تحيل لفظة الحرم في اللغة على معاني الاحتماء والمنعة، وما لا يحل انتهاكه أو المساس به، بل وما يجب أن يُقاتَل عنه. وهذه المعاني تستمد اليوم وجاهتها وضرورتها داخل الأسرة، بالنظر لما تتعرض له هذه الأخيرة من عوامل الاقتلاع والمحو، وتغليب حرية الفرد وفوضوية العيش على معايير الالتزام، وضوابط الحياة المشتركة.

تحت مسمى القرية الكونية تهاوت جدران البيوت، وصارت الحياة الأسرية مادة للتسلية على مواقع التواصل الاجتماعي؛ يفصل في مشاكلها ونزاعاتها عموم المتابعين، ويُتخذ القرار على الهواء مباشرة. ويكفي أن يضغط أحدهم زر المشاهدة ليصبح ضيفا على الأسرة، يزور مطبخها وغرف نومها، ويتقاسم معها لحظات السرور والحزن، ويكتشف ذوق الزوجة في اختيار الفرش والسجاجيد، أو ميول الزوج في تصميم غرفة المكتب. وكان من مغبة هذا التفريط في حدود الحرم الأسري وخطوطه الحمراء أن تزايدت مظاهر التفكك، واشتعلت أسباب الخلاف بين الآباء و الأبناء، واكتسب الطلاق صبغة احتفالية لا تقل عن مظاهر الزفاف.

ولأن الفطرة السليمة تأنف من انتهاك الخصوصية، وتؤطر العيش بضوابط متفق عليها داخل كل جماعة بشرية، وملزمة لكل منتسب إليها، فإن الإسلام الدي عده الله تعالى دين الفطرة، والمنهج المتكفل بتحقيق السعادة، لم يغفل عن رسم حدود دقيقة للحرم الأسري، وترتيب جملة من التبعات التي يلتزم بها الطرفان.

أول هذه الحدود هو مراعاة الكفاءة في اختيار الزوج أو الزوجة، امتثالا لقوله تعالى {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} (النور:26) وقوله : ” إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد” (الترمذي.حديث رقم 1085).

والراصد لحالات الطلاق المتزايدة يخلص إلى أن بعض الاعتبارات الاجتماعية السائدة اليوم، من قبيل ربط الكفاءة بالمكانة الاجتماعية، والغنى، والشهرة، إلى غيرها من الصفات، تؤشر منذ البداية على تصدع في البناء الأسري. فرغم أن الإسلام لم ينكر على الناس ما تعارفوا عليه من مواصفات، إذ يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله:” لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء”، لكنه اعتبر الدين بمثابة الضابط الذي لا ينبغي التهاون بشأنه. يقول الإمام الغزالي في “إحيائه”:” وما نقلناه من الحث على الدين وأن المرأة لا تنكح لجمالها ليس زجرا عن رعاية الجمال، بل هو زجر عن النكاح لأجل الجمال المحض مع الفساد في الدين؛ فإن الجمال وحده في غالب الأمر يرغب في النكاح ويهوّن أمر الدين.

  والحديث عن الكفاءة يقودنا حتما إلى سؤال الأهلية، خاصة الأهلية النفسية التي تستوجب توفر صحة نفسية للطرفين معا، تضمن تحمل المسؤولية، وحسن التصرف في المواقف المستجدة، والأهم من ذلك تفادي تفجير أي خلاف خارج نطاق الحرم الأسري.

أما الحد الثاني فمتعلق بحفظ الخصوصية بين الزوجين، وما يترتب عن إفشاء أسرارهما من تفاقم للمشكلات، واهتزاز في الثقة ينذر بتفكك العلاقة. ولعل سبب الإفشاء الذي تحول اليوم إلى مادة دسمة في وسائل التواصل الاجتماعي، يرجع إلى الخلط بين العرف الاجتماعي والقيم الدينية الثابتة. فمن المعلوم أن الأعراف تنتقل من الصلابة إلى الميوعة، وتتراجع هيبتها وتقديرها لدى الأفراد بفعل التحول الاجتماعي لتفقد قوتها الضاغطة. بينما القيم ثابتة بذاتها، وتغيرها عند الأفراد لا يعني بالضرورة أنها متغيرة.

شددت السنة النبوية في النهي عن تحدث الزوجين بما يجري بينهما من قول أو فعل على فراش الزوجية، ففي صحيح مسلم أن رسول الله قال: ” إن من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرّها”- حديث رقم1437. ويمتد هذا الحفظ للخصوصية إلى احتمال الأذى وعدم المسارعة بإبدائه والتذمر منه، خاصة لمن لا خلق له ولا مروءة.

ومما يلفت النظر اليوم أن المتصفح للانترنيت يدهشه الرصيد الهائل من النكات ومقاطع الفيديو التي تتخذ من خصوصية الحياة الأسرية مادة لإثارة الضحك والسخرية، والاستخفاف الصريح بالعلاقة الزوجية التي سماها القرآن الكريم ميثاقا غليظا. والأمر لا يتعلق بالانبساط والترويح عن النفس بقدر ما يدفع إلى تشكيل مواقف سلبية إزاء تلك العلاقة، والتشجيع على العزوف عن الزواج باعتباره قيدا وهمّا، ومنغصات على حرية الفرد وانطلاقه.

بينما يتعلق الحد الثالث بهوية الداخل إلى هذا الحرم، والآداب التي يتوجب عليه التقيد بها. ذلك أن الشارع الحكيم نبه على منع غير المحرم من دخول البيت في غياب الزوج، حتى لو كان من الأقارب. وفي حديث عقبة بن عامر نص صريح بذلك، حيث قال النبي : ” إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يارسول الله، أفرايت الحمو؟قال: “الحمو الموت” (البخاري: حديث رقم5232)

ولعل أحد أسباب انهيار البيوت يتأتى اليوم من التساهل في هذا الباب، والسماح ليس فقط لقريب الزوج أو الزوجة بانتهاك حدود الحرم، وإنما كذلك لصديق الأسرة، وعامل الصيانة، وعموم المشاهدين الذين يتقاسمون مع الزوجة أعباء الروتين اليومي عبر الكاميرا.

يؤدي التفريط في تلك الحدود الجوهرية إلى انتفاء معاني الحرمة واستقلالية الكيان الأسري وخصوصيته، فتستمر الأسر من خلال نوع من التماسك الشكلي الذي يحافظ على الظواهر. هذه الصورة المتنامية بشكل مؤرق في مجتمعنا المسلم يسميها الدكتور مصطفى حجازي (1) “البيت الفندق”، وهي نتيجة حتمية لتخلي الأسرة عن دورها في نقل الموروث القيمي والثقافي، حيث يعيش كل فرد حياته الخاصة بمعزل عن قواعد وأطر التماسك الداخلي، فتصبح الأسرة ضحية غزو العالم الخارجي الذي يُمهّد لاحقا لتفككها وتصدعها.

إن الحرم الأسري هو دعوة إلى إعادة ترسيم دقيق للحدود بين الأسرة وباقي مؤسسات المجتمع، خاصة الإعلام الذي يتسبب تدفقه الهائل، واقتحامه غير المسبوق لكيان الأسرة بهز ثوابتها، والتخلي عن التزاماتها، وتعريضها لمخاطر عولمة ثقافية تدعم التنميط الكوني للمجتمعات، ووأد القيم والأخلاق التي تعزز مناعة الجيل المقبل ضد أسباب الهيمنة والذوبان الحضاري.