معذرة لزهير بن أبي سلمى،فتكاليف الحياة مقدور عليها لو تيسر للعازب أن يقتسم خبزه اليومي مع زوجة صالحة تعينه على الزمان، وأهل زوجة يرفقون به فلا يُحملونه من الأمر مالا يطيق.
لكننا اليوم بصدد تفتيت متأن للعلاقات الإنسانية، وإماتة بطيئة للأواصر التي تنفخ فيها الشرائع روح السمو و الرفعة، ثم لا تلبث “تكاليف الحياة” أن تزري بها،وتجعلها رهينة المكسب و العائد و الربح !
لا أخفي ضجري من الحديث المتكرر عن عزوف الشباب عن الزواج. يبدو الأمر وكأن السبل ممهدة، والخيارات متاحة،و المجتمع يوطئ أكنافه لمن يرغب في الإحصان وطلب النسل، بينما يقع اللوم كله على الشباب الناكر للجميل بإصراره على تعطيل مسيرة النمو ! هذا خطاب مجانب للصواب تماما، فالأصل أن المسلم طيب لا يرضى لنفسه وحياته إلا طيبا، وأن ما تشربه في طفولته من آداب المعاملة مع الوالدين, ورد الجميل للأمومة في حنوها وعطفها، والأبوة في كدها و بذلها يستحثانه لأن يسير على النهج، ويُخلف الذرية التي تُنيله من الحظوة و الاحترام ما ناله والداه.لا غبار على هذا المعطى في نفس كل شاب إلا من حُرم مقتضيات السعادة الأبدية.إن أسباب العزوف ، برأيي المتواضع، تنشأ من المجتمع ذاته..
من التربية التي انفصلت فيها الفكرة عن السلوك، فأضحت خشية الله وطاعة رسوله نصوصا تُتلى،أما المعتبر واقعا فهو خشية الناس،و الخوف من كلام الناس،وتجميل القبح طلبا لثناء الناس .
ومن المسار التعليمي الذي يستهلك نصف متوسط عمر الشاب،ثم يُلقى به في مضمار الحياة لاهثا خلف وظيفة أو فرصة عمل.وما إن يسترد أنفاسه متوهما أن حبال الشقاء لانت وارتخت حول رقبته،حتى تفجأه “تكاليف الزواج “بما لا طاقة له به.
ومن سلطة العادات و التقاليد المذمومة التي تكبل الإرادة، وتبدد الأمل و فرص العيش في طمأنينة. عادات تزج بمستقبل الشاب و الصبية في أتون الضياع للإبقاء عليها متوهجة !
ومن رزنامة القوانين التي تحيط الزواج بأسلاك شائكة. صحيح أن بعضها يضمن حماية العش الأسري، لكن البعض الآخر يثير المخاوف،ويضفي على الزواج سمة المغامرة المحفوفة بالمخاطر .
ومن أسباب الحياة المادية التي يمعن الاقتصاد الجشع،والسياسة العرجاء في تضييق خناقها،فلا تتمكن غير القلة القليلة من تحصيلها طلبا لعيش رغيد.
لا يكف الشباب المقبل على الزواج ،أو العازف عنه، عن إبداء تذمره وامتعاضه من ارتفاع مصاريفهخاصة المَهر الذي لم يعد تكريما للمرأة، بل صفقة لا تشذ عن مثيلاتها في عالم المال و التجارة.فأهلية الشاب تقاس اليوم لدى أغلب الأسر بالثروة أو الراتب الشهري، وبما يجنيه أو يملكه. في حين تراجعت باقي المقاييس أمام الفائدة التي ستجنيها الأسرة، أو على الأقل أمام ضمانات استمرار العلاقة وحفظ حقوق الزوجة.و المثير في الأمر أن العودة إلى الصيغة الثمنية المادية للمَهر تنسف المبادئ و الأحكام التي أرساها الإسلام لتكريم المرأة،والارتقاء بوضعها الاجتماعي، كما تنسف الجهد التاريخي الذي بذلته النساء لاسترجاع حقوقهن،ونبذ الصورة النمطية التي لحقت بهن منذ عصر الجمود و التقليد.فالمَهر الذي كان حتى الأمس القريب حقا يقدمه الزوج نظير المعاشرة وتكوين أسرة، والذي ارتقى على يد نماذج من السلف الصالح إلى مرتبة أعمال البر حين جعلت المرأة مهرها اعتناق الزوج للإسلام ،أو تعليمها بضع سور من القرآن، صار اليوم ثمنا لسلعة تباع وتُشترى، واتفاقية شراكة متعددة الأطراف، يُقدر فيها السعر بمقدار ما تتمتع به المرأة من جمال وحسب،أو مردودية إنتاجية في حالة المرأة العاملة خارج البيت !
