الحياة المطمئنة هي غاية الإنسان وهدفه في الحياة، التي هي عند المسلم لا تنتهي بالموت، وإنما الموت يمثل فيها مرحلة انتقالية إلى حياة أكثر خلودًا، وأعظم نعيمًا، وأطول بقاءً. ويمكن إيضاح “الطمأنينة” بأنها حالة من سلام الإنسان مع نفسه، ينتفي معها ما يعكر الحياة ويصيبها بالأرق والقلق والغم، لتتحلى بالسكينة والهدوء والرضا، مضافًا إليها الفاعلية والحيوية وتحقيق الذات.

والحياة المطمئنة تقتضي جملة من الشروط والصفات، النفسية والعقلية والمهارية، مما نشير إلى أهمها في هذا المقال.

حياة الإيمان

أول ما يلزم الحياةَ المطمئنة تحقُّقُ الإيمان فيها؛ فالإيمان شرط لها وضامن لاستمرارها.. والإنسان دون إيمان مجرد كائن يروح ويغدو، يأكل ويتكاثر، شأن كائنات أخرى! وبجانب ذلك يصيبه القلق والغم؛ لأنه يظل تائهًا بلا هدف حقيقي، وناقصًا بلا وجود تام!

بالإيمان يستكمل الإنسان وجوده، ويتحقق بصلته بمن خلقه وسوَّاه، وسخَّر له السماوات والأرض وما فيهما، ويعي أن له رسالة في الحياة تسمو على الحاجات المادية، وأن له دارًا أخرى تنتظره، هي الحياة الحقيقية، فيستعد لها ويعمل.

وهذا الإيمان ينبغي التحقق بابتدائه: من النطق بالشهادتين وإقامة الفرائض.. إلى التحقق باستدامته: من المراقبة والخشية والرجاء، ومصاحبة الذكرة وتلاوة القرآن، والبعد عن المعاصي.. إلى غير ذلك من الوسائل التي تجعله إيمانًا حيًّا فاعلاً في النفس، وتكون النفس أيضًا مُنفعِلةً به.

حياة الأولويات

قد تتكاثر الأهداف على الإنسان فلا يدري بماذا يقوم ولا بماذا ينشغل؛ فيفوِّت على نفسه الوقت ويهدر الطاقة؛ وقد يقدِّم ما حقه التأخير أو يؤخِّر ما حقه التقديم..!

والحياة المطمئنة تعني أولاً وجود هدف أو مجموعة أهداف في الحياة، ثم ترتيب هذه الأهداف. ويمكن أن نلاحظ أن هذا الترتيب يكون طبقًا لأربعة محدِّدات أساسية:

  • حسب أهميتها.
  • حسب الاحتياج إليها
  • حسب إمكان بقائها أو فواتها
  • حسب القدرة عليها.

فقد يكون الشيء مهمًّا في ذاته، لكنني لا أحتاج إليه؛ وبالتالي لا أضعه في قائمتي أصلاً.. أو أحتاج إليه لكن زمنه باقٍ؛ فحينئذٍ أقدِّم عليه ما زمنه سيفوت.. أو يكون مهمًّا وأحتاجه، لكنني لا أقدر عليه، بل هو بعيد المنال صعب الوصول إليه؛ فهنا يكون الانشغال به مضيعة للوقت والجهد.. وهكذا تقاس الأمور وترتب الأولويات.

حياة بلا لهاث

حاجات الحياة من الكماليات والرفاهيات لا تنتهي، بل تتكاثر وتتضاعف بقدر ما يحرز الإنسان من العمران والتحضر.. هذا بالنسبة للفرد وللمجتمع على السواء.

والحياة المطمئنة تستلزم عدم اللهاث خلف الحاجات المادية، وعدم ملء القلب منها، بحيث تظل الجوارح في تعب ونصب لتحقيقها، لا تعرف راحةً ولا تلتقط نَفَسًا..!

من حق المرء أن يبحث عما يجعل حياته أكثر راحة، وأيسر تعاملاً.. لكن الإغراق في ذلك لا حد له، وله آثار سلبية على طمأنينة النفس وراحة القلب..

عوِّد نفسك التخفف من الماديات، ولا تتكبَّل بما لا تمتلكه يداك.. إذا كان معك الثمن فاشترِ، وإلا فاقنع وارض.. انظر لمن هو دونك ولا تنشغل بمن هو فوق.. فالناس درجات، والتفاوت حاصل لا مفر..

