قال الباحث في التراث العلمي للحضارة الإسلامية أحمد حامد قشطة إن الدكتور فؤاد سزكين قد نجح في إيصال رسالته المُلهمة للكثير من الشباب المتعطش لمعرفة تاريخ أمته الإسلامية وإسهاماتها المختلفة في كل مجالات العلوم، إدراكًا منه بأن عودة المسلمين اليوم إلى تاريخ العلوم الإسلامية؛ تجعلهم يُدركون القدرة الإبداعية التي كانت لآبائهم.

وأوضح أحمد حامد أن الكشف عن فضل العلوم الإسلامية على الحضارة الغربية الحديثة، كفيل بإعادة الثقة لدى المسلمين في حضارتهم وفي تراثهم العلمي، وهذا من شأنه أن يدفع بهم نحو العمل الجاد والمنظم الذي يُفضي إلى رأب الصدع الحضاري الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية.

وقد أصدر الباحث أحمد حامد قشطة مؤخرًا كتابه “أسبقية العلوم الإسلامية عند فؤاد سزكين“، ضمن سلسلة “كتاب الأمة”، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر.. وكان هذا الحوار معه حول الكتاب وما يطرحه من قضايا.. فإلى الحوار:

كيف جاء صدور كتابكم «أسبقية العلوم الإسلامية عند فؤاد سزكين»؟

خالص التحية لكم ولفريق موقع “إسلام أون لاين”، في الحقيقة أنَّ موضوع هذا الكتاب قد صادَفَ هوًى عندي من قديم؛ فقد كنت شغوفًا بتتبُّع إسهامات العلماء المسلمين الأوائل في العلوم التطبيقية منذ نعومة أظفاري، من أمثال الحسن بن الهيثم (ت: 432هـ/ 1040م) في البصريات، وأبو الريحان البيروني (ت: 440هـ/ 1048م) في الجغرافيا بشِقَّيها الوصفية والرياضية، ويمكن اعتبار أنَّ إسهامات العالمين المصريين: علي مصطفى مشرفة (ت: ١٩٥٠م) وأحمد زويل (ت: 2016م) في العصر الحديث؛ قد أسهمت في إعادة تعزيز الثقة في العلماء المسلمين عند كثيرٍ من الشباب العربي.

كما كنتُ شَغوفًا بتتبُّع أسماء العلماء الذين حصلوا على “جائزة الملك فيصل العالمية” بالمملكة العربية السعودية، وهي التي يضعها البعض في مقابل جائزة نوبل، وعندما علمتُ أنَّ أستاذاً من أصولٍ تركية يُدعى “فؤاد سزكين” هو أول الحاصلين على هذه الجائزة الرفيعة في عام 1979م عن فرع الدراسات الإسلامية، بدأتُ في تتبُّع إسهامات هذا الرجل الذي كان موضوع دراسته المقدَّمة للجائزة “أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوروبية”، فوجدته قد كرَّس حياته العلمية في سبيل النضال عن قضية “أسبقية العلوم الإسلامية” على العلوم الغربية الحديثة، مستخدمًا في ذلك كل الوسائل العلمية التي استطاع التوفُّر عليها من خلال عمله أستاذًا لتاريخ العلوم في الجامعات التركية والألمانية.

للمسلمين مكانة في تاريخ العلوم لا تقل أهمية عن مكانة الإغريق

وكانت النقطة الفاصلة بالنسبة لي عندما قرأتُ حوارًا مكتوبًا؛ كانت قد أجرته مجلة “الأمة” القطرية في عددها الثاني مع د. سَزكِين، في شهر صفر 1401هـ الموافق لشهر ديسمبر 1980م، تحت عنوان “أول معهد لتاريخ العلوم الإسلامية”، وكان ذلك بمناسبة عمله على إنشاءِ معهدٍ لتاريخ العلوم العربية الإسلامية بمدينة فرانكفورت الألمانية، وهو المعهد الذي افتُتح رسميًّا عام 1982م.

