يعد فن الخط العربي فنا إسلاميا خالصا، فهو من صنيع الدين الإسلامي، وله ارتباطه الوثيق بكتابه الكريم، ولم يسبق للكلمة أن كانت فنا مرئيا في أمة من الأمم قبل فن الخط العربي في الحضارة الإسلامية. فكيف نشأ هذا الفن وكيف تطور حتى وصل إلى العالمية؟ وهل المكانة المتميزة للخط العربى فى حياة المسلمين ، وليدة الصدفة أم تولدت من ارتباطه بالدين الإسلامى، أم هناك دوافع أخرى؟
لقد كان تراث المسلمين رائعا في مجال الخط العربي، الأمر الذي جعله فنا مميزا للحضارة الإسلامية على امتداد عصورها، وفي كل بقعة من بقاع العالم الخط والكتابة في الحضارة الإسلامية.
ويعتبر الخط العربي أهم الفنون التي أبدعتها الحضارة العربية الإسلامية وأكثرها انتشاراً في بلاد العرب والمسلمين على السواء، إذ هو حاضر في أنواع العمائر كما في الأواني والأثاث والملابس، إنه ليس فناً ترفيهياً أو جمالياً عارياً عن الوظيفة، وإنما هو صناعة تثير في النفس أصدق مشاعر التوقير والإجلال ويشعر المسلم بأنه عضو في الأمة الإسلامية، إذ هو قبل كل شيء أداة التعبير القرآني، وهو هندسة روحانية بآلةٍ جسدية تجمع بين تجريد المعنى ومادية الرسم، وتحيط الناظر بأطر جمالية معرفية تمزج المادي بالمجرد فيرى نفسه فيه ويعمل على تجاوز المادي بحثاً عن المجرد تمكيناً لإيمانه بالله العلي القدير وسعياً به إلى الرقي في درجات الكمال.
كيف يصبح للكلمة وظيفة مرئية
يقول الدكتور إسماعيل فاروقي، وهو واحد من أبرز المتخصصين بدراسة الإسلام في العالم: “لا نجد بين شعوب ما بين النهرين، والعبرانيون، والهندوكيون؛ ومثلهم الإغريق والرومان… بما في ذلك العرب أنفسهم- مَنْ حاول اكتشاف القيمة الجمالية للكلمة المرئيَّة… لكن ظهور الإسلام قد فتح آفاقًا جديدة أمام الكلمة كوسيلة للتعبير الفنِّيِّ. حقًّا إن العبقرية الإسلامية هنا لا تُضَارَعُ، إن هذا الخطَّ قد أصبح لونًا من ألوان الأرابيسك، يمكننا إذن أن نتصوَّرَه عملاً فنيًّا مستقلاًّ، إسلاميًّا خالصًا، بِغَضِّ النظر عن مضمونه الفكري”.
ويُؤَكِّد ذلك الدكتور مصطفى عبد الرحيم في مقال بصحيفة “الأنباء” الكويتية، فيقول: “إن الخطَّ العربي هو الفنُّ الوحيد الذي نشأ عربيًّا خالصًا، صافيًّا نقيًّا، ولم يتأثَّر بمؤَثِّرَات أخرى… ويقول بعض المستشرقين: إذا أردتَ أن تدرس الفنَّ الإسلامي، فعليك أن تتَّجِهَ مباشرة إلى فنِّ الخطِّ العربي”.
ويقول د. راغب السرجاني في دراسة له عن الخط العربي، أن المصادر العربية، كالعقد الفريد، وخلاصة الأثر، والبداية والنهاية، والكامل، والفهرست، وصبح الأعشى، وغيرها..قد أجمعت بأن الخطَّ العربي لم يَنَلْ عند أُمَّة من الأمم ذوات الحضارة ما ناله عند المسلمين، من العناية به، والتفنُّنِ فيه.
فخلال مُدَّةٍ وجيزة استطاع الفنان المسلم أن يجعل للكلمة وظيفة أخرى مرئية، إضافة إلى وظيفتها المسموعة، وما أن وَلَجَتِ الكلمة هذا الميدان الجمالي حتى بدأ التطوُّر يسير بها في خطوات حثيثة، واكبت خطوات فنِّ الزخرفة، بل تَقَدَّمَتْهَا، وكان بين الفَنَّيْنِ تعاونٌ وثيق.
