عرفت التجارب الحضارية الوقفَ العلمي والتعليمي، إيمانا بحق الإنسان غير القادر في تحصيل العلم والمعرفة، وإمدادا للتعليم والحركة العلمية بالموارد التي تكفل استمرارها، وتوفيرا للبيئة الصالحة للتعلم، فنجد الفيلسوف أفلاطون بني مدرسة عام (374 قبل الميلاد) وخصصها للنفع العام، وبقيت قرابة التسعمائة عام.
وفي العصر الحديث عرفت الأوقاف طريقها للتعليم وساهمت في ترقيته، مثل جامعة “أكسفورد” العريقة في بريطانيا، وكانت البداية عندما خصص لها “وليام دورهام” William Durham، 200 جنيه استرليني، كذلك هناك أوقاف لجامعة “كامبرديج”، وتمتلك الجامعتان أكبر الأوقاف التعليمية في أوروبا، وتنفق تلك الأوقاف على عناصر العملية التعليمية الثلاث: التدريس والبحث والسكن، وتمتلك أكسفورد أصولا وقفية تزيد على 1.3 مليار جنيه استرليني، أما الأوقاف التعليمية في الولايات المتحدة فضخمة، واعتمدت فكرة استثمار الوقف، فتمتلك جامعة “هارفارد” ما يقرب من (13) ألف صندوق خيري تشرف عليها خلال شركة استثمارية.
تشير دراسة أن 90% من الجامعات الغربية يساهم الوقف في تشغيها إما كليا أو جزئيا، وأن حجم تمويل الوقف للمؤسسات التعليمة في الولايات المتحدة يبلغ 119 مليار دولار، وأن “هارفارد” التي أسسها “جون هارفارد” عام 1636م، بلغ حجم أصولها المالية الوقفية عام 2021 أكثر من 53 مليار دولار، وهي جامعة تصنف الأولى عالميا، وتؤكد دراسة-أخرى- أن هناك (809) مؤسسة وقفية تعليمية في الولايات المتحدة، وتتنافس الجامعات لجذب الأوقاف، فجامعة “تكساس” يساهم وقفها في تدعيم أكثر من (180) ألف طالب، وقد خصصت لها عام (1876م) ولاية تكساس حوالي مليون فدان كوقف خيري، وزاد من ثرائها تدفق البترول.
لـــكن تجربة الوقف التعليمي في الحضارة الإسلامية كانت أعمق وأكثر تأثيرا، فقد رُبط الوقف كفهوم وممارسة بالبعد الديني والأخروى، فأصبح الواقفون لا ينتظرون أجرا ولا ثناءا، ولا ينتظرون أن يروا نضج الثمرة في حياتهم، وكان يكفيهم أن يوفروا ما يكفل الحياة لتلك الأوقاف لأمد طويل، على اعتبار أن ثوابها يعود إليهم، فهو امتداد لحياتهم كما ذكر الحديث النبوي الشريف: “إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له”[1]، وربما هذا ما جعل الوقف يمتد طيلة قرون الإسلام، وفي جميع أراضيه بلا استثناء.
أوقاف العلم والتعليم
تعد الأوقاف التعلييمة، من الأسباب الرئيسية في نهوض الحركة العلمية والفكرية، نهوض عرفته البقاع المختلفة التي احتضنها الإسلام، وكذلك قرونه المتعاقبة في الزمان، فكفل الوقف للتعليم والعلم الحياة والاستمرار من خلال توفير الموارد، وقد تنوعت تلك الأوقاف ما بين إنشاء المدارس، والمكتبات، ونسخ الكتب، ورعاية الطلاب من خلال توفير السكن وسبل المعيشة للتفرغ لطلب العلم.
المدارس: جاء ظهور المدارس وكثافتها، وانتظام التدريس بها، وتوفير مواردها، في الظهور مع أواخر القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع، فأوقف الإمام “أبو حاتم محمد بن حبان الشافعي” مدرسة في نيسابور، سميت بالمدرسة البيهقية، وألحق بها خزانة للكتب، وسكنا للطلاب، كما عرفت دمشق المدارس الوقفية مثل المدرسة الصادرية، وهي أول مدرسة للأحناف أنشئت في دمشق عام 491هـ، ودرس فيها كبار العلماء.