كان تركيز د. سَزكِين في حواره على إثبات حقيقة أنَّ للمسلمين مكانة لا تقلُّ أهميةً عن الإغريق في تاريخ العلوم، كما أنَّ حضارة المسلمين ومعطياتهم بالنسبة لتاريخ العلوم لا تقلُّ عن أي حضارةٍ أخرى، كما ركَّز على أنَّ الاطلاع على تاريخ العلوم الإسلامية سيجعل المسلمين قادرين على تفهُّم تاريخهم والإلمام بجوانب حضارتهم، وكيف استطاع آباؤهم تحقيق ما وصلوا إليه من علمٍ وحضارةٍ في فترةٍ بسيطةٍ نسبيًّا.

وأعتقد أنَّ د. فؤاد سزكين قد نجح في إيصال رسالته المُلهمة للكثير من الشباب المتعطِّش لمعرفة تاريخ أمَّته الإسلامية وإسهاماتها المختلفة في كل مجالات العلوم، فهو يُشير إلى أنَّه بِعَودة المسلمينَ اليوم إلى تاريخ العلوم الإسلامية؛ سيُدركون القدرة الإبداعية التي كانت لآبائهم وكيف استطاعوا بالصبر وبذل الجهد أنْ ينجحوا، وسيتعلَّمون منهم أنَّ الاستمرار في العمل وتقدير جهد الإنسان الفرد يمكن أن يحقٍّق النتائج العظيمة.

ما الرسالة الأساسية التي يهدف الكتاب لبيانها؟

لقد كنتُ حريصًا خلال عملي في هذا الكتاب أن أسلِّط الضوءَ على دَور الحضارة الإسلامية في تأسيس العلم الحديث، كما أرادَ ذلك د. فؤاد سزكين في مشروعه الهادف إلى تأكيد وبيان هذه الحقيقة الغائبة عن كثيرٍ من المسلمين، ولأجل تحقيق هذه الغاية؛ جعلتُ الكتابَ في جزءين أساسيَّين:

الأول: يتمحور حول السيرة العلمية للدكتور فؤَاد سَزكِين بوصفه رائداً لتاريخ العلوم العربية والإسلامية، وأحد العبقريات العلمية التي استطاعت أن تترك أثراً واضحاً في مسيرة إحياء وبعث التراث العلمي للحضارة الإسلامية، معتمداً في ذلك على اعتزازه بإسلامه، وإيمانه بأنَّ “الإبداع الحضَاري المبكِّر في العلوم المدنيَّة والطبيعيَّة إنَّما كان ثمرةً من ثمرات الدِّين الإسلامي”، وقدرته على الجمع بين منهج السلف الصالح من العلماء المسلمين وبين المنهج العلمي الحديث، حتى استقامَ له في موسوعة “تاريخ التراث العربي” منهجٌ متميز، يتَّصفُ بالواقعيَّة والموضوعيَّة، ويجمع بين الشمول والوضوح.

الاطلاع على تاريخ العلوم الإسلامية يجعلنا نفهم تاريخنا وحضارتنا

وأمَّا الثاني: فيتمحور حول ما أثبته سَزكِين من إسهامات العلماء المسلمين في المجالات العلمية المختلفة، وأسبقيتهم في إبداع أو اختراع أو التوصُّل أو التطوير والارتقاء بكثيرٍ من العلوم المزدهرة اليوم، وقد تضمَّن عدداً من المحاور والموضوعات المهمَّة؛ من بينها:

• مركزية العلم في الإسلام.

• دَور الحضارة الإسلامية في تأسيس العلم الحديث.

• علم تاريخ العلوم عند المسلمين.

• طبقات علماء المسلمين.

• فروع المعرفة العلمية الإسلامية.

• أخذ وتمثُّل العلوم الإسلامية في الغرب.

ما أهمية الكشف عن فضل العلوم الإسلامية على الحضارة الغربية الحديثة؟

لا أجد في الإجابة في ذلك أفضل مما أشارَ إليه العالِم المصري الراحل د. علي مصطفى مشرفة، من أنَّ الأوروبيين عندما أفاقوا من القرون الوسطى عمدوا إلى إحياء ماضيهم؛ فبعثوا الثقافة الإغريقية من مَرقَدِها، وجعلوا منها أساسًا لنهضتهم، ثم يعقِّب بأنَّنا في الشرق قد هدانا وحيُ السَّليقة إلى منابعِ عظمتنا، إلى ماضينا ليكونَ قاعدةً لصرحِ تقدُّمنا”.

