من قال إن زمن المعجزات قد انقضى؟ ألم يقل الله تعالى:” كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (سورة الإسراء2)؟ أليس المتحكم في الأسباب – سبحانه وتعالى – يُجريها ويخرقها كما يشاء لمن يشاء ومتى يشاء ؟
عبدٌ من عباد الله المتقربين إليه بشيء غير ذي بال من العبادة والطاعة واجهتْهُ معضلة دنيوية كبرى، فابتغى الأسباب من هنا وهناك لتجاوزها، وطرق الأبواب ، وقصد أصحاب الشأن وعرّج على المعارف والمسؤولية، وتوسّل وألحّ، لكن مساعيه باءت جميعا بالفشل،وعجز كل أولئك عن إغاثته، مرت الأيام واقترب أجل انتهاء القضية، جفّت الأقلام وطويت الصحف وأغلق الملف نهائيا ولم يبق إلا القدَر المحتوم.
ضاقت عليه لأرض بما رحبت، نظر يمنة ويسرة فرأى أن الأسباب قد تلاشت…أييأس و عالم التجريد مفتوح أمامه؟ أقامه الله في الأسباب فابتغاها فلما لم تسعفه بقي له أن يلتمس الحلّ بطرْق أبواب السماء مباشرة، ورأى أن الحلّ يكمن في شيء واحد لا ثاني له هو حدوث معجزة ربانية…وما ذلك على الله بعزيز، لكنه استحى اشدّ الحياء أن يسأل ربه ذلك، ومن هو حتى يلين له الحديد أو يطير بغير جناح أو يمشي على الماء؟ يطلب خوارق وهو العبد الضعيف الهزيل الفاني؟ ألا يعرف نفسه مكبلا بخطاياه وتقصيره وجرأته على ربه؟ تهيّب وتلكأ وتردّد وصار يقدّم رجلا ويؤخر أخرى خشية سوء الأدب مع الله تعالى الذي ما قدره حق قدره، ثم تذكّر دعاء عمر بن عبد العزيز ” اللهم إن لم أكن أهلا لأن أنال رحمتك فإن رحمتك أهل لأن تنالني” فتشجّع، وحفّزه قول ابن عطاء الله السكندري ” إلهي، مني ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك، كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمُك”، مع ذلك خاف أن يكون طلبه للمعجزة من الشهوة الخفية التي تنمّ عن الرضا عن النفس وتزكيتها والاغترار بصلاحها واستقامتها، وأين هو من كلّ هذا، ومنتهى آماله أن يلقى ربه ليس له لا عليه؟ وبعد تلعثم وتهيّب وتحت سياط الواقع الصعب المرير ومطالب البشرية الملحّة جدّد الهمّة وتجرّأ على ربّه الكريم، توَضأ وخلا بربّه وصلى وارتمى بكُلّيته على عتبة باب الله وتنصّل من الحول والطول والادّعاء والزعم والزيف، ودعا بإخلاصِ المستضعفين وإلحاح الموقنين، وتضرّع وباح بسرّه لربّه وناجاه وبكى وتبتّل بين يديه وتذرّع بضعفه وعجزه وفقره، وتوارت أوصاف العبودية خلف أوصاف الربوبية، وقال ” يا ربي كيف أتجاوز قدري وأطلب الخوارق وأنا أنا ، لكن كيف لا أطلبها منك- وقد بلغ بي الضرّ هذا المبلغ- وأنت أنت ؟ لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك.”
سحب الملف من أهل الأرض وأودعه من لا تضيع عنده الودائع.
تذكّر تفريج الله لكربات عباده الصالحين من غير أسباب: نجاة ابراهيم من النار وموسى من اليمّ، ويوسف من البئر ومن السجن، ويونس من بطن الحوت ولجة البحر، وأيوب على فراش المرض، ومحمد ﷺ في غار ثور… أجل هؤلاء أنبياء ليس له أن يقيس نفسه بهم، فقد سُبق سبقا بعيدا، لكنّه تذكّر قول الله تعالى بعد ذكر نجاتهم:”وكذلك ننجي المؤمنين”…أي هو عطاء رباني ممدود وليس محدودا، وهو مؤمن مسّه الضرّ، يرجو أن يفعل به ربّه ما فعل بأولئك كما وعد.
تمرّ أيام قليلة، يرنّ هاتفه ليُخبره أحدهم أن مسألته قضيت هذا الصباح وانتهى أمرُها والحمد لله.
هكذا إذًا؟ حدثت المعجزة.
تبادر إلى ذهنه قول الله تعالى على لسان سليمان عندما جاءه كرسي ملك سبأ من اليمن في غمضة عين: ” هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر.”