يقول تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وليس الذكر كالأنثى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} (آل عمران: 35، 36).
القرآن الكريم يعرف الإنسان بحقيقته وطبيعة الكون والحياة ويبين علاقة الإنسان بها، فهو هدى للعالمين ببيانه لهذه القضايا العقدية. في معرض بيان القرآن الكريم ماهية الإنسان، وبعد تفصيل القول في أصل خلقه والمراحل التي مر بها الإنسان الأب (آدم) ومراحل تكوين ذريته (بني آدم)، بيّن أن الإنسان يُخلق إما ذكراً أو أنثى، وأن الأصل هو المساواة بين الذكر والأنثى من منظور الإنسانية وما يرتبط بها.
الأنثى كالذكر من حيث الإنسانية
- كلا الذكر والأنثى مخلوقان: قال تعالى: { إنا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} (الحجرات: 13). وقال تعالى :{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} (النجم: 45)، وقال تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا } (فاطر: 11)، وقال تعالى: { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} (القيامة : 38 -39) فالله خالق الرجل كما هو خالق الأنثى.
- كلاهما مخاطب بتحمل المسؤولية: فالذكر مكلف كما أن المرأة مكلفة بالعبادة. قال تعالى :{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} (آل عمران : 195). وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 124)، وقال تعالى : { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (غافر: 40).
- كلاهما متصف بالكرامة الإنسانية: قال تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء:70).
- الذكر والأنثى مشتركان في الميل نحو الآخر وفي حب زينة الحياة: يدل على الأول أمر الاثنين بعموم التستر وغض البصر “قل للمؤمنين يغضوا.. وقل للمؤمنات يغضضن”، وحديث أم سلمة لما أمرها رسول الله وميمونة بالحجاب عن ابن أم مكتوم “أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه”، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران: 14). يميل الرجل إلى المرأة، وتميل المرأة إلى الرجل، وكلاهما مفطوران على حب الشهوات كما ورد في الآية.
- كل من الذكر والأنثى مشتركان في آيات وصف الإنسان: فقد خلق في كبد، وهو ضعيف، وهلوع، وعجول، وكفور، وقتور، ويحب المال، وكل منهما خلق بميول نحو الآخر، وكلاهما كنود وجحود، ومر كل منهما بنفس مراحل التكوين، ويواجهان نفس المصير.
بعد سرد بعض وجوه الاشتراك بين الرجل والمرأة في عموم ما يتصف به الإنسان، نجد أن ثمة فوارق بسيطة بينهما مثل بعض الفوارق بين الصغير والكبير، والمتزوج وغير المتزوج، وبيانه على النحو التالي:
وليس الأنثى كالذكر
- المرأة تحمل والرجل لا: قال تعالى {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} (الرعد: 8). قال تعالى : {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعْ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (فصلت : 48). وهي المرضعة لا الرجل؛ فليس الذكر كالأنثى.
- المرأة لم تُكلف شرعاً بتحمل النفقة مع وجود الرجل: وهذا أصل معنى القوامة؛ فالرجل يدفع المهر، قال تعالى : {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } (النساء: 4)، وينفق على البيت، قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق:6). فالرجل المؤسس والمدير للشركة ليس كالذي لم يتحمل عبء إنشائها، وهذا معنى قوله تعالى: {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء:34). تحمل الرجل للنفقات شرعاً هو الدرجة الفارقة بين الرجل والمرأة:، وقال تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } (البقرة: 288). فالحمل والولادة والرضاعة من خصائص الأنوثة، وتحمل الرجل نفقاتها من خصائص الرجولة؛ وليس الذكر كالأنثى.
- المرأة قارورة وستبقى قارورة: فطبيعتها كالقوارير: لينة الملمس، وهذا يتناسب مع وظيفتها، فيجب الرفق بها خشية أن تُكسر: “رفقاً بالقوارير”. وإن القارورة لا تصير حديداً أو خشباً “فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوجا”. فلا بد من احترام طبيعتها، والحل في التعامل هو: “اتقوا الله واستوصوا بالنساء خيراً”. “وليس الذكر كالأنثى”.
هذه القارورة يمكنها تأدية دور الرجل اضطراراً: لم تُخلق لقطع الأشجار والزراعة ومواجهة الفيضانات والأعاصير والزلازل، وفتح الأبواب وإغلاقها، فهذه مهام كُلّف بها الرجل. لكن مع غياب الرجل، يمكن للمرأة القيام بكل ذلك وزيادة. وهذا أصل إيراد قوله تعالى: “وليس الذكر كالأنثى” في القرآن الكريم. لما أرادت امرأة عمران أن ترزق بولد ذكر يقوم بما هو من طبيعة أعمال الرجل عادةً من خدمة المسجد وسدنته، دعت ربها ونذرت بذلك، لكن الله وهبها أنثى هي مريم. ظنّت أن المرأة لا تستطيع القيام بهذه الأعباء، لكن ذلك كان درساً للبشرية؛ فقد فعلت مريم خلاف المعهود وقامت بسدنة بيت الأقصى، ورزقت بعيسى، فكانت نموذج المرأة التي غيرت بعض المفاهيم الاجتماعية بشأن ما هو ذكوري وأنثوي، بل هذا التغيير كان في قضية دينية وفق نظر المجتمع: “وليس الذكر كالأنثى”.
تفاسير الآية (وليس الذكر كالأنثى)
- يقول الطبري: { وليس الذكر كالأنثى}، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس”.
- يقول ابن كثير: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى} أي: “في القوة والجَلَد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى”.
- يقول الرازي: “الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى، والذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى”.
- يقول ابن الجوزي: “لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر من خدمته المسجد والإقامة فيه لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس”.
أخيراً، هذا بيان القرآن، والسؤال الذي يخطر ببال القارئ هو: ما عمدة هذا البيان؟ هل هو مبني على العرف الاجتماعي، أم أنه حكم شرعي قطعي وأزلي عند الله؟ وهل هذا الكلام كلام رب العالمين حقيقة أم مجرد حكاية ونقل على لسان حنة ابنة عمران؟ وهل الأمر خبرٌ أم إنشاءٌ يحمل حكماً دائماً؟