وتعد المدرسة النظامية، من أهم المدارس الوقفية في التاريخ الإسلامي، فقد أنشأها الوزير السلجوقي “نظام الملك الطوسي” في بغداد عام 485هـ، وكانت مؤسسة تعليمية قوية لها فروع في المدن الكبرى في العراق وبلاد فارس، وهي تشبه الجامعة في عصرنا الحالي، وكان الجديد الذي رسخته تلك المدرسة اعتماد نظام تعليمي منتظم وثابت، قائم على التخصص المعرفي، وانتظام الحضور للطلاب، وكانت أوقافها تكفل معيشة الطلاب، وتوفر أجور المدرسين والعلماء بها، وقد درس فيها حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، ووصف أوقاف تلك المدرسة الرحالة “ابن جبير” بقوله: “إن لهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محبسة تصير إلى الفقهاء المدرسين بها، ويجرون بها على الطلبة ما يقوم بها”، وذكر أن وقف المدرسة النظامية ببغداد كان (15) ألف دينارا شهريا.
أما المدرسة المستنصرية ببغداد، والتي أنشأ الخليفة العباسي المستنصر بالله، فتعد من أشهر المدارس في التاريخ الحضاري الاسلامي، وكانت تُدرس بها المذاهب الأربعة، إلى جانب الطب والرياضيات، وأبدى المؤرخ والمفسر “ابن كثير” في تاريخه “البداية والنهاية” إعجابه بها، وما خُصص لها من أوقاف كفلت رعاية الطلاب والمعلمين، فيقول عن أحداث (631هـ): ” كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد، ولم يبن مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة من كل طائفة اثنان وستون فقيها، وأربعة معيدين، ومدرّس لكل مذهب، وشيخ حديث وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقُدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد”.
وقد حوت الوثائق الوقفية للمدارس تفاصيلَ دقيقة، مثل: أعداد المدرس، ومذاهبهم، وأعداد الطلاب الذين سيرعاهم الوقف، من حيث السكن والطعام والمكافآت، إضافة إلى الآداب التي يجب أن يتحلى بها الطلاب، ومن عجائب الأوقاف التعليمية، وقف بغلة شيخ الأزهر، وهو وقف لرعاية بغلة شيخ الأزهر وإطعامها، لتيسر على الشيخ الذهاب للأزهر.
أما وقف جامع القرويين بفاس المغربية، والتي تُعد أول جامعة في التاريخ، فقد شُرع في بنائه عام 245هـ وأوقفت للجامع السيدة “فاطمة بنت محمد الفهرية” الملقبة بـ”أم البنين” الكثير من الأموال والأراضي، وتوسعت أوقافه بصورة كبيرة، وحسب المؤرخ “عبد الهادي التازي” فإن الدولة اقترضت من أوقاف القرويين للانفاق على المساجد في فاس، ووصل ريع بعض تلك الأوقاف إلى المسجد الأقصى، والحرمين الشريفين بمكة والمدينة.
أما الدولة الزنكية والأيوبية والمملوكية فكانت من أكثر الدول في التاريخ الإسلامي التي أُنشئت فيها المدارس الوقفية، فقلما خلا حي من أحياء القاهرة من مدرسة موقوفة، يقول “ابن خلدون” عن تلك الفترة ” :”فكثرت الأوقاف لذلك وعظمت الغلات والفوائد، وكثر طالب العلم ومعلمه، بكثرة جرايتهم منها، وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب، ونفقت بها أسواق العلوم وزخرت بحارها.
المكتبات: حظيت المكتبات برعاية الوقف، فندر أن تجد مدرسة وقفية لم تُلحق بها مكتبة ضخمة، يذكر “ابن كثير” في تاريخه أن المدرسة المستنصرية: “وقفت لها خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها وجودة الكتب الموقوفة بها”، أما الوقفُ على الكتاب، فأوصى كثير من العلماء بوقف كتبهم ومكتباتهم لطلبة العلم، مثل المؤرخ والمحدث “الخطيب البغداي” المتوفى ت463هـ، و الطبيب الشهير “ابن النفيس”، الذي أوقف كتبه على البيمارستان المنصورى أشهر المشافي التي عرفتها الحضارة الاسلامية.
ويذكر الأديب واللغوي “ياقوت الحموي” أنه كان في مدينة “مرو” (الواقعة حاليا في تركمانستان) وحدها حوالي عشر مكتبات موقوفة، وذلك في القرن السابع الهجري، وأنه لم يرى في الدنيا مثلها لجودة الكتب وكثرتها، وتتحدث كتب التاريخ عن رجل يسمى “عزيز الدين أبو بكر عتيق الزنجاني” أوقف مكتبة بها (12) ألف مجلد، ويذكر “الحموي” عن وجود نظام للاستعارة في تلك المكتبات، وأنه كان يوجد في بيته حوالي (200) كتاب مستعار من تلك المكتبات الوقفية، واحتوت المكتبات على غرف كثيرة للقراءة، وأخرى لنسخ الكتاب، ومنعت بعض الوقفيات استعارة الكتب حفاظا على المكتبة من التبديد والاتلاف، واشترطت وقفيات أخرى وجود عارية أو رهن مقابل استعارة الكتاب.