الأحلام والرؤى شغلت الإنسان منذ قديم الزمن. ولا زال يحاول فهم ماهية الحلم أو الرؤيا المرتبطة بعملية النوم. فمن الناس من ذهب إلى أنها رسائل من الغيب، وقائل إنها عمليات تنفيس عما بالصدر من مكبوتات أو أعمال ناقصة في عالم الوعي، فتظهر في الأحلام والرؤى لتكتمل بصورة وأخرى. وفريق ثالث يرى أنها أضغاث أو خليط مشاعر لا معنى لها أو لا تقدم ولا تؤخر، وفريق آخر يراها عمليات كيميائية ضمن عمليات الصيانة الليلية التي يقوم الجسم بها لنفسه، إلى غير ذلك من تفسيرات وتعريفات.
لكن على رغم تعدد التفسيرات والتأويلات والشروحات، إلا أن المرء منا يسعد بالأحلام أو الرؤى الجميلة، ويحزن للسيئة والمزعجة منها. والناس في هذا الأمر مذاهب ومآرب. منهم من يأخذها بجدية واهتمام، وآخر لا يبالي كثيراً، فيما فريق ثالث بين هذا وذاك، ورابع لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
موضوع الأحلام والرؤى ليس بالذي يمكن تجاهله، ولا بالذي يمكن أن يُترك ليشغل البال. الأصل كما هو في ديننا في غالب الأمور، التوسط. فلا إفراط ولا تفريط. أي لا ننشغل بها ونتأثر فرحاً أو حزنا، ولا نتركها جملة واحدة، خاصة تلكم الرؤى القصيرة الواضحة، ذات الرسائل القابلة للتأويل والتفسير.
رسولنا الكريم – ﷺ – مضت عليه ستة أشهر قبيل بدء الرسالة وهو يرى رؤى متنوعة، كما تقول السيدة عائشة – رضي الله عنها -:” أَول ما بُدئ به رسول الله – ﷺ – من الوحي، الرؤيا الصَّالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إِلا جاءَت مثل فلق الصبح”. أي كانت واضحة وضوح النهار، فتقع أمامه تماماً كما رآها في منامه. ورؤى الأنبياء حق ووحي. وقد جاء عن النبي الكريم – ﷺ – أن ” الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ” كما رواه البخاري ومسلم. وبلغة الحساب: واحد على ست وأربعين يكون حاصله نفس حاصل ستة أشهر مقسمة على مدة الرسالة النبوية، أو عدد شهور ثلاث وعشرين سنة وهي 276 شهراً، وإن كان هذا ليس حديثنا بقدر ما هو بحث موجز حول ماهية الحلم أو الرؤيا، وإلى أي مدى يمكن التعاطي معهما.
الحلم غير الرؤيا
جاء في البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي – ﷺ – يقول:” إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها ولا يُحدّث بها إلا من يحب. وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره “. ومن هنا يمكن أن نطلق الرؤيا على ما يراه النائم بوضوح وصفاء وذا معنى وفي أوقات النهار حيث الضياء. أما الأضغاث والفوضى وعدم الوضوح وخاصة في أوقات الليل حيث الظلام وعدم الوضوح، فيمكن أن نطلق عليه بالحلم، ويكون عادة من الشيطان كي يحزن صاحب الحلم كما في حديث أبي هريرة في الترمذي أن (الرؤيا ثلاث: فبشرى من الله، وحديث النفس، وتخويف من الشيطان، فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقص إن شاء، وإن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد، وليقم يصلي). وعلى هذا سيكون حديثنا وتركيزنا على الرؤى الواضحة، بعيداً عن أضغاث الأحلام، وما أكثرها.