الخط العربي..أنواع وتفرعات
وكمثال على عناية المسلمين بالخط العربي والتفنُّن فيه، تعددت أنواعه وكثرت، فمنه الخط الكوفي و الخط النسخي و خط الثلث و الخط الأندلسي و خط الرقعة و الخط الديواني و خط التعليق (الفارسي) و خط الإجازة. وقد تفرَّع عن هذه الخطوط فروعٌ أخرى جعلتْ هذا الفنَّ ثريًّا قادرًا على العطاء، يحمل إمكانية التكيُّف، ليُؤَدِّيَ دوره في كل الأحوال والمناسبات، فقد تفرَّع عن الكوفي مثلاً: الكوفي المورق والكوفي المزهر والكوفي المنحصر والكوفي المعشق أو المظفر أو الموشح، كما تفرَّع عن الخط الديواني: جلي الديواني، وتفرَّع عن خط الثلث: جلي الثلث، وغير ذلك من التفرعات في مسارات الخط العربي الطويلة والكثيرة.
لكن إن أشهر أنواع الخطوط العربية المعروفة والمتداولة اليوم ستة، وهي: الكوفي ـ والثلث ـ والنسخ ـ والفارسي ـ والرقعة ـ والديواني.
يضاف إليها نوعان آخران هما: الديواني الجلي وهو نفس الخط الديواني مضافاً إليه الشكل. وخط الإجازة وهو مزيج من خطي الثلث والنسخ، وسمي كذلك لأن الأساتذة الخطاطين كانوا يكتبون به “الإجازة” أي الشهادة لتلاميذهم حتى يكون لهم حق ممارسة الكتابة.
وقد تميز كل خط وعُرف بأسماء الأقطار التي دخله الإسلام فكان: الخط الفارسي، والعراقي، والمصري، والمغربي، والأندلسي، ولكل منها سمات لا تكون في الآخر، لأنه اكتسب في كل من هذه البلاد خصائص محلية تميز بها.
ـ النوع الأول: خط الثلث، إذ يمال ثلث الحرف.
ـ النوع الثاني: خط النسخ، لنسخ المخطوطات أو محوها، وقد انتشر منذ القرن التاسع الهجري/الثالث عشر الميلادي بانتشار محل الرق والجلد.
ـ النوع الثالث: خط المحقق، أي الجلي المرسوم بعناية ورشاقة وشموخ وهو أقل ميلانأً من الخط الكوفي وأكثر ابتعاداً واتساعاً.
ـ النوع الرابع: خط الريحاني، وهو شبيه بالثلثي ولكنه أكثر تداخلاً واندماجاً.
ـ النوع الخامس: خط التوقيع، وهو أشد تلاحماً وتماسكاً، وقريب من الثلثي وربما اشتق عنه أو عن الخط الرياسي (أي الوزاري) الذي كان مستعملاً في إبان حركة الترجمة الأولى في أواخر عهد الأمويين وفي عصر العباسيين وبأدناه إحدى الإشارات للطرق التي شُقت في فلسطين آنذاك قبل إدخال نظام التنقيط لطريق عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين.
ـ النوع السادس: خط الرقعة، الذي لا علاقة له بخط الرقاع القديم وهو الآن الخط اليدوي الأكثر استعمالاً، إن سر إجادة خط الرقعة هو إتقان الحروف الأربعة في كلمة (نابع) واستخراج بقية الحروف على أصولها وقياساتها، ومراعاة تناسقها ومواقعها فوق السطر أو تحته
إبداع الفنان المسلم
قد عمد الفنان المسلم في بعض الأحيان إلى إدخال أكثر من خطٍّ في اللوحة الواحدة، ممَّا أضفى على عطائه بهاءً وروعة، ودفع هذا الفنَّ إلى التقدُّم والإبداع، وكانت المنافسة فيه استكمالاً وتحسينًا، بدافع الوصول إلى غاية الجمال.
