تريد أن تكون من المحسنين.. اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. ذاك هو التعريف المحمدي الجبريلي للإحسان.. وعليه تصبح مفردة الإحسان القرآنية تعني وباختصار الإتقان والجودة  “والله يحب المحسنين”.

كثيرا ما نتحدث عن الشريعة بوصفها رسالة تهذيب وتأديب، وننسى أنها رسالة عمران  وتنمية بشرية ومهارية، وأن لها قيما وأصولا في تزكية الحياة ونشر العدل وإقامة المصالح.. ومراقبة الجودة. ربما كان هذا هو الطريق الأصعب.. المفهوم الحضاري للإحسان أو الشريعة، بحسبانها المصنع قبل السجن، والفأس قبل السيف، والمهارة قبل “الشطارة”، والتدريب قبل الادعاء، والاتقان قبل الولوج، والفهم قبل الحفظ!

نؤكد على أن هناك علاقة متداخلة بين الإتقان والإحسان، غير أن الإتقان عمل يتعلق بالمهارات التي يكتسبها الإنسان، بينما الإحسان قوة داخلية تتربى في كيان المسلم، وتتعلق في ضميره وتترجم إلى مهارة يدوية أيضا؛ فالإحسان أشمل وأعم دلالة من الإتقان، ولذلك كان هو المصطلح الذي ركز عليه القرآن والسنة..

هناك علاقة متداخلة بين الإتقان والإحسان، غير أن الإتقان عمل يتعلق بالمهارات التي يكتسبها الإنسان، بينما الإحسان قوة داخلية تتربى في كيان المسلم

وقد وردت كلمة الإحسان بمشتقاتها المختلفة مرات كثيرة في القرآن الكريم، منها ما ورد بصيغة المصدر اثنتي عشرة مرة، بينما وردت كلمة المحسنين ثلاثا وثلاثين مرة، وبصيغ اسم الفاعل أربع مرات، واللافت للنظر أنها لم ترد بصيغة الأمر إلا مرة واحدة للجماعة: “وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”.

وبغض النظر عن معاني الإحسان الواردة في القرآن الكريم فإنه وبوصفه مفهوم الجودة الحضارية الإسلامية هو الباب الأوحد لعودة الأمة المسلمة لقيادة الركب مرة اخرى، ولابد في هذا الإطار من إدراك العلاقة المباشرة بين الخيرية الإسلامية ومفهوم الإحسان، فإدراك العلاقة أساس لمدخل صحيح للوصول إلى تحقيق تلك الخيرية في اعلى صورها.

فإذا كانت الخيرية ميزة حضارية امتازت بها الأمة الخاتمة على من سواها “كنتم خير أمة أخرجت للناس” فإن هذه الميزة لم تكن مطلقا مجرد نوط تقدير وهبه الله عز وجل هكذا محاباة او مجاملة للأمة أو لشخص نبيها ، ولكنها كانت ميزة مشروطة، فإذا غاب شرطها غابت تجليات تلك الميزة بكل تفاصيلها.. فهي خير أمة لأن أفرادها “…. تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”…هذا هو منطق الخيرية أو الريادة أو التميز، يقول ابن كثير: “يعني خير الناس للناس والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس..

ويؤكد المعنى صاحب الظلال -عليه سحائب الرحمة- حينما يقول في هذه الآية: ” لا عن مجاملة ولا عن محاباة ولا عن مصادفة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، كلا إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر وإقامتها على المعروف مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر

إذن الإصلاح بكل ما تحمله كلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من إيحاءات تتجه نحو القضاء على كل مظاهر الفساد، والدعوة إلى ترسيخ قيم الحق والعدل والحرية والتنمية والعمران.. كلها معان ترتبط بمفهوم الإحسان بوصفه  مفهوم الجودة الحضارية، وهذا ما عنيناه حينما أكدنا على العلاقة المباشرة بين الخيرية الإسلامية ومفهوم الإحسان بوصفه الباب المباشر والأوحد لها..

وهنا يمكننا قبل الولوج إلى بعض التفصيلات حول المفهوم ومجالاته المختلفة أن نسأل بداية: هل هناك علاقة متداخلة بين الإحسان والضمير؟ بمعنى هل غياب الإحسان يعني أن المسلمين يعانون من أزمة ضمير؟

والحديث ليس عن إحسان متعلق بعمل لغير البشر فقط، بل حتى بإحسان متعلق بعمل لله عز وجل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: “تِلْكَ صَلاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاةُ الْمُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، أَوْ عَلَى قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا، لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلا قَلِيلا

الإحسان جزء من فقه المقاصد والتي في بعدها الضروري تحافظ على الحياة وفي بعدها الحاجي تحافظ على نظام الحياة، وفي بعدها التحسيني تحافظ على جمال الحياة

إن النبي هنا يضع خطا فاصلا بين المؤمن المحسن وبين المسلم المنافق، وهو بذلك يكمل الخط البياني الذي أقره القرآن الكريم حين نعى على ذات الصنف قائلا: “إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء…” على العكس من الصنف الآخر الذي تحدث عنه رب العزة قائلا في اللحظة النهائية : “هل جزاء الإحسان إلا الإحسان…”!! إنهم أحسنوا العبادة وأحسنوا المعاملة وأحسنوا الحياة والعمل فلا بد من أن يكون جزاؤهم بذات المعيار وهو الإحسان!