فأعتقدُ أنَّ مثل هذه الكشوف كفيلةٌ بإعادة الثقة لدى المسلمين في حضارتهم وفي تراثهم العلمي، وهذا مِن شأنه أنْ يدفع بهم نحو العمل الجاد والمنظَّم الذي يُفضي إلى رأب الصَّدع الحضاري الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية اليوم.

الحضارة الإسلامية لها دور كبير في تأسيس العلم الحديث

وبطبيعة الحال، فإنَّ مثل هذه الكشوف مما يؤكِّد على سُنَّة “تداوُل الأيام” التي هي مِن السُّنن الثابتة في هذا الوجود.. والأُمَّة الإسلامية ليست بعيدةً عن ذلك، على الرغم من أنَّها تحمل صفة الخيرية في قوله تعالى: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنّاسِ تَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنونَ بِاللَّهِ} ( سورة آل عمران :110).

هل لهذا الكشف فائدة علمية واقعية الآن، أم يقتصر الأمر على مجرد إنصاف الحضارة الإسلامية؟

الحقيقة أنَّ هذه الكشوف تحملُ في طيَّاتِها الكثيرَ من المنافع التي يجب أن تُستثمرَ في الارتقاء بواقع المسلمين، وقد حاولَ د. سَزكِين خلال مسيرته العلمية الطويلة، أنْ يستقرأ من هذه المنافع ما أطلقَ عليه “المبادئ الخاصَّة بحقبة العلوم الإسلامية”؛ وهي مجموعة من المبادئ العلمية التي تمثِّل السمات الأساسية لعصور النهضة الإسلامية في الفترة من القرن الأول للهجرةـ/السابع للميلاد إلى القرن العاشر للهجرة ـ/السادس عشر للميلاد.

وقد أوجز هذه المبادئ في النقاط الآتية:

– مبدأ النَّقد المنصِف.

– فكرة قانون واضح للتطوُّر.

– استعداد لذكر المصادر أكبر ممَّا عند البيئات الثقافيَّة الأخرى.

– تدوين تاريخ العلوم الذي بدأ في القرن ٤هـ/١٠م، وتطوُّره المتواصل.

– مبدأ الموازنة بين التجربة العملية والنظرية، واتخاذ التجربة كواسطة منهجيَّة في البحث العلمي.

– مبدأ الرَّصد على مدىً طويل، ونتيجةً لذلك أُنشئت دُور الرَّصد.

– تحصيل العِلْم ليس من الكتب فقط، وإنما من الكتب مع إشراف المعلِّم، فجاء على ارتباطٍ بذلك نُشوء أول الجامعات.

” فؤاد سزكين ” صاحب جهود مميزة في تبيين فضل العلوم الإسلامية.. نريد أن نوضح عمله بهذا الصدد.

تمثَّلت جهود د. سَزكِين في الكشف عن فضل العلوم الإسلامية؛ من خلال عدَّة مشاريع استطاعَ أن يعمل عليها بالتوازي من عمله الأكاديمي في الجامعات.

أول هذه المشاريع هو كتابه الموسوعي “تاريخ التراث العربي”؛ الذي شرعَ في العمل عليه منذ عام 1961م حينما كان يكتب تذييلاً على كتاب “تاريخ الأدب العربي” للمستشرق الألماني الشهير “كارل بروكلمان“، إلا أنَّه فضَّل بأخرةٍ أنْ يكونْ عمله مستقلاً عن كتاب “بروكلمان”، وقد كان مُحِقاً في ذلك؛ فكثرة المخطوطات التي تخطَّاها هذا المستشرق في كتابه، دفعت بسَزكِين إلى أنْ يتوسَّع في مشروعه ليشمل جميع المخطوطات الموجودة في العالَم، وقد بلغ عدد مجلَّدات هذا الكتاب 17 مجلَّداً، صدرت منجَّمةً خلالَ نصف قرن، ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين مختلفتين من حيث التناول والتحديد الزمني:

المرحلة الأولى: تمثًّل المجلَّدات العشرة الأولى التي تشمل الفترة من العصر الجاهلي وحتى عام 430هـ.