ولم يقف الفنان المسلم في فنِّ الخطِّ عند حدود الحرف وتحسينه، بل قطع شوطًا آخر، إذ جعل الحرف نفسه مادَّة زخرفية، فتحوَّلَتْ لوحاتُ الخطِّ إلى لوحات جمالية زخرفية، وإنك لَتَعْجَب من قُدْرَةِ الفنان المسلم على التحكُّم في اللوحة؛ إذ استطاع أن يُحَمِّلَ الحرفَ مهمَّتَيْنِ في آنٍ واحد، المهمَّة التعبيريَّة والمهمَّة الزخرفيَّة، ثم جعل من المهمَّة الثانية جلبابًا للمهمَّة الأولى.
ولم يكتفِ الفنان المسلم بما توصَّل إليه في فنِّ الخطِّ من الإبداع الذي بلغ الذروة، بل اتَّجَه بالحرف إلى آفاقٍ جديدة؛ حيث أصبح الحرفُ أداة لفنٍّ تشكيليٍّ، ومادَّةً فعَّالةً أثبتتْ قُدْرَتها على العطاء، فما أن تَقَعَ العينُ على اللوحة حتى تَجِدَ نفسها -للوهلة الأُولَى- أمام رسم تشخيصيٍّ لهيئة ما (طائر – حيوان – فاكهة – قِنديل)، فإذا ما تفحَّصَتْهُ وجدَتْ أنَّ التشكيل لم يَكُنْ غير كلمات وأحرف عربية أبدع الفنان إخراجها، وغالبًا ما يكون معناها وثيقَ الصلة بالشكل الظاهر، وهنا يكمن الإبداع.
هكذا كان تراث المسلمين رائعًا في مجال الخط العربي، الأمر الذي جعله فنًّا مميِّزًا للحضارة الإسلامية على امتداد عصورها، وفي كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي.
الخط العربي منذ آدم عليه السلام
يقول د.محمد النعسان في دراسة له حول “تطور الخط العربي وعالميته”: “إن الخط العربي نزل توقيفياً من الله تعالى، ويستندون في ذلك إلى بعض الآيات القرآنية الكريمة، قال تعالى: “وعلمَ آدمَ الأسماءَ كُلهَا ..” (سورة البقرة/31). وإنه نزل مع سائر الكتابات على آدم عليه السلام، وقد كتبها آدم عليه السلام على الطين وطبخه وذلك قبل وفاته بثلاثمائة عام، فلما أصاب الأرض الطوفان، سلم، فوجد كل قوم كتابتهم فكتبوا بها.
وقيل إن النبي إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم بعد آدم عليه السلام عندما بدأت فيه النبوة. وقيل إن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من وضع الكتابة العربية.
الخط العربي في القرآن الكريم والحديث
حظي الخط العربي بأهمية كبيرة في الحضارة العربية الإسلامية وظهرت الحاجة إليه منذ بداية النهوض الحضاري الذي شهدته الأمة العربية في صدر الإسلام. وليس من قبيل المصادفة البحتة أن يكون ذكر القلم والكتابة في أول أيات تنزل من القرآن الكريم على قلب النبي ﷺ، فقد قال الله تعالى:﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ • الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: 3، 4] وأقسم سبحانه وتعالى بالقلم فقال: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: 1]، وأقسم بالكتاب ﴿وَالطُّورِ • وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور: 1
وتعود أهمية صورة الحرف العربي إلى ارتباطها بكتابة القرآن الكريم الذي انتشر بانتشار الدين الإسلامي، ويؤكد ذلك “أرنست كونل” في كتابه “فن الخط العربي” فيقول: “لقد منح العرب الدين الإسلامي اللغة والخط، وانتشر الخط العربي في الدين الإسلامي فأصبح رابطاً لجميع الشعوب العربية، رغم الحدود الحاجزة”.
تطور الخط العربي
وقد تواصلت الجهود العربيَّة في الحضارة الإسلاميَّة في تحسين الخطوط وتليين حروفها وابتكار أنواعها وتيسيير تنفيذها، حتى انتمت الكتابة إلى مراكز الدولة في العهدين الأموي والعباسي؛ لاهتمام الأمراء بالتدوين والخطَّاطين، وكان الخطُّ العربي ذا تأثيراتٍ عديدةٍ في شتَّى ميادين الآداب والفنون والعلوم.
