ولد العلامة محمد عبد الله دراز بقرية محلة دياي إحدى قرى الدلتا في الثامن من نوفمبر 1894 لأسرة علمية عريقة؛ فوالده الشيخ عبد الله دراز الفقيه اللغوي المعروف الذي قدم شروحا لكتاب الموافقات للشاطبي، والذي عهد إليه الإمام محمد عبده بمهمة الإشراف على المعهد الأزهري الجديد بالإسكندرية اطمئنانا إلى علمه وكفاءته.
المسيرة العلمية
درس دراز بالأزهر وحصل على الشهادة العالمية عام 1916 وعيّن مدرسا ثم أستاذا للتفسير بكلية أصول الدين، وفي عام 1936 سافر إلى السوربون لاستكمال دراساته العليا وهناك درس على يد كبار المستشرقين مثل: ليفي بروفنسال، لويس ماسينيون، لوسن، حتى نال درجة الدكتوراه في فلسفة الأديان بمرتبة الشرف الأولى عام 1947.
وقد تألفت رسالته من دراستين: الأولى مدخل إلى القرآن الكريم وهي دراسة تمهيدية موجزة حول تاريخ القرآن، والثانية “دستور الأخلاق في القرآن الكريم” وتقع في حوالي ثمانمائة صفحة، قدم خلالها رؤية متكاملة للنظرية الأخلاقية القرآنية في شقيها النظري والعملي. وإنجاز الرسالة الأساسي أنها استخلصت -للمرة الأولى- الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعها، وقدمت مبادئها وقواعدها في صورة بناء نظري متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه، وهو ما أحدث انتقالا بها من دائرة التعاليم الوعظية التي تستهدف تقويم السلوكيات إلى الدائرة المعرفية.
لم تنل الدراسة في السوربون والاحتكاك بالمستشرقين من أزهرية الرجل العتيقة واعتزازه بثقافته وتراثه؛ فقد كان مؤمنا بأن مهمة الباحث المسلم تتجاوز إحياء التراث ووصل ما انقطع منه إلى تحديثه والإضافة إليه، ولذلك شرع قبيل وفاته في كتابة مؤلفه (الميزان بين السنة والبدعة) وأراد به أن يُحدث كتاب الإمام الشاطبي (الاعتصام) إلا أن أجله المحتوم لم يمهله أن ينجز مهمته الجليلة.
خلف دراز تراثا فكريا راقيا لم يتجاوز أربعة عشر مؤلفا تراوحت بين الكتب والبحوث، وأهم كتبه: النبأ العظيم، الدين: بحوث ممهدة لتاريخ الأديان. أما بحوثه فأبرزها: الربا في نظر القانون الإسلامي، مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام، حول المؤتمرات العالمية للأديان. وعلى ندرتها فقد شكلت إضافات معرفية سدت فراغا في حقول الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وتاريخ الأديان.
في ظلال الحركة الوطنية
لم يكن دراز من أولئك النفر من العلماء القابعين داخل أقبية الفكر محتجبين عن الواقع وتياراته وإنما هو من المنشغلين بقضايا وطنه وأمته، وللرجل مواقف مشهودة فقد طاف على السفارات الأجنبية بمصر إبان ثورة 1919 محاضرا باللغة الفرنسية التي أصر على تعلمها آنذاك ليشرح قضية بلاده أمام ممثلي الدول الغربية.
وعرف عنه تأييده لإلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية عام 1951 وكان ممن أسهموا في إعداد كتيبة طلبة الأزهر التي انخرطت في مقاومة القوات البريطانية بمنطقة قناة السويس، وفي أعقاب الثورة عرض عليه الضباط الأحرار منصب شيخ الأزهر إلا أنه لم يهرول لقبول المنصب الجليل واشترط الاستقلالية الكافية وأن تطلق يده لإجراء إصلاحات جوهرية بالأزهر، وعندما لم يجب إليهما رفض قبول المنصب.
ومن الاهتمام بقضايا الوطن إلى مناصرة قضايا الأمة؛ فعندما كان بفرنسا جهر بتأييده لحركات التحرر العربية: الفلسطينية والمغربية والجزائرية، وقد توطدت صلاته بوجه خاص مع جمعية العلماء الجزائريين حين شارك في الأنشطة الثقافية والدعوية التي قامت بها في باريس ومن خلالها تعرف على مالك بن نبي الذي طلب منه أن يقدم لبعض كتاباته. كما تواصل دراز مع الإمام عبد الحميد بن باديس في الجزائر حين تدخل لدى الأزهر لقبول الطلبة الجزائريين بالجامعة العريقة.
