الإسلام دين ونظام حياة متكامل، ويتميز المنهج الإسلامي في الاقتصاد باقتران القيم الإيمانية بالمفاهيم الاقتصادية. والإيمان هو أصل العقيدة، وهو مصدر النظم الأخلاقية والاجتماعية؛ التي تطبع شخصية الأمة كلها بطابع الاعتدال والعدل.

والعدل الذي تقوم عليه النظم الإسلامية؛ ومنها النظام الاقتصادي، يُقصَد به التوازن الشامل والتوسط العادل بين الناحيتين المادية والروحية في نظام المجتمع، وكذلك بين مصلحة الجماعة ونزعة الفرد[1].

ويرتكز الاقتصاد الإسلامي في تحليله على الإنسان الأخلاقي، وليس على الرجل الاقتصادي كما في النظام الغربي. وللميثاق الأخلاقي لرجل الأعمال المسلم أهمية كبيرة.

أولاً: الأخلاق والاقتصاد

  • أهمية الأخلاق في الأخوة العالمية:

إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يكشفان عن أن الهدف من جميع العبادات أن يحيا المرء بأخلاق فاضلة، وعلى أن يظل مستمسكاً بهذه الأخلاق؛ مهما تغيرت الظروف.

يقول الله عز وجل: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ ۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ﴾ (العنكبوت: 45).

 ويقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم :“إن خِيَارَكُم أَحسنُكم أخلاقَاً”[2].

والأخلاق الفاضلة هي ركيزة أساسية للمسلم في كل عباداته ومعاملاته. ومن هذه الأخلاق السماحة؛ التي تعتبر أول أوصاف الشريعة الإسلامية وأكبر مقاصدها، والسماحة هي المعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتسهيل، وبالتالي فهي راجعة إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط.

يقول الله عز وجل: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: 143).

وقال الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30).

وفطرة الإنسان خيرة، ولكن ليس معنى ذلك أن الإنسان ملاك لا يحسن إلا الخير، بل معنى ذلك أن الخير يواءم طبيعة الإنسان الأصيلة.

والإسلام يدعم معاني الرحمة والإيثار والحب والإحسان؛ كمعاني نظرية، ومراسم عملية؛ ببث مشاعر إنسانية في النفوس؛ من حب الخير للناس جميعاً، والحث على الإيثار لو مع الحاجة، والإحسان في كل شيء.

يقول الله عز وجل: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9).

قال تعالى : ﴿وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة: 195).

قال تعالى : ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ﴾ (النحل: 90).

إن القيم الأخلاقية تُقترن بالفلاح كأسباب مؤدية إليه، وعدم توافرها يؤدي إلى عدم تحققه. وعلى قدر ما يتوفر في الإنسان من قيم تزداد قدرته على صنع الحضارة وتحقيق التميز والتمكين في الأرض.

  • اقتران الأخلاق بالمفاهيم الاقتصادية:

إن الاقتصاد الإسلامي هو اقتصاد ديني واقتصاد أخلاقي؛ يرتكز على الأخلاق الفاضلة والسلوك السوي المستقيم. واقتران القيم الأخلاقية بالمفاهيم الاقتصادية من أوجه الإعجاز في القرآن الكريم والسنة الشريفة. والمفاهيم الاقتصادية في القرآن والسنة تترابط وتتفاعل وتتكامل في تناسق وتوازن مكونة الاقتصاد الإسلامي.

ويقوم النظام الاقتصادي الإسلامي على منهج عقائدي أخلاقي مبعثه الحلال والطيبات والأمانة والصدق والطهارة والتكافل والتعاون والمحبة والأخوة مع الإيمان بأن العمل (ومنه المعاملات الاقتصادية) عبادة، وأساس ذلك قول الله عز وجل: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ (النحل: 114).

إن تعاليم الإسلام جعلت المجتمع الإسلامي بيئة تعاونية، وفرضت السعي بجدية لتحقيق الرخاء والتقدم، وذلك في إطار نظرة الإسلام إلى المال والعمل. والإنسان خليفة الله الخالق لعمارة الأرض والاستفادة من النعم، والنهوض بأعباء الخلافة، وأن يحفظ وينمي المال؛ الذي هو مال الله تعالى. والتكاليف إما إيجابية وإما سلبية.