ولا يوجد في العالم الآن خط يماثل الخط العربي في تراثه الذي يشعرك بأنك لم تغادر موطنك، سواء اتجهت إلى دمشق أو بغداد أو القاهرة أو إستانبول أو تونس أو قرطبة، أم اتجهت إلى شبه القارة الهندية أو اندونيسيا أو غيرها. وقد انطلق المسلمون الأوائل يفتحون البلاد والأمصار وينشرون الدين الإسلامي الحنيف في كل بقاع الأرض ومعهم لغتهم العربية التي استطاعت أن تمحو كثيراً من اللغات وتحل محلها وتصبح هي اللغة التي يستخدمها أهل البلاد الأصليون، وقد استطاعت بعض اللغات الصمود والاستمرار، ولكن الخط العربي أصبح الخط الذي تكتب به هذه اللغات، فكتب به الإيرانيون لغتهم الفارسية كما كتب به السلاجقة والعثمانيون لغتهم التركية.
وتطور شكل الحرف الجمالي بسرعة بعد أن أضيف إليه الإعراب والرقش. وقد روى النديم في كتابه الفهرست أن: “أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان (وبولان قبيلة من طي) سكنوا منطقة الأنبار، وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة، وهم: مرامرة بن مرة، وأسلمة بن سدرة، وعامر بن جدرة،، فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام”، ثم نقل هذا العلم إلى مكة المكرمة وتعلمه من تعلمه. ثم اتخذ الخط بعد ذلك أساليباً بعضها تزييني صرف والآخر قاعدي، وأول الخطوط التزيينية كان الخط الكوفي، ومنه المضلع الهندسي والمشجر والمضفر، وهناك خطوط زخرفية أخرى كالطغرائي والديواني والفارسي أيضاَ، أما الأسلوب القاعدي فهو مزيج من الخط الكوفي والحجازي. وظهر بعد ذلك قلم الطومار والثلث والثلثين والنصف ثم الرقعي.
وقد تم ظهور الخط النسخي على يد الوزير ابن مقلة وأخيه الحسن، وفي المغرب حافظ الحرف على شكله الحجازي القديم كما ابتكر العثمانيون الخط الهمايوني.
وقد اهتم الإيرانيون بكتابة الخط العربي، وقد تفننوا في كتابته وأصبح خطهم المميز الذي نسميه “الفارسي” نسبة إليهم. كما برع الأتراك في كتابة الخط العربي وركزوا جهودهم في إجادة خطي النسخ والثلث، وبلغ الخط العربي في عهد العثمانيين ذروة الكمال والجمال. وخلف لنا الخطاطون الأتراك آثاراً خطية بالغة الروعة، وتدل على مدى تفوقهم وتربعهم على عرش هذا الفن، واحتل الخطاط مكانة بارزة في بلاد السلاطين العثمانيين، وبلغ من شدة ولعهم بالخط أن بعض سلاطينهم تعلموا فن الخط على يد أساتذته الكبار وكان منهم خطاطون متفوقون كالسلطان محمود خان الذي تتلمذ على الخطاط مصطفى راقم، والسلطان عبد الحميد الثاني الذي تتلمذ على يد الخطاط عزت ونال منه “إجازة” شهادة. كما اخترع العثمانيون خطوطاً جديدة، وهي: الديواني والديواني الجلي والرقعة.
الخط والرسم بين التحريم والتحليل
ما هو السر وراء اتجاه الفنان المسلم إلى الخط العربي يخترع منه أشكالاً متعددة ويستمر في تطويره وإتقانه وإجادته حتى يصل إلى هذه الدرجة من الكمال؟
والجواب: هو أن السر يكمن في بعض أحكام الإسلام التي تتعلق بتحريم الصور والتماثيل فانصرف المسلمون عن تزيين بيوتهم ومساجدهم باللوحات المصورة فاتجه الفنان العربي المسلم إلى الخط العربي يفرغ فيه طاقاته الإبداعية ويتخذ منه مادته للتصوير والتشكيل مستغلاً إمكانيات الحرف العربي من رشاقة وانسياب لعمل لوحات غاية في الجمال والروعة، هذه اللوحات الجميلة كانت تحمل إلى جانب جمال المظهر ومتعة العين سمو المعنى وروعة الحكمة وترتفع بالإنسان إلى أعلى درجات المتعة الروحية.