هل للرؤى لغة خاصة؟
يمكن القول بأن للرؤى لغة خاصة، أو إن أردت عبارة أكثر دقة وبلغتنا المعاصرة أو حياتنا الرقمية التي نعيشها، فيمكن القول بأن للرؤى شفرات خاصة تحتاج من الرائي فكها، سواء بما عنده من علم أو بمعية آخرين لهم في تأويل الرؤى علم وخبرة. لكن قبل التأويل، من المهم التعرف على بعض صفات الرؤيا الصالحة، والتفريق بينها وبين أضغاث الأحلام. من ذلك: أن الرؤيا ما إن يستيقظ الرائي حتى يتذكر معالمها بوضوح شبه تام، بل أحياناً تكون واضحة كأنما يراها رؤي العين، إلا من بعض أجزاء كما لو أنها رسالة سرية أو شفرة أو برقية، وتحتاج فك طلاسمها وحروفها.
من صفات الرؤيا أيضاً أن يجد الرائي راحة وانشراحاً بعد الاستيقاظ، وإن لم يبدأ بعدُ في التأويل والتفسير، وفك المشفرات والرسائل السرية في رؤيته، لأن الرؤيا الصالحة – كما أسلفنا – من الله، وهي بالتالي بشرى منه سبحانه للرائي، تستوجب حمداً وشكراً ونية طيبة وعزماً على ذكرها للمحبين أو أقرب المقربين، كي يتم تأويلها وتفسيرها معاً، مستحضرين أحداثاً ومواقف حياتية لها صلة بالرؤيا من قريب أو بعيد، في محاولة علمية لربط المعطيات ببعضها لأجل فك شفرات الرؤيا. إذ ربما هي رسائل معينة مطلوب من الرائي القيام بها، أو بشارات لخيرات قادمة أو غيرها مما ينشرح لها الصدر.
هل للرؤيا علاقة بالروح؟
تأمل معي قوله تعالى { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ۖ فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ۚ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } (الزمر : 42) ستدرك أن النوم ما هو إلا موتة صغرى، أما الكبرى فهي عند خروج الروح نهائياً من الجسد. لكن ما يحدث عند نوم أحدنا أن تخرج الروح – كما في تفسير البغوي – ويبقى شعاعها في الجسد، وبذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى جسده بأسرع من لحظة. ويقال: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فتجتمع وتتحادث وتتعارف في عالم البرزخ ما شاء الله لها، فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها، أمسك الله أرواح الأموات عنده، ويرسل أرواح الأحياء لترجع إلى أجسادها، وتعيش ما كُتب لها من العمر إلى انقضاء مدة حياتها.
معنى هذا أن رؤيتك لآخرين، سواء كانوا من الأحياء أو الأموات، من تعرفهم أو لا تعرفهم، فلأن الأرواح التقت في عالم البرزخ وقت نومك. وهذا العالم بحكم قوانينه، لا يمكن لأجسادنا الذهاب إليه لأنها غير مهيأة له، إنما الأرواح تستطيع فقط. وهناك تتلاقى أرواح الأحياء مع الأموات، أو حتى مع أرواح الأحياء، فيحدث تعارف أو نقاش بينها حول أمور قد تتعرف على بعضها حال استيقاظك من النوم، أو أخرى لا تعرفها لكن تمت الإشارة إليها في ذلك اللقاء مع أرواح الآخرين، فتكون بالنسبة لك كرسائل أو شفرات محددة، مطلوب منك تفكيكها وتفسيرها أو تأويلها.
لا نريد الإسهاب أكثر في هذا الموضوع، لكن خلاصة الحديث أن الرؤى وإن كانت صادقة مبشرة، لا ينبني عليها أي أمر ولا حكم شرعي كما يقول الفقهاء، لكن لا بأس أن يتفاءل بها المسلم ويحدث بها من يحبه. ولا يلزمه كذلك العمل بها إن كانت خارج إطار المباح شرعاً، وإنما لا بأس بها إن كانت هناك مصلحة راجحة للرائي، أو تبشير بخير أو تحذير من شر. لكن ليحذر الرائي ألا يتخذ قرارات مصيرية بناء على رؤيا، فهذا أمر خاص بالأنبياء فقط. بمعنى آخر، لا إفراط ولا تفريط في التعامل مع عالم المنام، الذي يحتاج لكثير بحث وتأمل ودراسة، لأنه جزء من الأسرار والآيات المرتبطة بالإنسان، التي يدعونا سبحانه للتأمل فيها وتدبرها، كما في قوله تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } (الذاريات :21).. فاللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.