المرحلة الثانية: تشمل المجلَّدات السبعة الأخيرة التي تخصُّ العلوم العربيَّة كالطِّبِّ والجغرافيا والفَلَك والكيمياء، والتي يصل الاستقصاء فيها حتى القرن 11هـ/16م، وهي جديدة ولا نظيرَ لها عند “بروكلمان“.

وثاني هذه المشاريع: هو تأسيسه لمعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بمدينة فرانكفورت، منذ عام1982م، والذي سعى من خلاله إلى تحقيق هدفين رئيسيين:

1) إيقاظ المسلمين من سُباتِهم وتذكيرهم بريادَتِهم الحضاريَّة السابقة وحثِّهم على استعادتها.

2) تعريف الغربيِّين بالدَّور الكبير للعلماءِ العرب والمسلمين في بناءِ حضارتِهم.

وكان د. سَزكِين قد أشارَ إلى أنَّ فكرة إنشاء المعهد تهدف إلى دراسة وبحث العلوم العربية الإسلامية المعتادة في البيئات العلمية، وتكوين فرقة كبيرة من العلماء القادرين على بحث ما أنتجه العلماء المسلمون في جميع نواحي العلوم؛ ليبيِّنوها للعالَم وللمسلمين أنفسهم حتى يكون بمقدورهم تغيير الأفكار غير الصحيحة في تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين.

كما يهدف المعهد إلى العمل على أنْ يلتقي الأساتذة المسلمون بغيرهم، وأن تكون هناك أبحاث باللغة العربية وبغيرها من اللغات الحيَّة.

أبحاث سَزكِين أحدثت دويًا في دوائر الاستشراق الغربية

الجدير بالذكر أنَّ هذا المعهد قد أُلحِقَ به مُتحف لتاريخ العلوم العربية والإسلامية، اشتملَ على نماذج حيَّة من الأدوات والأجهزة التي ابتكرها العلماء المسلمون : مثل الأسطرلابات وآلات التشخيص والعمليات الطبية، ووسائل الرصد الفلكي، والأدوات المستخدمة في المجالين الميكانيكي والعسكري، ومشاريع الري الكُبرى.. حيث تُعرَض نماذج لهذه الآلات لتشكِّل بصمة يصعُب مسحها مِن تاريخ العِلم، وقد جعل سَزكِين هذا الآلات في أربعة عشر عِلْماً من العلوم الطبيعيَّة التي أسهمَ فيها علماء العرب والمسلمون، ليتجاوز عدد نماذج تلك الآلات المعروضة 800 نموذج.

ما أهم المجالات التي تم الكشف عنها.. في فضل العلوم الإسلامية؟

نستطيع أن نقول إنَّ تواجد د. سَزكِين في ألمانيا قد مكَّنه من التعرُّف على كثيرٍ مما توصَّل إليه المستشرقون الألمان في أبحاثهم المتعلِّقة بالتراث العلمي للحضارة الإسلامية، فحملَ كتابه “تاريخ التراث العربي” إضافاتٍ علمية لم يُسبَق إليها مثل كتابته عن تاريخ الكيمياء في الإسلام؛ فقد توصَّل في المجلَّد الرابع إلى أنَّ المسلمين هم مَن وضعوا حجرَ الأساس في تدوين علم الكيمياء الحديث، كما تطرَّق في المجلَّد السابع للحديث عن تاريخ علم الأرصاد الجوية لدى المسلمين؛ فقد أثبتَ أنَّ المسلمين في فترةٍ مبكِّرةٍ مِن تاريخهم، كانوا على درايةٍ بكيفية نشوء الرياح وحدوث المدِّ والجَزر وغيرها من الظواهر الجوية، ولم يُغفِل الحديث عن تواريخ علوم النبات، والحيوان، والطب، الرياضيات، وغيرها من العلوم.