وقد طوع الفنان المسلم بعض الجمل والآيات القرآنية في تصوير أشكال كثيرة كالنبات والحيوان والآلات. فالبسملة يمكن أن تكون على شكل طائر، وجملة “لا إله إلا الله” تؤلف منظراً مكوناً من مآذن وقباب.
وقد اكتسب الخط العربي مكانة لارتباطه بالقرآن الكريم فأبدع الخطاطون وتفننوا في كتابة المصاحف وزخرفتها وكتابة الآيات القرآنية الكريمة، وعنوا عناية خاصة بكتابة “البسملة” بسم الله الرحمن الرحيم في صور رائعة متعددة. وكان حافزهم الأول في هذا الإبداع هو إيمانهم، فهي آية من آيات القرآن الكريم تستفتح بها كل سورة من سوره، ثم إن لها تأثيراً مباشراً في سلوك المسلم اليومي فهو يرددها في كل مناسبة وعندما يباشر أعماله أو يتناول طعامه وشرابه، ويكتبها في مطلع كتبه ورسائله وعقود بيعه وشرائه، فهو يستبشر بها ويتفاءل. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف “كل عمل لا يبدأ بسم الله فهو أبتر” أي مقطوع الخير والبركة.
لغات عالمية بحرف عربي
استطاع الخط العربي في رحلته الطويلة أن ينتشر في كثير من بقاع المعمورة، فقد تلألأ في الجزيرة العربية، وتألقت زهوره في الشام، وملأت عطوره العراق، وفارس والسند وخراسان، واستطاع أن يتغلغل إلى بلاد أرمينية، والقوقاز، وآسيا الصغرى، وأفريقيا والمغرب العربي والسودان، والأندلس وجنوب فرنسة وصقلية، منتشراً كأنه جيش من العلماء الداعين لانتشار الحضارة، واضعاً آثاره الواضحة على كل مظاهر الحياة والناس.
لقد استطاع الخط العربي في رحلته الطويلة، أن يحل مكان خطوط كثيرة، كانت موجودة في عدد من الأمصار، وأن يسيطر عليها، إما بالتغيير، أو بإلغائها تماماً، كما سادت لغة العرب على لغات محلية سابقة لها. فمن إقليم لآخر، كان الشكل الواحد من الخط العربي يأخذ أشكالاً مختلفة، دون أن تنفصل هذه الأشكال الجديدة على الشكل الأساسي الأصل. فمثلاً، نجد الخط الكوفي الأندلسي، يختلف قليلاً عن الخط الكوفي القيرواني، كما أن هذين الخطين يختلفان عن الخط الكوفي نفسه الذي انتشر في دمشق وبغداد والقوقاز.
من البلدان التي تكتب أحرف لغاتها بالرسم العربي: ماليزيا وجاوة ومدغشقر وإيران وأفغانستان والهند وباكستان والمقاطعات الناطقة بالأردية في كشمير وجامو، التي كانت العربية أن تكون لغتها الرسمية حين الاستقلال. وظلت تركيا تستعمل الأبجدية العربية حتى مجيء مصطفى كمال الذي أرغم الأتراك على استعمال الأبجدية اللاتينية، علماً بان الحروف اللاتينية لم تف بالمتطلبات الصوتية، وقد اضطرهم ذلك إلى تعديلها بمزيد من التنقيط والأحرف غير الضرورية.
واستعملت روسيا الأبجدية العربية طويلاً، وتحولت هي الأخرى على اللاتينية ثم عدلت عنها إلى السلافية. واستعملت إسبانية والعبرية الأبجدية العربية وأفادتا منها كثيراً ولاسيما في الأندلس.
ونجد اللغة العربية منتشرة أيضاً في أطراف السنغال وأقاليم من الصومال ونيجيريا وكينيا وليبيريا والحبشة وإريتريا وزنجبار وقازان والقرم وداغستان وتركستان وكرجستان وخوارزم والقوقاز وجيبوتي وأذربيجان وروسيا البيضاء ومالطة وسيام والفلبين والصين.
