القرآن إذا تلاه أحد بالاطمئنان يحصل السلامة والكرامة، ويشعر الفرح والطرب، يمتلئ قلبه بالإيمان والإسلام، يُخَفف به ثقيل القلب يُلطف به غليظ الصدر، يجتذب إليه قارئه يقترب منه سامعه، ينطوي كل ما هو يصلح، يدفع كل ما هو يصعب، قد أنزله الله مخرجا الإنسان من الظلمات إلى النور ومنوِّرا له في مظلماته ومضيئا له في مطباته، فجاء القرآن متناولا الإنسان بمختلف مجالاته، ومبرزا له ما فيه خيره وشره، وانتهج به الصلحاء منهجا صحيحا، ويسلكهم مسلكا سديدا، ويدخلهم في مدخل قويم، قد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على قراءته بالاستمرار واحتوى على الإعجاز بصور متنوعة وقد توارى كثير منها عن أنظار الناس، من قرأه يدرك الحسنة بعشر أمثالها كما قال النبي الكريم :” مَن قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرف”.

 لذا الكلمات التي تستعمل في القرآن تمتاز عن غيرها ، فلا بد من التنقيب بالتفصيل عن المفردات القرآنية لمعرفة جمال لغته وبلاغته. فيعتني الكاتب بهذه الدراسة بالبحث عما تدل عليه كلمة “الإنسان” في القرآن الكريم سائلا المولى دوام الخير وحسن التوفيق، فالإنسان كائن اجتماعي لا يمكن له العيش بدون المجتمع ويقدم حياته بالتعامل مع الآخر لذا خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان منذ بادئ الأمر أزواجا، فالتعامل والتحابب من فطرته التي فطر الناس عليها كما قال الله عز وجل: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ {سورة الروم: 30}

فكلمة الإنسان تدل على هذا الُخلق الأصلي في ذات الإنسان، وهي تطلق على من كثر أنسه  وتعني الوناسة فهو الكائن الذي أنست الأرض بوجوده وعكسها الوحش أي الوحشة ومكان موحش يعني المكان الذي يخلو من الإنسان. وكذلك  أن كلمة إنسان في كلام العرب يرجع إلى معنى الظهور، عكس الجن. ثم إنهم ذكروا للإنسان معنى آخر هو: النسيان ، ولو كان هناك احتمال لهذه المعاني الثلاثة فيرجح الباحث الأول على الثاني والثالث لأنه الأنس والألف هو ألصق لطبيعته وأصلح لفطرته، قد وردت كلمة الإنسان في القرآن الكريم 65 مرّة، فهذه المواضع التي استخدم القرآن فيها كلمة “الإنسان” اتصفت بصفة النقص كـ”الكفر، والظلم، والكنود، والطغيان والخسران، والفجور.

كما قال الله تعالى : ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ {سورة النساء: 28}، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ {سورة التين:4،5}، ﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ * كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ﴾{سورة العلق: 5،6} فالأمثلة على ذلك تطول، فنأخذ الآية الأولى المذكورة يوصف الإنسان فيها ضعيفا فالمراد بـ”الضعف” كما قال الإمام القرطبي في تفسيره “الجامع لأحكام القرآن” هو أن الإنسان لا يصبر عن النساء، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَوَاهُ يَسْتَمِيلُهُ وَشَهْوَتُهُ وَغَضَبُهُ يَسْتَخِفَّانِهِ، وَهَذَا أَشَدُّ الضَّعْفِ “، فالضعف صفة النقص الذي يُظهر عجز الإنسان، وقد اقترنت صفات “الظلم والكفر والعجل بكلمة الإنسان كما قال الله عز وجل ﴿وآتاكم مِن كُلِّ ما سَألْتُمُوهُ وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ﴾{سورة إبراهيم: 34} .