معالم كتابات دراز
في مفتتح رسالته “دستور الأخلاق في القرآن” كتب دراز: “فإذا لم يأت عملنا هذا بشيء جديد في عالم الشرق والغرب فلن يكون سوى مضيعة وزحمة وإثقالا” بهذه العبارة قيد الشيخ عملية الكتابة بقيد الإتيان بالجديد والإعراض عن اجترار القديم، وأشار إلى أهم ملمح يميز كتاباته على الإطلاق، أما باقي الملامح فيمكن إيجازها على النحو التالي:
أولا: المدقق فيما كتبه دراز يجده لم يكتب جملاً متراصة بعضها فوق بعض لا تؤدي وظيفة، إلا الوظيفة البلاغية، وإنما هو كمن شيد بناءً لا تستطيع أن تصعد إلى طابقه الأعلى دون المرور على الطابق الأسفل، ولذلك يتعذر الاستغناء عن فقرة واحدة من كتاباته، أو أن نقدم بعضها أو نؤخره كما نفعل مع البعض، ذلك أن فقراته نظمت بإحكام في أنساق مترابطة؛ كل فقرة تبرهن على ما سبقها وتمهد لما بعدها.
ثانيا: غلبة الطابع التجريدي، والتجريد في أصله عملية معرفية قوامها الفصل بين ما هو جوهري وما هو ثانوي وغايتها إقصاء الهامشي الذي لا يحمل دلالة بغرض الوقوف على لب الشيء وجوهره، وبفضل عمليات تجريدية متوالية توصل دراز أن القرآن يعالج موضوعين اثنين: الحق الأسمى والفضيلة، وكل ما تبقى من محتوياته ونصوصه ليست سوى وسائل لتعزيز رسالة القرآن وإعطائها وزنا أكبر.
ثالثا: في كتاباته لا يقفز دراز إلى استنتاجات أو أحكام معينة دون أن يدلل عليها ويسوغها منطقيا، والأدلة لديه بناء محكم يشد بعضه بعضا، وهي على درجات ثلاث: أدلة شرعية، وأدلة تاريخية، وأدلة منطقية عقلية. وتكاثر الأدلة وتدرجها يعني أنه لم يكن يكتفي بسوق الأدلة القرآنية دون أن يعضدها ببراهين منطقية عقلية، فكثيرا ما أرجأ الدليل القرآني إلى ما بعد الدليل المنطقي ليحمل على الاستنتاج بأن المنطق والعقل سيقودان حتما إلى التصديق بالقرآن.
الدين والإسلام
عني شيخنا عناية خاصة ببحث مسألة العلاقة بين الإسلام وغيره من الديانات وله فيها رؤى متميزة جاءت محصلة استنباط مباشر من النص القرآني دون العروج على مؤلفات وسيطة تاريخية أو معاصرة، ونقطة البدء كانت في تحديده لمفهومي الإسلام والدين.
والإسلام كما لا حظ دراز وصف أطلقه جميع الرسل على الديانات التي أتوا بها، وليس وصفا خاصا بالإيمان بما جاء به محمد صلوات الله عليه فهو اسم مشترك جامع بين الديانات السماوية “التي لم تتناولها يد الإنسان بتغيير أو تحريف” وعلى ذلك لا يصلح الإسلام لأن يكون محلا للتساؤل عن العلاقة بينه وبين الأديان السماوية إذ لا يسأل عن العلاقة بين الشيء ونفسه؛ فهاهنا وحدة لا انقسام فيها، كما يقرر دراز.
والإسلام هو الدين الوحيد المقبول، وليس هناك على وجه الأرض سوى دين واحد اعتنقه المؤمنون في جميع الأزمنة والأمكنة، وغير ذلك معناه اتخاذ موقف الرفض بل والإنكار لنصوص القرآن القطعية، ويمضي دراز موضحا أن مفهوم الدين لم يكن مفهوما ثابتا وإنما كل رسالة منزلة كانت تشكل لبنة وعنصرا في تطور المفهوم الذي اكتمل برسالة محمد الخاتمة، وعلى هذا تتساوى جميع الرسالات وكل المرسلين الذين شاركوا في كشف طبيعة ذاك الدين في الفضل، ولا يجوز أبدا لأتباعهم أن يفرقوا بينهم إذ التفريق بين رسل الله كفر، كما لا ينبغي لهم أن يفضلوا بعضهم على بعض؛ فتلك خطيئة تقوض العقيدة من أساسها وتفصم عرى الوحدة التي جعلها الله وتجعل من العواطف والهوى معيارًا للعقيدة.
