الإرجاء موقف نفسي ينشأ غالبا في الفِتَن العظيمة وما يماثلها، فإن من سنن الاجتماع أن أي نزاع يشجر بين طائفتين قد يفرز فئة ثالثة محايدة – لأي سبب من أسباب الحياد- وهكذا وجد في عصر الفتنة الأولى وما تلاها أناس اتخذوا هذا الموقف المحايد.

وقد نشأ الإرجاء كرد فعل على المواقف التي وجدت إزاء مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، والتي توزعت إلى :

1-    فرقة رأت أن أول واجب على الأمة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقصاص ممن قتله.

2-    وفرقة رأت أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة واستتباب الأمور والتجلد حتى تتكشف ذيول المؤامرة ثم يكون استئصال شأفتها وقطع دابر دواعيها.

3-    وفرقة ثالثة رأت أن الخليفة المظلوم لم يتحمل ذلك الحصار الآثم إلا حرصاً على ألا تراق قطرة دم أو تثور أدنى فتنة بين أمة الإسلام، فالأولى بمن بعده جميعاً ألا يحركوا ساكناً وألا يكونوا طرفاً في أي نزاع!

4-    وفرقة رابعة رأت أن نزول عثمان عن مرتبة الشيخين مبرر كاف لقتله، وإنه ما من إمام إلى قيام الساعة لا يسير سيرتهما إلا استوجب الخلع أو القتل.

فإزاء هذه الآراء المتباينة نشأ الفكر الإرجائي ليُرجئ الأمر كله ويكله إلى الله!

ثم بعد ظهور الخوارج والشيعة أخذ الإرجاء يتطور تدريجياً، فظهر الخلاف في حكم مرتكب الكبيرة ومنزلة العمل من الإيمان، ثم ظهر جماعة دفعوا بالإرجاء إلى الحد المذموم والغلو، فبدأ الإرجاء يتكون على صفة مذهب، فقرر هؤلاء أن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان وأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الكفر طاعة، وأن الإيمان في القلب. فلا يضر الشخص أي شيء بعد ذلك ولو تلفظ بالكفر والإلحاد، فإنه يبقى إيمانه كاملاً لا يتزعزع.

وعن الأسباب السيكولوجية ( النفسية) التي تساعد على نشوء جو الإرجاء يقول طارق عبد الحليم: ” مذهب الإرجاء يتناسب مع من يتميع في موقفه ويؤثر السلامة على المخاطرة وإن كانت بالباطل ، فإن من تلفظ بالشهادتين مؤمن كإيمان جبريل! والأعمال لا تدل على إيمان وفسق أو حتى كفر “[1]

الإرجاء المعاصر

ذكر بعض الباحثين أن من مقالات المرجئة ما هو موجود في هذه الأزمنة، مما جزم أهل العلم بأنه من كلام المرجئة، الذي خالفت به أهل السنة، ومن ذلك:

1 – الإيمانهو التصديق والإقرار، وهذا مذهب مرجئة الفقهاء، وإليه ذهب جماعة من الماتريدية والأشاعرة، وهو مقرر في كثير من المعاهد والجامعات.

2 – الإيمان هو التصديق فقط، وقول اللسان شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، فمن صدق بقلبه، ولم يأت به- من غير إباء- فهو مؤمن ناج عند الله، وهذا معتمد الأشاعرة  والماتريدية، وهو أسوأ من قول مرجئة الفقهاء، كما لا يخفى، بل هو مذهب جهم على التحقيق، إلا أن متأخريهم يثبتون عمل القلب من الإذعان والانقياد، ويجعلونه نفس التصديق، كما سبق.

3 – الإيمان تصديق بالقلب، وعمل بالقلب، دون الجوارح، وهو قول عامة المرجئة، إلا جهما ومن وافقه، كما بين شيخ الإسلام.

4 – الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو قول المرجئة الأوائل، وبه يقول أكثر الماتريدية اليوم.

5– الكفر هو التكذيب، والجحود، وليس شيء من الأقوال أو الأعمال كفرا بذاته.[2]

الآثار السيئة للإرجاء المعاصر

1- من آثار الإرجاء المعاصر التشجيع على التفلت من التكاليف الشرعية – فمتى شاع أن من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن، ولو لم يعمل عملاً واحداً من أعمال الإسلام،فلماذا يُتعب بعض الكسالى وضعاف الإيمان أنفسهم، وقد وجدوا مستساغا لكسلهم وتفريطهم، وبخاصة أن فكر الإرجاء لا يُطلق على هؤلاء أي وصف يبغضهم في المعصية من نحو الفسق، بل يستوي هؤلاء والعاملون بدينهم في مسمى الإيمان والاتصاف به.

فقد حدثنا القرآن أن تصوُّر أهل الكتاب أنهم لن تصيبهم النار إلا أياما معدودة، هذا التصور منهم جرأهم على ارتكاب المعاصي، فكيف بمن يُصوَّر له أن دخول النار ليس مؤكدا مهما عمل من الكبائر، بل هو مُرجأ إلى أمر الله، مما يفتح له بابا من المغامرة، قال الله تعالى: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ” جاء في تفسير السعدي : ” والسبب الذي غر أهل الكتاب بتجرئهم على معاصي الله هو قولهم {لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} .

