بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
إذا قرئ القرآن بحضرة الميت فلا شك أنه ينتفع بالقراءة بجواره ، وخاصة ما ورد النص عليه كسورة يس ، وأما القراءة بعيدا عن الميت وقبره : فإن قرأ ودعا الله بما قرأ أن يرحمَ الميِّت أو يغفَر له، فقد توسَّل القارئ إلى الله بعملِه الصالِح ، وهذا لا خلاف في جوازه، وإن قرأ وأهدَى مثل ثواب قراءته إلى الميِّت، فالراجح أنه ينفعه ، خاصة إذا نوى الإهداء قبل القراءة، وهو رأي الجمهور.
وهذا إذا قرأ بغير أجر، وإلا فلا ينفع الميت في شيء.
يقول الشيخ عطية صقر ، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر ؛ الأسبق ـ رحمه الله ـ :
في قراءة القرآن للميِّت خِلاف للعلماء بين المنع مِن استفادتِه بها، بناءً على أنها عبادة بدنيّة لا تَقْبَل النيابة، وبين الجَواز بناءً على رجاء رحمة الله وما ورد من بعض النصوص، ومن تتبع أقوال الكثيرين يمكن استنتاج ما يلي:
1 ـ إذا قُرِئ القرآن بحضرة الميّت فانتفاعُه بالقراءة مرجوٌّ، سواءٌ أكان معها إهداء أم لم يكن، وذلك بحكم المجاوَرة، فإن القرآن إذا تُلِيَ، وبخاصّة إذا كان في اجتماع، حَفّتِ القارئين الملائكةُ، وغشِيَتْهم الرّحمةُ، ونزلت عليهم السَّكينةُ، روى مسلم قول النبيِّ ـ ﷺ ـ “ما اجتمع قومٌ في بيت من بُيوت الله يَقرؤون كتاب الله ويتدارَسُونه بينهم إلا حفَّتهم الملائكةُ وغَشِيَتْهم الرحمة ونزلتْ عليهم السَّكينة” والقرآن ذِكر، بل أفضل الذِّكْر، وقد روى مسلم وغيره حديث “لا يقعُد قومٌ يذكُرون اللهَ إلا حفَّتهم الملائكةُ وغشيَتْهم الرحمةُ ونزلتْ عليهم السَّكينة وذكرَهم الله فيمَن عندَه” ، بل لا يُشترط لنزول المَلائكة وغيرهم أن تكون القراءة أو الذِّكر في جماعة، فيحصُل ذلك للشخصِ الواحد: روى البخاري ومسلم حديث أُسيدِ بن حُضير الذي كان يقرأ القرآن في مِرْبَده وبجوارِه وَلَدُه وفَرَسُه، وجاء فيه: فإذا مثل الظُّلة فوق رأسي، فيها أمثال السرج عَرجتْ في الجوِّ حتّى ما أراها، فقال له رسول الله ـ ﷺ ـ “تلك الملائكة تستمِع لكَ، ولو قرأتَ لأصبحتَ يراها الناسُ ما تَستتِر منهم”.
على أن النص قد جاء بقراءة “يس” عند الميّت، روى أحمد وأبو داود والنسائي، واللفظ له، وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه أن النبي ـ ﷺ ـ قال: “قَلْبُ القُرآن يس، لا يقرؤها رَجل يريدُ الله والدار الآخرة إلا غَفَرَ الله له، اقرؤوها على موتاكم”. وقد أعلّ الدارقطني وابن القطان هذا الحديث، لكن صحَّحه ابن حبان والحاكم، وحمله المصحِّحون له على القراءة على الميِّت حالَ الاحتِضار، بناء على حديث في مسند الفردوس ” ما مِن مَيّت يموت فتُقرَأ عنده يس إلا هوَّن الله عليه” لكنَّ بعضَ العلماء قال: إنّ لفظ الميِّت عامٌّ لا يختصُّ بالمُحتَضِر، فلا مانِع من استفادتِه بالقراءة عنده إذا انتهت حياتُه، سواء دُفِن أم لم يدفَن، روى البيهقي بسند حسن ” أن ابن عمر استحبّ قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها على القبر بعد الدفن”، وابن حبان الذي قال في صحيحه معلِّقًا على حديث “اقرؤوا على موتاكم يس” أراد به مَنْ حضرتَه المَنيّة، لا أنّ الميِّتَ يقرَأ عليه ـ رد عليه المحب الطبريّ: بأن ذلك غير مسلّم له وإنْ سُلِّمَ أنْ يكون التلقين حالَ الاحتضار، قال الشوكاني: واللفظ نصٌّ في الأموات وتناوله للحيِّ المُحتضر مجازٌ فلا يُصار إليه إلا لقَرينة، “نيل الأوطار ج 4 ص 52” والنووي ذكر في رياض الصالحين تحت عنوان: الدُّعاء للميِّت بعد دفنه والقعود عند قبره ساعة للدُّعاء له والاستغفار والقراءة “الباب الحادي والستون بعد المائة” ذكرَ أنَّ الشافعي قال: يُستحبُّ أن يُقرَأ عنده شيءٌ من القرآن وإن خَتَمُوا القرآن كان حَسنًا، وجاء في المغني لابن قدامة “ص 758” تُسنُّ قراءة القرآن عند القبر وهِبة ثوابِها، وروى أحمد أنه بِدعة، ثم رَجَع عنه.