وقد ظهرَ اهتمامه المتزايد بإسهامات المسلمين في الجغرافيا؛ حينما ابتدأ بتأليف المجلَّد العاشر، والذي كان فاتحة أعماله الجغرافيَّة، حيث أصدره باللغة الألمانيَّة في عام 1984م، تحت عنوان “الجغرافيا الرياضيَّة ورسم الخرائط في الإسلام واستمرارها في الغرب”، وكان مِن توفيق الله أنْ تيسَّر له في نفس عام إصداره لهذا المجلَّد، العثورُ على خريطةٍ تاريخية صنعها مجموعةٌ كبيرة من الجغرافيين والفلكيين للخليفة المأمون العباسي (ت: 218هـ/833م) في أوائل القرن ٣هـ/٩م، وذلك في ضمن كتاب “مَسَالِك الأبْصَار فِي مَمَالِك الأمْصَار” لابن فضل الله العُمَري (ت: 749هـ/1394م).

كيف تعاملت الدراسات الاستشراقية مع هذه الجهود؟ ومع فضل الحضارة الإسلامية بوجه عام؟

أحدثت أبحاث سَزكِين في مجال تاريخ العلوم العربية والإسلامية، دَوِيًّا في دوائر الاستشراق الأوروبية، والغربية بشكلٍ عام، ما بين فريقٍ انحازَ إلى الآراء السائدة في تاريخ العلوم الغربية بشأن عودة هذه العلوم إلى أصلٍ إغريقي قديم واعتبار الحضارة الإسلامية مجرَّد قنطرة عبور إلى الأوروبيين الجُدُد، وما بين فريقٍ فضَّل الانحياز إلى الحقيقة من خلال اعتبار الإسهامات التي قدَّمتها الحضارة الإسلامية، فارقةً في تاريخ العلوم العالمي.

وقد تصدَّى سَزكِين إلى بعض الآراء السائدة في الغرب، والقائلة بتهميش إسهامات العرب والمسلمين على صعيد تاريخ العلوم، مثلما فعل مع كتاب “1412: العام الذي اكتشفت فيه الصين العالَم” للضابط البحري الإنجليزي “غافن مَنزيس”، الذي اعتبرَ أنَّ البحَّارة الصينيين هم أصحاب السَّبْق في رسم الخرائط التي اعتمد عليها مَن جاءَ بعدهم مِن المستكشفين البرتغاليين، وأنَّ البحَّارةَ العرب والمسلمين ليس لهم قدرة بهذا الأمر. وقد أثبت سَزكِين زَيفَ الادعاءات الباطلة التي وردتْ في هذا الكتاب؛ مستعينًا في ذلك بعددٍ كبيرٍ من الوثائق والخرائط التاريخية التي تؤيد أسبقيَّة العرب والمسلمين في رسم هذه الخرائط.

الجدير بالذكر أنَّه قد صدرَ مؤخراً في عام2017م كتابٌ للباحثة الألمانية والصحافية في مجال العلوم “سُوزانه بيليغ”، تحت عنوان (خريطة بيري رئيس: المعرفة المنسية للعرب واكتشاف أمريكا)، وقد صرَّحت في مقدمة الكتاب باستفادتها الكبيرة من أبحاث أستاذ تاريخ العلوم العربية د. فؤَاد سَزكِين في مجال الجغرافيا عند العرب والمسلمين، وقد تُرجِم هذا الكتاب إلى العربية وصدرَ عام 2021م.

كيف حدث انقطاع تاريخي بين أمجاد الحضارة الإسلامية والعلوم الحديثة؟

الحقيقة أنَّ سُنَّة تداول الأيام قد جرت على الأمَّة الإسلامية، شأنها في ذلك شأنُ كثيرٍ من الأمم السابقة، فقد تغيَّر الحال عليها خلال القرون المتأخرة بفعل الحروب والنكبات التي ألمَّت بها.

