حامد، والقاضي أبي الطّيب، وأبي إسحاق الشيرازي، والسرخسي من الأحناف، والقاضي عبد الوهاب من المالكية، وأبي يعلى وأبي الخطاب وابن الزاغوني من الحنابلة، وأكثر أهل العلم من الأشاعرة كابن فورك، ومذهب السلف عامة أنهم يقطعون بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول.(7)
وقال الشوكاني: “الآحاد خبر لا يفيد بنفسه العلم، سواء كان لا يفيده أصلاً، أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه، فلا واسطة بين المتواتر والآحاد، هذا قول الجمهور”(8)
تعقيب:
وبعد سرد آراء العلماء في المسألة ، يتبين أن أحاديث الآحاد تفيد العلم إذا كانت هناك قرائن تحفه بشروط:
1- أن يكون مثبتا لعقائد فرعية ليست من أصول الدين، فلا يترتب عليها كفر أو إيمان.
2- أن تكون عقائد جاء القرآن بالحديث عنها إجمالا، وفصلها خبر الواحد.
3- ألا تكون مخالفة للعقل ولا الفطرة.
4- ألا تصادم شيئا من قواعد الدين المقرّرة.
وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين كالدكتور القرضاوي إلى محاولة التقريب بين الرفض والقبول، وأن الخلاف بين العلماء لم يحرر جيدا، فيقول:
“والذي أراه بعد البحث والتأمل أن محل النزاع بين الفريقين لم يحرر جيدا، ولو حرر جيدا لوجدنا الطرفين متفقين إلا من كابر وحاد عن الإنصاف، خصوصا بعد أن رجحنا طلب اليقين في أمور العقيدة، وأن حديث الآحاد بغير قرينة لا يفيد اليقين.” (9)
ويلاحظ أن الإمام ابن حزم –رحمه الله– نقل عن المذهب الأول، الذي يرى أن خبر الواحد يفيد العلم، أنه قسمان، فمنهم من يرى أن المقصود بالعلم هنا الظن، أو العلم الظنّي، وهو يقترب ممن يرى أن حديث الآحاد يفيد الظن، ولكن إن احتفّ بالقرائن أفاد الظن القريب من اليقين، وهو بهذا يؤخذ منه العقائد التي لا يترتب عليها كفر أو إيمان، أو ما كان له أصل من الأدلة الشرعية، أو القواعد الكلية للشريعة.
هذا، وإن اعتبرنا أن أحاديث الآحاد تفيد الظن القريب من اليقين، ارتفع كثير من الخلاف بين الفقهاء، وقبلنا أحاديث الآحاد في العقائد، ولكن ليست العقائد الكلية، لأن العقائد الكلية شأنها القطعيات، وأغلبها قد جاء في القرآن الكريم على وجه الإجمال، وتبقى السنة شارحة ومبينة لمثل هذه العقائد الكبرى، أو غيرها من العقائد التي تكون أقلّ منها مرتبة، ومن المعلوم أن مسائل العلم ليست سواء في الدرجة.
([1]) خبر الواحد ومدى حجيته، للدكتور دياب سليم ص 43-44 دار الهدى للطباعة، طبعة خاصة بالمؤلف .
([2] ) الإحكام في أدلة الأحكام ج2/ص: 48.
([3]) السنة النبوية مصدرا للمعرفة والحضارة، للدكتور يوسف القرضاوي ص: 91-93، وانظر تدريب الراوي شرح تقريب النواوي: جـ1 ص 132، شرح النووي على صحيح مسلم جـ1 ص 20، الإحكام للآمدي ص 41 المستصفى جـ1 من 142، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: جـ2 ص 123،دراسات حول القرآن والسنة، للدكتور شعبان محمد إسماعيل، ص:293-294.
([4]) إرشاد الفحول: ص 48، ط الحلبي، وانظر: السنة النبوية مصدرا للمعرفة والحضارة، للدكتور يوسف القرضاوي ص: 91-93.
([5] ) مقدمة ابن الصلاح: تحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن، ط دار الكتب، ص 14.
([6] ) المسودة لآل تيمية: ص 247، 248.
([7] ) انظر: السنة مصدرا للمعرفة والحضارة ص 91-93.
([8] ) إرشاد الفحول: ص 48، ط الحلبي.
([9] ) السنة مصدرا للمعرفة والحضارة :ص 94.