وكَرِهَ مالك وأبو حنيفة القراءة عند القبر حيثُ لم ترِد بها السُّنّة.
لكن القرافي المالكي قال: الذي يتَّجِه أن يحصُل للموتى بركةُ القراءة، كما يحصُل لهم بركة الرجل الصالح يُدفَن عندهم أو يُدفَنون عنده.
2 ـ إذا قُرِئ القرآن بعيدًا عن الميت أو عن القبر وامتنع انتفاعه به بحكم المجاورة وحضور الملائكة، اختلف الفقهاء في جواز انتفاع الميِّت به، وهناك ثلاث حالات دار الخِلاف حولها بين الجواز وعدمِه:
الحالة الأولى:
إذا قَرأ القارِئُ ثمّ دعا الله بما قرأ أن يُرحَمَ الميِّتُ أو يُغفَر له، فقد توسَّل القارئ إلى الله بعملِه الصالِح وهو القراءة، ودعا للميت بالرحمَة، والدُّعاء له متَّفق على جوازِه وعلى رجاء انتفاعِه به إن قَبِلَه الله، كمَن توسَّلوا إلى الله بصالِح أعمالِهم فانفرجتْ عنهم الصَّخرة التي سَدّت فَمَ الغار، وفي هذه الحالة لا ينبغي أن يكون هناك خِلاف يُذكَر في عدم نفع الميت بالدعاء بعد القراءة.
الحالة الثانية:
إذا قرأ القارئ ثم دَعا الله أن يُهدَى مثل ثواب قراءته إلى الميِّت، قال ابن الصلاح: وينبغي الجزمُ بنفع: اللّهم أوْصِل ثوابَ ما قرأناه، أي مثلَه، فهو المُراد وأن يُصرّحَ به لفلانٍ؛ لأنه إذا نفعه الدُّعاء بما ليس للداعي فماله أولى، ويجري ذلك في سائر الأعمال، ومعنى كلام ابن الصَّلاح أن الدّاعيَ يدعو الله أن يرحمَ الميِّت: والرحمة ليست مِلكًا له بل لله، فإذا جازَ الدعاء بالرحمة وهي ليستْ له، فأولى أن يجوز الدُّعاء بما له هو وهو ثواب القراءة أو مثلها، وكذلك يجوز في كل قُرْبة يفعلها الحيّ من صلاة وصيام وصدقة، ثم يدعو بعدها أن يوصّل الله مثل ثوابها إلى الميت. وقد تقدم كلام ابن قدامة في المغني عن ذلك، والدعاء بإهداء مثل ثواب القارئ إلى الميت هو المُراد من قول المُجيزين: اللهم أوصلْ ثواب ما قرأته لفلان.
الحالة الثالثة:
إذا نَوَى القارئ أن يكون الثواب: أي مثله، للميِّت ابتداء أي قبل قراءتِه أو أثناءَها يصِل ذلك إن شاء الله، قال أبو عبد الله الأبي: إنْ قَرأ ابتداءً بنيّة الميِّت وصل إليه ثوابُه كالصّدقة والدعاء، وإنْ قرأ ثُمَّ وهبه لم يَصِل؛ لأنّ ثواب القراءة للقارئ لا ينتقل عنه إلى غيره، وقال الإمام ابن رشد في نوازله: إنْ قَرأ ووَهَب ثوابَ قراءته لميِّت جاز وحصَل للميت أجرُه، ووصَل إليه نفعه، ولم يُفَصِّل بين كون الهِبة قبل القراءة أو معها أو بعدها، ولعلّه يريد ما قاله الأبي.
هذا، وانتفاع الميّت بالقراءة مع الإهداء أو النيّة هو ما رآه المحقِّقون من متأخِّري مذهب الشافعي، وأوَّلوا المنعَ على معنى وصول عينِ الثواب الذي للقارئ، أو على قراءتِه لا بحضرة الميِّت ولا بنيّة ثواب قراءته له، أو نيّته ولم يدعُ له، وقد رجّح الانتفاع به أحمد وابن تيمية وابن القيّم، وقد مر كلامهم في ذلك.