عالمية الخط العربي
يتمتع الخط العربي بإمكانيات تشكيلية لا نهائية، فحروفه مطاوعة للعقل وليد الخطاط الحاذق إلى أبعد الحدود لما تتميز به من المد والقصر والاتكاء والأرداف والإرسال والقطع والرجوع والجمع مما لا يتوفر في أي من الخطوط في اللغات الأخرى.
وهو فن يجمع بين الليونة والصلابة في تناغم مذهل، وتتجلى فيه قوة القلم وجودة المداد المستمدة من النفحات الروحانية التي تهيمن على الخطاط المبدع في لحظة إبداع فلسفي لا تكرر نفسها. فمن ساحة الفكر المخزون يقفز نص جذاب أو حكمة مأثورة أو آية قرآنية كريمة يرافقه تخيل مبدئي لنوع الخط الذي ينبغي أن يكتب به، ومع إعمال الفكر وحث القريحة تبدأ ملامح التكوين الخطي تظهر رويداً رويداً للروح، ثم للعين، ثم تنفذ اليد الإبداع الحقيقي.
وتمتاز الحروف العربية بأنها تكتب متصلة أكثر الأحيان، وهذا يعطي للحروف إمكانيات تشكيلية كبيرة، دون أن تخرج عن هيكلها الأساسي. كل ذلك يعطي للكتابة العربية تفرداً في جمالها بين الكتابات العالمية وهذا ما جعلها تدخل في صميم الفنون التشكيلية قديماً وحديثاً.
وقد انبرى المستشرق “ريتر” أستاذ اللغات الشرقية في جامعة إستانبول في العهدين العثماني والكمالي يدافع عن الكتابة العربية وأخذ يسفه رأي من استبدل الحروف اللاتينية بها، فقد روى بقوله: “أن اللغة العربية أسهل لغات العالم وأوضحها، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح. إن الطلبة قبل الانقلاب الأخير في تركيا كانوا يكتبون ما أمليه عليهم من المحاضرات بالحروف العربية، وبالسرعة التي اعتادوا عليها ـ لأن الكتابة العربية مختزلة من نفسها ـ أما اليوم فإن الطلاب يكتبون ما أمليه عليهم بالحروف اللاتينية، ولذلك فهم لا يفتأون يطلبون إلي أن أعيد على مسامعهم العبارات مراراً، إنهم معذورون ولا شك في ما يطلبون، لأن الكتابة اللاتينية (معقدة) لا اختزال فيها، والكتابة العربية واضحة كل الوضوح، فإذا ما فتحت أي خطاب فلن تجد صعوبة في قراءة أردأ خط به، وهذه هي طبيعة الكتابة العربية التي تتسم بالسهولة والوضوح”.
ويقول المستشرق “باريت”: “وإن الخطاط ليتحكم في الأحرف التي يكتبها تماماً كما يتحكم الموسيقى في أحاسيسه وهو يصوغ نغماً بذاته”.
هذا من الناحية الاختزالية، أما من الناحية الجمالية فهناك إجماع على تفوق الخط العربي واحتلاله مركز الصدارة بين خطوط العالم، ويروي لنا التاريخ أن الخليفة العباسي الواثق بالله أنفذ ابن الترجمان بهدايا إلى ملك الروم فرآهم قد علقوا على باب كنيستهم كتباً بالعربية فسأل عنها فقيل له: هذه كتب المأمون بخط أحمد بن أبي خلد وقد استحسنوا صورتها فعلقوها.
وذكر الصولي في كتابه “أدب الكاتب” أن سليمان بن وهب كتب كتاباً إلى ملك الروم في أيام الخليفة العباسي المعتمد فقال ملك الروم: “ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل، وما أحسدُهم على شيء حسدي على جمال حروفهم”، وكان ملك الروم لا يقرأ الخط العربي وإنما راقه باعتداله وهندسته.
ويقول الخليفة العباسي المأمون: “لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثالها لفاخرناها بما لنا من أنواع الخط، يقرأ في كل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد في كل زمان”.
