سنة التداول الحضاري هي إحدى السُّنن الإلهية التي جعل الله تعالى عليها مدار حركة المجتمعات والحضارات؛ حتى لا ينفرد أحد بمكان الصدارة على صفة الديمومة؛ وإنما يكون الأمر مرتبطًا بمدى استيفاء شروط النهوض، والابتعاد عن موجبات السقوط.
ويمكن تعريف “سنة التداول الحضاري” بأنها: سنة إلهية تُعْنَى بما يكون بين الأمم والشعوب والحضارات من حركة دائبة بين الصعود والهبوط، أو بين النصر والهزيمة، وذلك بعد استيفاء شروط النصر، أو الاتصاف بموجبات الهزيمة.
وقد جاءت “سنة التداول” في القرآن الكريم في سياق تعقيبه على غزوة أحد، التي انهزم فيها المسلمون بعد أن كانوا قد انتصروا على المشركين في غزوة بدر؛ قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 140).
جاء في تفسير الطبري: ويَعني بقوله: (نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، نجعلها دُوَلاً بين الناس مصرَّفة. ويعني بـ(النَّاسِ)، المسلمين والمشركين. وذلك أن الله عز وجل أدال المسلمين من المشركين ببدر، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين. وأدال المشركين من المسلمين بأحُد، فقتلوا منهم سبعين، سوى من جرحوا منهم. يُقَالُ مِنْهُ: أَدَالَ اللَّهُ فُلَانًا مِنْ فُلَانٍ، فَهُوَ يُدِيلُهُ مِنْهُ إِدَالَةً؛ إِذَا ظَفَرَ بِهِ فَانْتَصَرَ مِنْهُ مِمَّا كَانَ نَالَ مِنْهُ الْمُدَالُ مِنْهُ ([1]).
فالتداول جاء تعقيبًا عما أصاب المسلمين بأُحد، بعد أن انتصروا على المشركين ببدر. وجاء التعبير بـ(النَّاس)؛ كأنه إشارة إلى أن هذه السُّنةَ ماضيةٌ وجارية على المؤمنين وغيرهم، لا تحابي أحدًا، ولا تنحاز إلا لمن اتخذ أسبابها، واستوفى شروطها، واستكمل عدتها.
ولهذا قال قتادة: إِنَّهُ وَاللَّهِ لَوْلَا الدُّوَلُ مَا أُوذِيَ الْمُؤْمِنُونَ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُدَالُ لِلْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَيُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ؛ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَيَعْلَمَ الصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ([2]).
إذن، خصَّ القرآن الكريم “سنة التداول” بالذِّكر والبيان؛ لما لها من أثر في فهم سير الاجتماع الإنساني، وإدراك حكمة الله فيما يكون بين الناس من تدافع، ومن غلبة هنا أو هزيمة هناك.. وما يستلزمه ذلك من أخذ بأسباب النصر، وابتعاد عن موجبات الهزيمة.
مرتكزات خمسة
وأما فيما يتصل بمرتكزات هذه السُّنة، فيمكن أن نلاحظ أن “سنة التداول الحضاري” تنبني على عدة مرتكزات أو أسس؛ من أهمها:
1) أن الله تعالى خلق الناس مختلفين:
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99)، وقال أيضًا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118، 119).
وما دام الناس مختلفين، في أفكارهم وأفعالهم، فلابد أن تقوم بينهم، بسبب هذا الاختلاف، رغبةٌ في أن يكون لكل واحد منهم السيطرة والتمكن؛ مما تنشأ عنه سجالات وحروب وجولات، تكون نتيجتها أن ينتصر أحدهم مرة وينهزم مرة أخرى؛ أي يحدث تداول بينهم.
2) التدافع حركة مستمرة بين الناس:
يشير الدكتور عماد الدين خليل إلى أن القرآن الكريم يطرح “فكرة المداولة” كفعل دينامي يستهدف تمحيص الجماعات البشرية، وإثارة الصراع الدائم بينها؛ الأمر الذي يتمخض عنه تحريك الفعل التاريخي، وخلق التحديات المستمرة أمام المنتمين إلى هذا المذهب أو ذاك([3]).
فالعلاقة بين الناس متحركة أبدًا، لا تعرف السكون؛ أي بينهم تدافع مستمرة؛ تكون من حكمته عمران الأرض، وتوالد أوضاع وفرص وتحديات بين أهل الحق وأهل الباطل.