قال الشوكاني “نيل الأوطار ج 4 ص 142” المشهور من مذهب الشافعي وجماعة من أصحابه أنّه لا يصِل إلى الميت ثواب قراءة القرآن، وذهب أحمد بن حنبل وجماعةٌ من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعيّ إلى أنه يصِل، كذا ذكره النووي في الأذكار.
وفي شرح المنهاج: لا يصل إلى الميتِ عندنا ثواب القراءة على المشهور، والمُختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته، وينبغي الجزْم به لأنه دُعاء، فإذا جاز الدُّعاء للميِّت بما ليس للدّاعي فلأن يجوز بما هو أولَى، ويبقى الأمر فيه موقوفًا على استجابة الدُّعاء. وهذا المعنى لا يختصُّ بالقراءة، بل يجري في سائر الأعمال. والظّاهر أن الدُّعاء متّفق عليه أن ينفع الميّت والحي، والقَريب والبَعيد، بوصيّة وغيرها وعلى ذلك أحاديث كثيرةٌ، بل كان أفضلُ الدعاء أن يدعوَ لأخيه بظَهر الغَيبِ.
هذا، وقد قال الأبي: والقراءة للميِّت، وإن حَصَل الخِلاف فيها فلا ينبغي إهمالها، فلعلَّ الحقُّ الوصول، فإن هذه الأمور مُغَيّبة عنا، وليس الخِلاف في حكم شرعيٍّ إنّما هو في أمر هل يقع كذلك أم لا.
وأنا مع الأبي في هذا الكلام فإن القراءة للميِّت إن لم تنفع الميِّت فهي للقارئ، فالمُستفيد منها واحد منهما، ولا ضَرر منها على أحد.
مع تغليب الرّجاء في رحمة الله وفضله أن يُفيد بها الميت كالشفاعة والدُّعاء وغيرهما.
وهذا الخِلاف محلُّه إذا قُرِئ القرآن بغير أجر، أما إن قُرِئ بأجر فالجمهور على عدم انتفاع الميّت به؛ لأن القارئ أخذ ثوابه الدُّنيوي عليها فلم يَبق لديه ما يُهديه أو يُهدي مثل ثوابه إلى الميِّت، ولم تكن قراءته لوجه الله حتّى يدعوه بصالح عمله أن ينفع بها الميِّت، بل كانت القراءة للدُّنيا، ويتأكَّد ذلك إذا كانت هناك مساوَمة أو اتفاق سابِق على الأجر أو معلوم متعارَف عليه، أما الهديّة بعد القراءة إذا لم تكن نفس القارِئ متعلِّقة بها فقد يُرجَى من القراءة النفع للميِّت. والأعمال بالنِّيات، وأحذِّر قارِئَ القرآن من هذا الحديث الذي رواه أحمد والطبراني والبيهقي عن عبد الرحمن بن شبل: “اقرَؤُوا القرآنَ واعمَلُوا به، ولا تجفُوا عنه، ولا تَغلُوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثِروا به” قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات، وقال ابن حجر في الفتح: سنده قوي، وفُسّر الأكل به بأخذ الأجرةِ عليه، كما فُسِّر بالاستجداء به والتسَوُّل.
وقد قال الشيخ حسنين محمد مخلوف في أخذ الأجرة على قراءة القرآن: مذهب الحنفيّة لا يجوز أخذها على فعل القُرب والطاعات كالصّلاة والصوم وتعليم القرآن وقراءته، ولكن المتأخِّرين من فقهاء الحنفيّة استثنوا من ذلك أمورًا منها تعليم القرآن، فقالوا: بجواز أخذ الأجرة عليه استحسانًا، خشية ضَياعِه، ولكن بَقيَ حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن على ما تقرّر في أصل المذهب من عدم الجواز.
ومذهب الحنابلة لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ولا على قراءته، استنادًا إلى حديث “اقرءوا القرآن” الذي تقدم . ومذهب المالكية لا يجوز أخذ الأجرة على ما لا يَقبل النّيابة من المطلوب شرعًا كالصلاة والصيام، ولكن يجوز أخذ الأجرة على ما يقبل النّيابة، ومنها تعليم القرآن وقراءته، ومذهب الشافعيّة أنّه يجوز أخذ الأجرة على قراءته القرآن وتعليمه، سواء أكانت القراءة عند القبر أم بعيدةً عنه، مع الدّعاء بوصول الثواب إلى الميّت أهـ.
انظر موضوع “الأجر على قراءة القرآن” بالمجلد الثاني.
والله أعلم.
الشيخ عطية صقر