ولنأخذ مثالاً على هذا الانقطاع بحادثة هدم مرصد إسطنبول الذي يُعتبر آخر المراصد الإسلامية المعروفة، وهو في الوقت ذاته أول المراصد العثمانية؛ فقد أنشأه السلطان مراد الثالث (ت: 1003هـ/1595م) الذي كان شغوفاً بالفلك والنجوم، في عام 1577م، وقد تأسس هذا المرصد بجهود العالم الفلكي تقي الدِّين الدمشقي (ت: 994هـ/1585م) الذي تُشير أعماله إلى براعته في علوم الفَلَك والعلوم الهندسية والميكانيكيَّة والرياضيات، ومن أشهر أعماله: كتاب “الطُّرُق السَّنِيَّة في الآلات الرُّوحَانِيَّة”، وكان “تقي الدِّين” قد أشارَ على السلطان مُرَاد بأنَّ بعض الجداول الفلكية التي كانت مستخدمةً حينها تشتمل على بعض الأخطاء؛ مما يترتَّب عليه ظهور أخطاء أخرى فيما يجري مِن حسابات، ثم ذهب إلى أنَّ تلك الأخطاء يمكن تدارُكها من خلال أرصادٍ جديدة؛ فاقترحَ على السلطان إقامة مرصدٍ في إسطنبول للقيام بهذا لأمر، وقد أجابه السلطان بالإعراب عن سعادته لتحقيق هذا العمل الذي سوف يكون من نصيب السلطان لأوَّل مرة.

الجدير بالذكر أنَّ هذا المرصد لم يكن مجرد منشأة صغيرة هامشيَّة، بل مؤسَّسة علميَّة وتعليميَّة كبيرة ضَمَّت، إضافةً إلى برج الرَّصْد الرئيس، كما تُشير المصادر، مباني لسكن العاملين ومكاتب للفلكيين وقاعة دَرْسٍ ومكتبة، كما جُهِّز بأحدث آلات الرَّصْد، وبهذا كان في ذلك الوقت أحدث المراصِد الإسلاميَّة وأهمها وأكبرها، ولا يقل عنها شأناً، وهي مراصِد سبقته شهرة، مثل مرصَد “أُولُغ بيگ” في مدينة سَمرقَند، ومرصَد “نصير الدِّين الطُّوسِي” في مدينة مَرَاغَة.

إلا أنَّه من المؤسف، فقد صدرت فتوى رسمية في عام 987هـ/1580م بهدم المرصد من طرف مفتي السلطنة العثمانية في ذلك الوقت: شمس الدِّين أحمد بن بدر الدِّين، المعروف بقاضي زاده، الذي رأى أنَّ تلك الأرصاد تتداخل مع التنجيم!

وقد اعتبر بعض المؤرخين أنَّ هذه الحادثة تصلح لأنّ يؤرخَ بها لبداية توقف إسهامات المسلمين في العلوم التجريبية، أو ما يمكن أن نطلق عليه بداية التراجع الحضاري؛ حيث ظهر بعد ذلك مرصَد “يورانيبورغ” الذي أسَّسه الفلكي الدنماركي “تيخو براهي” عام 1580م، فكان بداية الصعود والتألق الحضاري في أوروبا. فهذه الحادثة المؤسفة تُعتبر من أكبر الشواهد على ذلك الانقطاع التاريخي بين أمجاد الحضارة الإسلامية والعلوم الحديثة.

هل ستتابعون البحث في هذا الموضوع المهم؟

بالفعل كان هذا الكتاب دافعًا لاستكمال البحث في تراث د. سَزكِين؛ فقد تواصلتُ مؤخرًا مع معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (التابع لجامعة الدول العربية) في أمر الحصول على بعض مراسلات أعلام المعهد مع د. سزكين خلال القرن الماضي، وقد وجدتُ ترحيبًا بهذه الفكرة من طرف مدير المعهد د. مراد الريفي، الذي أبدى لي بعض النصائح والتوجيهات في سبيل العناية بتراث هذا العالِم.

وقد قام د. سَزكِين بزيارة هذا المعهد بتاريخ 22/9/ 1966م، وأثناء الزيارة تقدَّم بطلبٍ إلى مدير المعهد توفيق البكري بغية الحصول على نسخة “ميكروفيلم” من كتاب “مقتل الحُسَين” لأبي مِخنَف لوط بن يحيى (ت: 157هـ). من جانب بكري فقد وجَّه بتعجيل طلب سَزكِين وإهدائه إليه.

وهكذا كان سَزكِين دائمَ الترحال إلى مكتبات العالَم بحثاً عن نفائس المخطوطات العربية والإسلامية، ولذا فقد جاء كتابه “تاريخ التراث العربي” جامعًا لأماكن تواجد هذه المخطوطات، وهو ما يسَّر على الباحثين إمكانية تقصِّي حركة انتقال المخطوطات واستقرارها في بعض المكتبات العامة أو الخاصة.