في دراسة بعنوان ” أزمة الزواج في سوريا ” يخلص بوعلي ياسين، بعد بحث ميداني وقراءة للمعطيات الإحصائية، إلى جملة أسباب وعوامل تقف وراء ارتفاع التكلفة الاجتماعية للزواج. ورغم مضي أربعة عقود عن صدورها، لا تزال نفس العوامل مؤثرة على نحو واضح، بل هي اليوم قاسم مشترك بين المجتمعات العربية دون استثناء ! ويكفي التصفح العابر لوريقات تلك الدراسة لنكتشف الحضور القوي لسلطة الأهل،بل بالأحرى تسلطهم، في توجيه دفة الزواج بشكل يخدم مصلحة الطرف الثالث في علاقة يُفترض أنها “زوجية”.
يتمثل العامل الأول في الموقع الطبقي للأسرة،حيث يفرض الانتماء لطبقة معينة زيادة التكلفة المالية للزواج لأجل استبعاد مرشحين من طبقة أدنى.ويرتفع المهر وباقي نفقات الزواج تبعا لموقع الزوجين على درجات الهرم الطبقي في المجتمع،ليكتسي صبغة خرافية في بعض الأحيان.
أما العامل الثاني فمرتبط بالنزعة الاستهلاكية للأسرة،والفتاة تحديدا،و التي تجعل من الكلفة المالية للزواج مناسبة لسداد فواتير تكديس وابتلاع كم هائل من المقتنيات،وإرواء هوس مفرط بالتملك و تحقيق رغبة الصعود الطبقي التي تراود أسرا عديدة .
بينما لدى أسر أخرى يكون غلاء المَهر وسيلة لصد الرجل واستبعاده،خوفا على الثروة و المكانة .
في حين يتعلق العامل الأخير بأوهام الحب و الزواج أو الفهم الخاطئ للحياة،حيث تكون الكلفة المرتفعة وسيلة لتأجيل طلب الزواج إلى حين العثور على “فتى الأحلام” أو الانتهاء من التحصيل العلمي أو المهني.وهي بالطبع مغامرة خطرة في مجتمع يكافئ الاستعلاء على طالبي الزواج أو رفضهم بالعنوسة،و الاستبعاد الاجتماعي من القائمة ! ( أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي.ص9-73).
تستحث الدنيا طالبيها على التجرد من إنسانيتهم لقاء الاغتراف من ملذاتها. ذاك هو ملخص رحلة العذاب التي قاستها المرأة في كنف الأسرة ..
شيئا يباع مقابل فرو أو رؤوس من الماشية أو حفنة شعير ..
وشيئا يُدفع مقابل إبرام الصلح بين عشائر متناحرة .
وشيئا يُمنح دون مقابل للتزلف أو الاسترضاء.
ثم جاء الدين الخاتم ليسترد كيانها،وينفث في روعه آيات التكريم و التمجيد،وصيانة الحقوق المغتصبة. بيد أن نفوسا خلب لُبها بريق الأبيض و الأصفر ،فأبت إلا أن تنزع لحاء الشرف،وتلغي مقاييس المودة و التفاهم و الميل العفوي المتبادل،لتبعث النخاس من مرقده !
لما خضع المَهر مجددا للمساومة هاجت قريحة شاعر فنظم ما يلي :
قالوا الكفاءة ستة فأجبتهم ** قد كان ذلك في الزمان الأقدم
أما بنو هذا الزمان فإنهم ** لا يعرفون سوى يسار الدرهم .