3) الفراغ الحضاري لا بد أن يملأ:
إن “سنة الله أن الفراغ لابد أن يملأ”([4]). فَبِناءً على هذه التداولية الدائبة بين الجماعات البشرية، التي لا يهدأ لها بال؛ فإن الساحة الحضارية لا تعرف الفراغ الحضاري، بل هناك باستمرار جماعات بشرية تندفع إلى الدائرة الرئيسة في الساحة الحضارية أو الدوائر المحيطة بها، لتملأ الفراغ الذي تتركه الجماعات المتقهقرة إلى الدوائر الحضارية الأدنى([5]).
وهذا الأمر من شأنه أن يغذي الشعور لدى البعض للمسارعة والمسابقة لملء هذا الفراغ.. مما ينشأ عنه تدافع يؤدي إلى التداول.
4) الأيام دُوَل
تعقيبًا على غزوة أُحُد، يقول عماد الدين خليل: إن القرآن يطرح في هذا المقطع التاريخي ذي المغزى العميق، والذي تَرِدُ فيه كلمات ذات علاقة عضوية بالمسألة مثل: سنن، مداولة، تمحيص.. قاعدةً أساسية في موقفه إزاء الدول والتجارب البشرية والحضارات.. إنه بواقعيته وإحاطته المعجزة، يقرر منذ البدء عدم ديمومة أي من هذه المعطيات؛ ولا يستثني منها الإسلام والمسلمين: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.. وقد قال: {بَيْنَ النَّاسِ} بمعنى عموم هذه (السُّنة)؛ التي لا محيص عنها، والتي تقوم بلا ريب على أسبابها ومقدماتها في صميم الفعل الإنساني نفسه”([6]).
ويوضح خليل أن نسبية التجارب البشرية، وعدم دوامها، لا تبدوان فقط بعرضهما على مطلقات الآخرة وخلودها؛ إنما من خلال حركة التاريخ البشري كذلك.. الحركة الدائمة التي ترفع وتخفض، وتقدِّم وتؤخِّر، وتُنشئ وتُعيد، بإرادة الله ووفق نواميسه في الكون: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24)؛ {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 140)”([7]).
5) التداول استحقاق له شروط
هذا التداول الذي يرفع أقوامًا ويخفض آخرين، ويقدِّم حضارات ويؤخِّر آخرى؛ لا يجري اعتباطًا؛ وإنما هو استحقاق له شروط وموجِبات، مَن يحوزها تكون له الغلبة، ويتم له النصر.
فالأمر كما قال الله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 123).
قال ابن كثير: والمعنى في هذه الآية : أن الدِّين ليس بالتحلي ولا بالتمني، وليس كل من ادّعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: “إنه هو المحق” سُمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان. ولهذا قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}؛ أي: ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني؛ بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام. ولهذا قال بعده: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، كقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8)([8]).
وإذا كان من خصاص السنن الإلهية أنها سنن ثابتة وسنن عامة؛ تجري على الناس جميعًا لا تستثني أحدًا؛ فإن “سنة التداول” يَصدق بحقها ما يصدق بحق سائر هذه السنن.
زمن وموازين
إذن، هذه أهم مرتكزات سنة التداول الحضاري، وهي مرتكزات تلقي الضوء على طبيعة هذه السنة وكيفية عملها فيما يتصل بالحركة الدائبة المستمرة بين الأمم والحضارات؛ سواء حصل ذلك في إطار من التدافع والتكامل (بحسب الرؤية الإسلامية)، أم في إطار من الصراع والمواجهة (كما في الرؤية الغربية مثلاً).
فالقَويّ من شأنه أن يسعى للتصَدُّر ولاستلام زمام القيادة.. وهو- كما نستقرئ من التاريخ- لن يبقى قويًّا، لكنه مع ذلك يحاول أن يطيل فترة بقائه قويًّا.. وفي الوقت نفسه، هناك آخرون يسعون لإزاحته، وأخذ مكانه ومكانته، راغبين في تحسين موقعهم الحضاري، ومدفوعين بمعرفة أن القوى لن يبقى هكذا أبد الدهر..
وحتى يحصل هذا، فإنه يتطلب (زمنًا حضاريًّا) تتفاعل فيه الأطراف.. و(الزمن) بحق الأمم غيره بحق الأفراد..
كما يتطلب حيازةً لأسباب القوة، وتخلُّصًا من موجبات الضعف؛ فليس الأمر في هذا التداول خاضعًا للأمنيات والرغبات، وإنما هو مرتبط بـ(موازين القُوَى).. وهي في الرؤية الإسلامية قوة معنوية ومادية معًا، أو قوة العلم والأخلاق بلا تفرقة.