ويذهب دراز خطوة أبعد موضحا معالم العلاقة بين الكتب المنزلة الثلاثة؛ فيذكر أن هناك مرحلتين للعلاقة: مرحلة ما قبل التبديل ومرحلة ما بعده؛ ففي المرحلة الأولى أتى القرآن مصدقا لما قبله من التوراة والإنجيل، وليس معنى التصديق عدم الإضافة أو التبديل إذ جاء الإنجيل ليحل بعض أحكام التوراة كما أحل القرآن بعضا مما حرمه الإنجيل، وحسب دراز فإن هذا ليس نقضا من المتأخر للمتقدم أو إنكارًاً لأحكامه وإنما هو وقوف بهذه الأحكام عند ظرفيتها التاريخية المناسبة.
أما مرحلة ما بعد التبديل ففيها يتحول القرآن إلى حارس ومهيمن على الكتب السماوية السابقة، ومن مقتضيات الهيمنة ألا يكتفي بتأييد ما ورد فيها من حق وعدل وصدق وإنما يتوجب عليه إبعاد التأويلات ونبذ التفسيرات الخاطئة التي نسبت زورا وبهتانا إليها، وهو بهذا يسدي للبشرية صنيعا بحفظه تراثها نقيا كما هبط من السماء.
القرآن في سورة منه
عرف عن دراز مقارباته القرآنية التي تفرد بها عما سواه ممن سبقوه أو خلفوه، وإنجازه الأساسي أنه استطاع التوفيق بين طرفين يتعذر الجمع بينهما نظريا حين انتظمت مقارباته الآليات المنهجية (الموضوعية) والتجربة الإيمانية (الذاتية) على حد سواء فأتت طرازا فريدا في بابها، وتعد نظراته حول فاتحة الكتاب نموذجا لهذا النظم، وهي تجمل منهجه في النظر إلى النص القرآني في كليته وارتباط أجزائه بعضها ببعض، والسعي إلى الكشف عن الوحدة الكامنة فيه خلف الكثرة البادية.
نظر دراز إلى الفاتحة نظرة جديدة فلم يكتف بالوقوف عند حدود آياتها ومعانيها، وإنما نظر إليها في علاقتها بباقي سور القرآن، مفترضا أنها على صغر آياتها تجمل مقاصد القرآن الكلية؛ وأن بقية السور ما هي إلا تفصيل وبيان لذلك الإجمال الذي حوته.
ومقاصد القرآن كما بينها دراز، مقصدان نظريان: هما معرفة الحق ومعرفة الخير، ومقصدان عمليان تثمرهما هاتان المعرفتان؛ فثمرة معرفة الحق هي تقديسه؛ وثمرة معرفة الخير التزامه.
الآيات الثلاثة الأولى من سورة الفاتحة عالجت مسألة التعريف النظري بالحق سبحانه وتعالى وصفاته في شذرات ثلاث انتظمت أركان العقيدة القرآنية في ترتيب بالغ الإحكام: المبدأ فالواسطة، فالميعاد (التوحيد، النبوة، الجزاء) وهي تسفر واقعا عمليا هو العبودية والاستعانة، أما الشق الثاني من السورة فيرتبط بالجانب البشري حين يعرض صور العمل الإنساني: المستقيم والضال والمنحرف ويناقشها على ضوء القيم الخلقية؛ فيجعل من الاستقامة معيارا يحدد للبشرية الصراط الذي ينبغي أن تسلكه ومن استحكمت معرفته بهذا الأصل النظري فإنه يسفر واقعا عمليا هو الهداية مصداقا لقوله تعالى: “اهدنا الصراط المستقيم.
على مستوى آخر من التحليل نظر دراز السورة من جهة أسلوب الخطاب مقارنة بعموم الخطاب القرآني؛ فوجد أنها السورة الوحيدة التي أتت على لسان البشرية على حين أتي بقية السور جاءت على لسان الربوبية ويفسر دراز الاختلاف في وجهة الخطاب إلى أن الفاتحة تجسد سؤال البشرية وحاجتها للهدي على حين أن باقي القرآن هو الهدى المطلوب.
ظل الشيخ دراز ممسكا بقلمه حتى انتقل إلى جوار ربه أثناء انعقاد مؤتمر الأديان بلاهور في يناير 1958 إذ لم يمهله الأجل أن يتلو بحثه الأخير أمام المؤتمرين فأحدث رحيله دويا هائلا وفراغا معرفيا مازال شاغرا.
د. فاطمة حافظ – باحثة أكاديمية في التاريخ