حياة المهارات

تطوُّر الحياة وتغيرها، أصبح يسير بوتيرة أسرع.. مما يلقي على الإنسان بصفة دائمة ضرورة أن يطوِّر نفسه، وأن يتحلى بالمهارات اللازمة والمتجددة.. وإلا وجد نفسه خارج المنافسة، وربما فشل في عمله؛ مما ينعكس سلبًا على استقراره النفسي، واطمئنانه القلبي..

النجاح في الحياة ضروري لحياة مطمئنة.. والإنسان لم يأت الحياة ليصير عالةً على غيره، ولا عاجزًا عن تحقيق نفسه وإثبات ذاته.. والمسلم رسالته مضاعَفةٌ بالعبادة والعمران.. فعبادته تَعْمير، وعمرانه تَعبُّد..

الإسلام رسالة تصالح مع الحياة، ودعوة لتعمير الكون.. يفرض الاستغناء عن الناس، ويدعو للعزة ولليد المعطاءة.. وهذا يقتضي تجويدًا وإتقانًا ومهاراتٍ فاعلة.

طوِّر نفسك باستمرار.. واعرف الجديد في مجالك.. وتابع الحياة في تدفقها..

حياة الأسرة

لا يعيش الإنسان فردًا، وإنما وسط مجتمع، وداخل أسرة.. فهو مدني الطبع، وكائن اجتماعي.. وبناء الأسرة والنجاح في إدارة علاقاتها، مع الزوجة والأولاد والعائلة والجيران، هو مما يبعث الطمأنينة في الحياة، ويجعل المرء لا يعيش لِذاته، ولا يحيا منعزلاً، ولا تنقطع سيرته بوفاته..

الأسرة تضيف للإنسان الكثير في الشعور بالذات، والسعي لإحراز النجاح.. وتحمُّلُ المسئولية هو جزء من طبيعية الشخصية الناجحة، والتحدياتُ تدفع للبحث عن الحلول..

فالأسرة نعمة امتن الله بها على الناس، وجعلها لنا سكنًا يقوم على المودة والرحمة.. وبقدر ما فيها من مسئولية وتحديات وأعباء، فإنها تضيف لشخصية الإنسان أبعادًا مهمة لا غنى عنها.

الأسرة هي سفينة المرء في الحياة.. وبقدر ما تقوم على المودة والرحمة والتفاهم والتفاعل والتكامل، بقدر ما تكون الحياة مطمئنة..

حياة الأمل

من طبيعة الحياة أنها رحلة شاقة صعبة، فالإنسان خُلق في كبد، أي تعب ونصب، وهو يدافع مرة مع الأرض ليستخرج قوته ورزقه، ومرة أخرى مع الناس لتستقيم أموره معهم بما يرضيه ويبعد عنه المذلة والمهانة..

هذه الحياة المليئة بالتحديات والمشكلات، تثقل القلب وتضغط على النفس، وتصيبها بالهموم والقلق، لاسيما إذا حاول المرء وفشل، وأعاد الكرَّة ولم ينجح.. مما يقتضي أن نبتعد عن اليأس، وأن نتحلى بالأمل.. الأمل في رحمة الله تعالى التي لا تنفك عنا، وفي لطفه المصاحِب دائمًا لأقداره.. والأمل في قدرتنا على تجاوز التحديات، بل وتحويلها إلى نجاحات؛ الإنسان عنده طاقات كبيرة مخبوءة لا تظهر إلا إذا استُفِزت بتحدٍّ أو مشكلة.. وعنده قدرة هائلة على تحمل الصعاب ولا يمكنه اختبار هذه القدرة وهو على الشاطئ..

لهذا لا تخش من التحديات، ولا تهرب من المشكلات.. واجه بشجاعة، واستمسك بالأمل.. وجدد الثقة بربك سبحانه.. واعرف قدر نفسك لا تبخسها..

إياك ووساوس إبليس.. هو يريد لك اليأس والقنوط، ويريد أن يكبِّلك في المخاوف والأحزان..

أنت قويٌّ بربك الذي غمرك برحمته ولطفه فيما مضى، وسيغمرك أيضًا بهما فيما هو آت.. هذا الشعور حين يثبت في القلب، ويتمكن من النفس؛ فإنه ينعكس على الجوارح، ويجعل للحياة مذاقًا مختلفًا، ويضيف لها ألوانًا بهيجة..

الحياة المطمئنة أو الحياة الطيبة هي وعد الله تعالى لعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (سورة الرعد: 28)، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة النحل: 97).

وهذه الحياة لها شروط وأثمان.. أشرنا لبعض منها.. نسأل الله تعالى العون والتوفيق..