إن الحديث هنا عن إحسان متعلق بالله جل وعلا يفتح الباب إلى انواع من الإحسانات متعددة، جعلها الله اوامر قرآنية وفصل بعضا آخر منها النبي ، تسعد البشرية لو تعاملت معها بذات منهج الإحسان، حتى ولو كان ذبح الأنعام التي ذللها الله لنا.. فالتعامل ليس على أساس الفعل لكنه على أساس المنهج، قال : “إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته..”

إنه منهج لا علاقة له بطبيعة الفعل ولا المفعول له ولا المفعول فيه، لكن علاقته تتحدد في منهج رسمه ليصل إلى أعلى درجات الإتقان والجودة، ولذا تراه سبحانه يقول:  “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون”

إن مجاورة العدل للإحسان هنا فيها إشارة واضحة ان العدل وحده لا يكفي، فربما كانت ممارسته بغير إحسان أكثر إيلاما من الظلم… نعم لهذا الحد ينبغي ان يتداخل الإحسان مع كل ما نظنه لا يحتاج إلى شيء غير تطبيقه هو!!

إن مجاورة العدل للإحسان هنا فيها إشارة واضحة ان العدل وحده لا يكفي، فربما كانت ممارسته بغير إحسان أكثر إيلاما من الظلم

والإحسان أوسع مدلولًا، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعًا..” انتهى كلام صاحب الظلال.

وهنا يمكننا أن نسأل في منحى آخر عن دور الإيمان بالغيب في ضبط مفهوم الإحسان؟ فتعريفه اصلا يتضمن إشارة إلى علاقة وثيقة بين الإيمان بالغيب وبين تطبيقاته، فهو وطبقا لتعريف النبي : “أن تعبد الله كأنك تراه…” وهذا قمة التحدي! لذا كان من اعلى المراتب، يفوق الإيمان والتقوى…

فطبيعة النفس البشرية طبيعة مادية لا يمكنها ان تسكن إلا لما تشعر به من خلال حواسها، تلمس او تتذوق أو تشم أو ترى او تسمع.. فحينما تتحدى النفس المؤمنة فطرتها ويعلو فيها الضمير لهذه الدرجة السامية تعلو في مراتب الإيمان لتصل إلى منتهاه وهو الإحسان…

عالم الغيب إذن والتعامل معه بدرجة من درجات اليقين هو مفتاح هذا الإحسان، ” كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ ؟ ” فَقَالَ أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ تَعَالَى حَقًّا ، قَالَ : ” انْظُرْ إِلَى مَا تَقُولُ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً ” ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا ، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي ، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي ، فَكَأَنِّي بِعَرْشِ رَبِّي بَارِزًا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوُونَ فِيهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ وَفِي رِوَايَةٍ أَصَبْتَ فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ “.. (قال العراقي: رواه البزار من حديث أنس والطبراني من حديث الحارث بن مالك وكلا الحديثين ضعيف).

الغيب حاضر، والمكنون يقين، والبعيد قريب، وعتمة النهاية بادية… فكان الإحسان نهجا، والإتقان ديدنا، لأن الخوف من المصير مستحكم، والرغبة في النعيم آسرة، ومنها استوى متاع الدنيا القليل مع امتلاك كل ما فيها، فصار هذا الجيل بكامله عنوانا للجودة الحضارية في كل مناحيها…

يبدو إذن وطبقا لفهم حارثة أن المطالبين بتطبيق الشريعة قد غاب عنهم شقها المدني التنموي وإمكانية تمثيلها وإبراز قيمها وأصولها في تزكية الحياة ونشر العدل و إقامة المصالح ومراقبة الجودة، وإعلاء قيمة الضمير الإنساني وتهذيبه…

فالإحسان جزء من فقه المقاصد والتي في بعدها الضروري تحافظ على الحياة وفي بعدها الحاجي تحافظ على نظام الحياة، وفي بعدها التحسيني تحافظ على جمال الحياة.. الإحسان لمسة جمال وإبداع.. تجعل للحياة لونا أزهى بكثير من كل الألوان الصناعية، يلزمنا فقط أن نربي مجتمعاتنا على التذوق الجمال واستشعار لذة الإحسان!!