لما كانت الدعوة إلى الله تعالى من أجلِّ الأعمال التي يتقرّب بها المؤمن لربه عز وجل، فإن المسلم يرغب أن يولي الموضوع عناية خاصة ويتفرغ له، ولكن عندما يتصادم هذا العمل الذي يقوم به المسلم مع بعض المنكرات التي تواجهه من قبل العامة، فإن موقف الداعية إلى الله تعالى يتّضح من خلال تغيير أو تبديل هذا المنكر بالطريقة العلمية والأخلاقية التي من خلالها يستطيع كسب قلوب الناس. فما هو فنّ التعامل مع هذه المفاسد؟

في فن التعامل مع قلوب المدعوين لا بدّ أن تكون هناك معالم واضحة أمام الدعاة؛ فالدعوة كما تعلم فريضة إسلامية على كل مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر؛ قال الله تعالى: ﴿‌وَالْمُؤْمِنُونَ ‌وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾ [التوبة: 71]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب) رواه ابن ماجه وأحمد.

وإذا نظرنا في واقع المجال الدعوي؛ سنرى أنّ الناس وإن وقعوا في مآثم ومنكرات، بل حتى في الموبقات، فإنهم لا يزالون يحملون في قلوبهم خيرًا كثيرًا ما داموا موحدين.. ومن هنا ينبغي لنا ألاَّ نترفع عليهم ونكشِّر أنيابنا في وجوههم، بل ينبغي أن ندلّهم على أبواب التوبة المفتوحة، ونرغّبهم في رحمة الله ولا نقنطهم منها، وأن نحاول تنمية جوانب الخير عندهم.

وهنا تحضرني قصة بعض الدعاة الذين يسافرون إلى بلاد الغرب، وكانوا في فرنسا، فذهبوا إلى حديقةٍ مليئةٍ بالناس والمنكرات، فوجدوا شابًا عربيًا معه آلات موسيقية ويغني، فما كان منهم إلا أن ذهبوا إليه ودار الحوار الآتي:

الداعية: مَن الأخ.. أعني ما اسمك؟
الرجل: محمد.
الداعية: ما شاء الله ما شاء الله! هذا اسم الرسول صلى الله عليه وسلم.
الرجل: ولكني لا أصلي.
الداعية: ما شاء الله.. الله أكبر، دائمًا المؤمن لا يكذب ومنهجه الصراحة، وأنت كذلك.

فما كان من ذلك الرجل -بعد هذا المدخل الطيب من الداعية- إلا أن ذهب معه إلى سكنه، ثم هداه الله تعالى على يديه.

فإن بُعْدنا عن صاحب المعصية والنظر إليه شزرًا على أنه عاصٍ يُعتبر من أهمّ أسباب عون الشيطان عليه ونفرته من أهل الصلاح؛ ولكن عندما نفتح له قلوبنا ونتعامل مع أخطائه برفق وحنان فسينتج ما لم نره من قبل.

قواعد دعوية في فن التعامل مع المنكرات

ينبغي للذين عرفوا أهمية الدعوة إلى الله تعالى ولمسوا الحاجة الماسة إليها في مجتمعاتنا التعرُّف على بعض القواعد التي ينبغي استحضارها وتطبيقها في واقعنا لتكون دعوتنا مؤثرة ناجحة وتصل إلى مبتغاها؛ خاصةً مع انتشار المنكرات على كافة المستويات.

نذكر من هذه القواعد العامة على طريق الدعوة إلى الله تعالى ما يلي:

1– تملك القلوب قبل العقول:

إن الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا قلبٍ كبيرٍ يسع الناس جميعًا بمختلف أوضاعهم ونفسياتهم وجنسياتهم، ويتعامل معهم برفق، ويقدّم لهم أفضل ما عنده من فنون التعامل، ويتخيّر لهم أفضل القول وأجمل المنطق، مع بذل الندى وكف الأذى؛ ولقد كسب النبي صلى الله عليه وسلم قلوب من حوله مع تجنب تقليدهم في انحرافاتهم؛ فكانوا يسمونه: “الصادق الأمين” قبل أن يبعث؛ فقد ملك قلوب الناس بحسن خلقه وسماحته.. قال تعالى: (وإنك لعلى خلقٍ عظيم)، وقال سبحانه: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيم).

2– عدم التسفيه ولا التحقير من قضايا الناس:

فإن النفوس تميل إلى من يحترمها ويرفع من قدرها، خاصةً إذا كان أولئك أصحاب مكانةٍ في قومهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يُنَزل الناسُ منازلهم.

وإن من أهم أسباب إسلام كثيرٍ من الصناديد هو رفع منزلتهم في الإسلام: كالأقرع بن حابس، وأبي سفيان، وعيينة بن حصن، وثمامة بن أثال.

ولقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاهتمام بقضايا المسلمين، حتى لقد كان يهتم بأمور العبيد والموالي؛ فها هو يشفع لمغيث عند زوجته بريرة لكي ترجع إليه بعدما عُتِقَت وهو عبد، وغير ذلك الكثير من أمثلة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بقضايا أصحابه.

3- قوة الصلة بالله والاستعانة به:

إن أهم زاد للداعية في طريقه لتبليغ دعوة الله إلى الناس هو اتصاله بالله تعالى واعتماده عليه وتفويض جميع أموره إليه؛ فقلوب الناس بين أصابعه سبحانه كقلبٍ واحدٍ يقلبها كيف يشاء، ولو شاء لهدى الناس كلهم أجمعين؛ فبالاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه تنفتح الأبواب، ويسهل الصعب، ويقرب البعيد.

ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أروع الأمثلة في قوة الاتصال بالله تعالى وخاصة عند الأزمات، وعندما يُعرض الناس عن دعوة الحق؛ فها هو الطفيل بن عمرو الدوسي يأتي شاكيًا قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يستعديه عليهم ليدعو عليهم لمّا أعرضوا عن دعوته؛ فما كان من نبي الرحمة إلا أن رفع يديه إلى ربّه وسأله أن يهدي دوسًا ويأتي بهم؛ فما إن رجع الطفيل رضي الله عنه إلى قومه حتى استجابوا جميعًا.

3- العطاء والبذل المستمران:

إن من السمات المميزة للدعاة إلى الله تعالى كرمهم وبذلهم كل خيرٍ للناس؛ فيبذلون للناس الخلق الحسن والشفاعة الحسنة والجاه إن احتيج إليه، ويبذلون ما يستطيعون للناس من مرتفقات هذه الدنيا؛ ليبينوا لهم أنهم ليسوا طلاب دنيا وأن الدنيا آخر اهتماماتهم، فيبذلوا الدنيا للناس ليستجلبوا قلوبهم إلى الدين؛ فمنهج رسولنا صلى الله عليه وسلم هو منهج العطاء والبذل؛ فقد كان الأعرابي يرجع إلى قومه ويقول: يا قوم أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

4– عدم الانجرار وراء كماليات الدنيا:

من أهم ما يزين الداعية ويلبسه ثوب الوقار، ويجعله أقرب إلى الاحترام ومن ثم القبول أن يكون مترفعًا عن ملاحقة كماليات هذه الدنيا؛ فإن أهل العلم دائمًا يحتقرون هذه الدنيا وإن عظمت صورتها وحقيقتها عند العامة والدهماء.
اقرأ إن شئت قصة قارون: (فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظٍ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقّاها إلا الصابرون).

وكما يقول الشاعر:
قد رشّحوك لأمرٍ لو فطنت له ……. فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ

ومن الأمور المهمة أيضًا استغناء الداعية عن الناس قدر إمكانه، وعدم إراقة ماء وجهه ما استطاع، بل هو الذي يبذل الخير للناس.

5– الرفق والرحمة رغم ما ترى:

إن مما يشد همّة الداعية إلى الله لينطلق بقوّةٍ إلى الدعوة والإصلاح نظره في واقع الذين من حوله وبعدهم عن الله تعالى، وعمق الهوّة السحيقة التي وقعوا فيها أو أوشكوا؛ فعند ذلك يتدفق من قلبه شعورٌ برحمة هؤلاء، ثم يثمر الرغبة في تغيير واقعهم كيلا يوافوا الله تعالى وهم على هذا الحال.

فالناس في احتياجٍ إلى من يأخذ بأيديهم بلينٍ ورفقٍ إلى مرضاة الله تعالى، لأن النفوس جبلت على العناد، فلا تستطيع أن تجبر إنسانًا على قبول أمرٍ ما، بل يدفعه عناده إلى الرفض التام، حتى وإن علم أنّ في قبول هذا الأمر صلاحه، معنى هذا أنّ الرفق من قِبل الداعية تجاه من يدعوهم واجبٌ ولازمٌ عليه، بل وشرطٌ لنجاح دعوته، وقد نبّه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لهذه الفضيلة فقال: (فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)

كما وردت الأحاديث الشريفة والآثار بمدح الرفق، ونبذ العنف والفظاظة، فقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الله رفيقٌ يحب الرفق، ويعطي عليه مالا يعطي على العنف)، وروى أيضًا عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله)، وأخرج الترمذي في سننه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون من يُحرّم على النار يوم القيامة؟ كل هيِّنٍ ليِّنٍ سهلٍ قريب) وغير ذلك الكثير من الأحاديث والآثار.

هذه بعض القواعد التي حاولت اقتطافها من هنا وهناك لأضعها بين يديك وبين يدي أحباب صفحة الاستشارات الدعوية لعلّ الفائدة تعمُّ الجميع.

أ. محمد إبراهيم  زيدان