وقد ذكر الله من قبل هذه الآية النعم والبركات التي هيأ لبني الإنسان أنه خلق السماوات والأرض لهم وأنزل من السماء الدنيا ماء يستفيد به لإخراج الثمرات التي أعدها الله للناس، أتم لهم تسخير الشمس والقمر والفلك التي تجري في البحر والليل والنهار، وهذه كلها نعمات من الله عز وجل وفضله ولكن الإنسان لا يكون شاكرا لله سبحانه وتعالى لذلك وصف الله تعالى الإنسان ظلوما كفارا، لا يمكن للإنسان أن يشكر ربه بقدر ما أنزل الله له من البركات والنعم، فالإنسان ضعيف عجوز لأن يشكر الله جل وعلا ، فرصد الإمام فخر الدين الرازي في “مفاتيح الغيب” في تفصيل تلك الآية كما يلي: “أنَّهُ تَعالى قالَ في هَذا المَوْضِعِ: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ﴾ وقالَ في سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١٨] ولَمّا تَأمَّلْتُ فِيهِ لاحَتْ لِي فِيهِ دَقِيقَةٌ كَأنَّهُ يَقُولُ: إذا حَصَلَتِ النِّعَمُ الكَثِيرَةُ فَأنْتَ الَّذِي أخَذْتَها وأنا الَّذِي أعْطَيْتُها، فَحَصَلَ لَكَ عِنْدَ أخْذِها وصْفانِ: وهُما كَوْنُكَ ظَلُومًا كَفّارًا، ولِي وصْفانِ عِنْدَ إعْطائِها وهُما كَوْنِي غَفُورًا رَحِيمًا، والمَقْصُودُ كَأنَّهُ يَقُولُ: إنْ كُنْتَ ظَلُومًا فَأنا غَفُورٌ، وإنْ كُنْتَ كَفّارًا فَأنا رَحِيمٌ أعْلَمُ عَجْزَكَ وقُصُورَكَ فَلا أُقابِلُ تَقْصِيرَكَ إلّا بِالتَّوْقِيرِ ولا أُجازِي جَفاءَكَ إلّا بِالوَفاءِ، ونَسْألُ اللَّهَ حُسْنَ العاقِبَةِ والرَّحْمَةَ “.

وكما قال الله تعالى في موضع آخر ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودࣱ﴾ {سورة العاديات:6} فهنا اتصف كلمة الإنسان بصفة الكنود فأصل الكنود منع الحق والخير،  لِلْمُفَسِّرِينَ فيها أقوال، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ والضَّحّاكُ وقَتادَةُ: الكَنُودُ هو الكَفُورُ وقد ذكر صاحب التفسير الكبير قول الحَسَنُ: ”الكَنُودُ“ اللَّوّامُ لِرَبِّهِ يَعُدُّ المِحَنَ والمَصائِبَ، ويَنْسى النِّعَمَ والرّاحاتِ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ﴾ [الفجر: ١٦]” . فهنا وصف الله الإنسان الكنود لأنه كما قال الحسن إذا أتت الفضائل والنعم إلى الإنسان يكون قائلا “إن الله أكرمني” ولكن إذا امتحنه الله بقليل من المصائب تحول حاله فأصبح كأنه “يقول إن الله أهانني” فهذا عجز الإنسان وضعفه الذي لا يمكن للإنسان به أن يفهم ربه فهما صريحا.

وقال أيضا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} {سورة التين:4،5} وقد أتم الله تصوير الإنسان بصورة جميلة قيمة لكن، ثم يكون أسفل سافلين في حالة شيخوخته وقد يصبح عاجزا.

وقد ذكر الله تعالى كلمة الإنسان في سورة العلق {عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ * كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ} {سورة العلق: 5،6}، فأشار سبحانه وتعالى إلى أن الإنسان طاغ بعد أن كرمه وبالغ في التكريم على كثير من المخلوقات، كما ذكر الله تعالى في القرآن ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾{سورة الإسراء: 70} فربما  كان العلم الذي علّم الله الإنسان من أهم أسباب التكريم، لكن لا يشكر لمن وهب هذه النعمة العظيمة التي يمتاز بها الإنسان عن سائر الخلائق غاية الشكر لذا يصبح طاغيا كما ذكر في الآية. فهذا عجز الإنسان.

فاستخدم الله كلمة الإنسان عند ذكر نشأة الخلق كما قال الله تعالى ﴿خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ﴾ {سورة العلق:2} فالعلقة دم جامد مسفوح فمنها خلق الإنسان وكذلك قول الله تعالى﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةࣲ مِّن طِینࣲ * ثُمَّ جَعَلۡنَـٰهُ نُطۡفَةࣰ فِی قَرَارࣲ مَّكِینࣲ * ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةࣰ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةࣰ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَـٰمࣰا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَـٰمَ لَحۡمࣰا ثُمَّ أَنشَأۡنَـٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَـٰلِقِینَ﴾ {سورة المؤمنون: 12،13،14} فالمذكور في هذه الآية أطوار خلق الإنسان وهذا كله يدل على أن أصل الإنسان طين ثم كان هذا الطين النطفة وثم العلقة هكذا يمر أطوار خلق الإنسان. فحينما نفهم أطوار خلق الإنسان ندرك أنه عاجز بل عجوز فالإنسان شيء صغير لا يستطيع الكبر ولا يصلح له العظمة لأنه أوجده الله من ماء دافق يكره الإنسان نفسه، بعد استقراء هذه الآيات كلها يرتكز في الفكر أن الله قد استخدم في القرآن الكريم كلمة الإنسان لإبراز عجزه وضعفه، قد اختبأت في الكلمات القرآنية الفوائد المتعددة، الخصائص المتكاثرة، إذا طلبها المؤمن يبلغ إلى الخزائن العلمية يدخل على بوابة القصور المرموقة بالمعارف.