إن الحروف العربية قد خدمها علماء العرب المسلمين خدمة جليلة بحيث لا يتطرق إليها خلل، ولا يطرأ عليها تغيير، فعلماء القراءات الأجلاء لم يكتفوا بقراءة القرآن الكريم الذي هو بلسان عربي بمجرد النظر إلى صور الحروف التي هي عربية أيضاً، وإنما وضعوا لقراءتها قواعد تحفظ اللسان من الخطأ في نطق الحروف وألقابها وصفاتها وما يفخم منها، وما يرقق، وما يدغم.
أثر الخط العربي في الفنون الغربية
ولقد ظهر تأثير الخط العربي في أوربا منذ القرن الثامن الميلادي وانتشر في أماكن كثيرة منها، وبخاصة في صقلية وإيطاليا وأسبانيا وغرب فرنسة، ويبدو واضحاً في قطعة من العملة الذهبية باسم الملك “أوقا” (757ـ796م) ملك مرسية وهي تشتمل على كتابة نصها: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له”.
وأيضاً يبدو في ربع دينار باسم الملك “غليالم” (1154ـ1166م) ملك صقلية جاء على وجهه كتابة بالخط الكوفي نصها: “الملك غليالم المستعين بالله”، وبمتحف القصر في مدينة فيينا بالنمس توجد عباءة تتويج “روجر الثاني” (1130ـ1154م) ملك صقلية ويزين حافتها شريط من الخط الكوفي.
ويعد الفنان “جيوتو” (1276ـ1337م) من أوائل الفنانين الأوروبيين الذين استخدموا الخط العربي كعنصر زخرفي في لوحاتهم. كما يوجد في متحف اللوفر بباريس كراسة للفنان “بيزانلو” الإيطالي (1395ـ1455م) وبه كتابة بالخط النسخ المملوكي، ويتضح أيضاً تأثير الخط العربي في لوحة “تبجيل المجوسي” للفنان “جنتلي دافبريانو” (1370ـ1427م) إذ يزين وشاحاً يرتديه أحد شخوص اللوحة بالكتابات العربية. كذلك استخدم المصور الفلورنسي “فيلبوليبي” (1406ـ1469م) الكتابة العربية كزخرفة على ثياب الأشخاص التي يرسمها.
وقد استفاد النحات الفلورنسي أيضاً “فيروكيو” (1453ـ1488م) أستاذ ليوناردو دافنشي من الخط العربي في زخرفة لوحة تبجيل الملوك المحفوظة في فلورنسا، وكذلك في تمثاله “داود” المحفوظ في البارجيلو بفلورنسا.
وفي ألمانيا رسم المصور “هانز هولبان” (1479ـ1543م) عديداً من اللوحات التي تظهر فيها سجاجيد مزخرفة بالخط العربي والكوفي.
وفي مستهل القرن العشرين، وحينما انتشرت التجريدية بمفهومها الجمالي البحت، ظهر من الفنانين التجريدين المعاصرين في أوروبا من استخدم الحرف العربي في توليف أشكاله الجمالية ذات المذاق المتفرد الخاص، كما نرى مثلاً عند بول كلي ونالارد و وهوفر و توبي مستخدمين فقط الشكل دون المحتوى المعنوي.
الخط العربي والعصر الرقمي
إن الفنون الجميلة عند العرب بكافة فروعها، الفن المعماري والزخرفة وفن الخط، تلك الصناعة التي أدهشت العالم ووضعتها أمام جوهر المبدع المنطلق من الجمال الإلهي والممتزج بالقدرة البشرية كانت تلك الفنون محط إعجاب وتقدير في العالم قاطبة، ولكن اليوم وبعد ظهور أجهزة الحاسوب التي جعلت معظم الناس خطاطين، علماً بان الكثيرين منهم لا يتصلون من قريب أو بعيد بفن وعلم الخط تراجع الاهتمام بهؤلاء الفنانين المبدعين غير أنه لم ينطفئ تماماً التأثير الكبير والمكانة العظيمة للخط العربي في الفن الإسلامي، إذ كان الوازع الداخلي في الحث على ممارسته وابتكار أساليب جديدة وأنواع مترادفة تدخل جميعها في الإطار المخصص لها بقواعد الخط، حيث الجمال الأخاذ، والروحانية التي تعطي للعين حنين الكتابة، ولليد ظمأ المداد، وللقصبة مشارف من روائع الحرف والكلمة والتشكيل.