افتروا هذا القول فظنوه حقيقة فعملوا على ذلك ولم ينزجروا عن المحارم، لأن أنفسهم منتهم وغرتهم أن مآلهم إلى الجنة، وكذبوا في ذلك، فإن هذا مجرد كذب وافتراء، وإنما مآلهم شر مآل، وعاقبتهم عاقبة وخيمة، فلهذا قال تعالى {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} .[3]

2- يُساعد فكر الإرجاء على نشوء جو النفاق، فحسب الكافر أن يتلفظ بشهادة التوحيد مرة في عمره، ويكتسب بذلك  لقب الإيمان،ويفعل في مجتمعات المسلمين ما لا يتمكن من فعله لو احتل بلادهم مع كفره؛ ولذلك لم يحتج (نابليون بونابرت) ملك فرنسا في القرن التاسع عشر ليسيطر على قلب العالم العربي والإسلامي إلا إلى الإعلان عن دخوله في الإسلام واستخدام القوة ليصبح بذلك سلطانا على المسلمين باسم (الدين)؟!!

فقد أخبره المستشرقون الذين كانوا طلائع الاستعمار بعد أن درسوا أوضاع العرب والمسلمين وثقافتهم أن المسلمين يدينون بالطاعة لكل من تغلبوا عليهم بالسيف والقوة ما داموا يتظاهرون بالإسلام ؟! وما أن دخلت جيوش نابليون قلب العالم العربي ـ القاهرة ـ حتى أشاع خبر دخوله في الإسلام ـ وبما أن الإسلام والإيمان عند المتأخرين مجرد تصديق وإقرار دون عمل والتزام بأحكام الإسلام ـ فقد صار نابليون مسلم ؟ وبما أن السلطان لا يكون عند المتأخرين سلطانا شرعيا إلا بالغلبة والقهر فقد صار نابليون حاكما للمسلمين ؟!![4]

5- الفكر الإرجائي يعطل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعزز مقولة الشيوعيين ممن ينتسبون إلى الإسلام:  لا تسمح لأحد أن يتدخل بينك وبين ربك، فإذا حدثت أحدا عن الصلاة مثلا، وسألته : كيف حالك في الصلاة ، رد عليك بأن هذه علاقة بينه وبين ربه، ولا يسمح لك بالتدخل بينه وبين الله!

6- الفكر الإرجائي يفرغ القلب من الخوف من الله،  وَلَا يَصُدُّ عَنْ نَارِ الجحيم والعذاب الأليم مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات وعجائب اللذات إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف، وقد ذكر الله الخوف الذي يحمل على الاستقامة في  كتابه، فقال : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات: 40-41]. وقال تعالى : {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:9- 12].

وقال تعالى : {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } {وَجِلَةٌ } [المؤمنون: 60-61]

7- تسويف التوبة، أو عدم التفكير فيها أصلا، وذلك يؤدي إلى تكرار الذنب بعد الذنب حتى يعلو القلبَ الرانُ، وتضيع فرصة التوبة؛ ففي حديث حذيفة عند أحمد “تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير، فأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، حتى يصير القلب على قلبين أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربد كالكوز مجخيا ـ وأمال كفه ـ لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه ” مسند أحمد ط الرسالة (38/ 314) وصححه الأرنؤوط.

8- اتهام المصلحين والناصحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بأنهم تكفيريون متطرفون!فيُصبح تكفير المرتد جريمة، جاء في كتاب ظاهرة الإرجاء: ” من أفسد الأصول التي بناها المرجئة على هذا الاعتقاد – أي انحصار الإيمان فى التصديق القلبي وحده – أنهم حصروا الكفر فى التكذيب القلبي أيضا، حتى أنهم لم يعتبروا الأعمال الكفرية الصريحة كالسجود للصنم، وإهانة المصحف، وسب الرسول إلا دلالات على انتقاء التصديق القلبى، وليست مكفرة بذاتها

9- هذا المذهب يخدم الاستبداد السياسي، فإنه إذا كان لا يجوز الخروج على الحاكم إلا بالكفر البواح، فإن الإرجاء يجعل الحاكم المستبد مهما استبد وظلم وطغى وبدل في دين الله ، يجعله في أمان من الكفر بدعوى عدم الاستحلال؛ ولذلك قال النضر بن شميل : ” الإرجاء: دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون من دينهم. “[5]

وقد حدث هذا المشهد الهزلي أيضا في القرن الثامن الهجري عندما تظاهر التتار بالدخول في الإسلام فلما غزت جيوشهم الشام وحث شيخ الإسلام بن تيمية المسلمين على جهادهم فإذا بعلماء عصره وفقهائه يتصدرون له ويحرمون قتال التتار بدعوى أنهم قد صاروا مسلمين ؟!!!

وقد ذكر المؤرخ الكبير ابن كثير في تاريخه في حوادث سنة 702هـ شيئا من هذا المشهد الذي يكشف جانبا من جوانب الأزمة الفكرية التي أدت إلى انحطاط المسلمين حيث قال: (وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتار فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام؛ فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه)؟!

وقد اضطر شيخ الإسلام ابن تيمية للتأليف في بيان حكم هذه المسألة وأورد الحجج على وجوب جهاد هؤلاء التتر الغزاة لا ليقنع العامة من المسلمين بل ليقنع كبار علماء عصره الذين عارضوه وحملهم الورع الزائف على رفض الجهاد والاستسلام للعدو وإضفاء الشرعية على الواقع ؟!!


[1] – مقال بعنوان الإرجاء والمرجئة منشور بمجلة البيان.

[2] – الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير – 1/308

[3] – تفسير السعدي صـ 126

[4] – انظر : د. حاكم المطيري في مقاله : إســــلام نابليــون

http://www.dr-hakem.com/Portals/Content/?info=TlRZMUpsTjFZbEJoWjJVbU1RPT0rdQ==.jsp

[5] – البداية والنهاية ط هجر (14/ 221)