ومثال للإيجابية؛ فريضة الزكاة؛ وهي ركن أصيل للإسلام، وهي من أسس المنهج الاقتصادي الإسلامي؛ فهي ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب كما في الفكر الاقتصادي الوضعي، وإنما هي غرس لمشاعر الحنان والرأفة والرحمة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين جميع الطبقات. وتوضح الآية الكريمة التالية الهدف من فريضة الزكاة.

يقول الله عز وجل: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ (التوبة: 103).

أيضاً فريضة الحج ليست مجردة عن المعاني الخُلقية [3]، ويتضح ذلك من قول الله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 197).

كما أن التطهير من سوء القول وسوء العمل والابتعاد عن الرذائل، هو حقيقة الصلاة،يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:“آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم”.[4]

أما السلبية فهي كف المالك للمال يده عن إلحاق الضرر بمصلحة الجماعة، وتحريم الربا، وعدم الاحتكار وغيره.

وتقريراً في صلة القيم الأخلاقية بالمفاهيم الاقتصادية في السنة النبوية المطهرة؛ فلقد حدد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المنهاج المبين لدعوته بإتمام حسن الأخلاق.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بُعثتُ لَأتمم صالح الأخلاقِ” [5].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.[6]

ولقد سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه يوماً: “أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال “إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَي هذا من حَسَناتِهِ وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته، قبل أن يُقضَي ما عليه، أُخِذَ من خطاياهُم فطرحت عليه. ثم طرح في النار”.[7]

فالمفلس؛ مثل التاجر الذي يملك بضائع قيمتها مليون، وعليه ديون قدرها مليونان، فكيف يعد هذا من الأغنياء؟، وكذلك حال المتدين الذي يباشر بعض العبادات، ويبقى بعدها بادي الشر، وقريب العدوان، وكالح الوجه، كيف يكون من الأتقياء؟     

  • الاقتصاد الإسلامي والوسطية:

إن الإسلام دين الوسطية؛ بمعنى أن الإسلام الوسط العدل، وهو ليس الوسط الحسابي، وإنما الوسط الجدلي؛ الذي يجمع بين النقيضين – اليمين واليسار – ويزيد عليهما، ولذلك ليس في الإسلام يمين ويسار، وإنما فيه “صراط” الاعتدال الوسط [8]. وهذا هو الصراط المستقيم؛ الذي علم الله تعالى عباده ليسيروا فيه.

يقول الله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّين﴾ (الفاتحة: 7،6).

وفي التشريع؛ فإن توسط الإسلام يكون بمراعاة ما يجب الاتفاق عليه، وما يجوز الاختلاف فيه، ولم ينكر حق عقل الإنسان في النظر والبحث والتطوير والتنقيب وملاحظة اختلاف العرف والمكان والزمان، والاجتهاد بصفة عامة. فوسطية الإسلام هي المعيار في الحلال والحرام؛ فالأصل في الإسلام الحل، وكل المعاملات المستحدثة حلال طالما راعت مقاصد الشريعة.

والقاعدة تقول؛ يقول الله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ (البقرة: 29)؛ فلا يحل تحريم بدون دليل على تحريم.

ومبادئ الإسلام تعترف بالحرية الفردية ولكن في إطار من الحدود الشرعية والأخلاقية الإلهية؛ التي تعمل للتوفيق والتوازن بين الحدود الفردية المحدودة وبين الحقوق الجماعية المحدودة أيضاً.

ثانياً: الميثاق الأخلاقي للاقتصاد من القرآن والسنة

الميثاق هو العهد والتحالف والبيعة والأمانة، وفي مجال الاقتصاد والإدارة؛ فإن المقصود بالميثاق الإسلامي لقيم رجل الأعمال – أو المنظم – أنه العهد الذي يأخذه على نفسه بالالتزام بمجموعة من القيم المحددة – إيمانية وأخلاقية وسلوكية وفنية -، والتي تعتبر مرشداً وموجهاً له، وأساساً لتقييم أدائه ومحاسبته عند التقصير والتعدي.[9]

يقول الله عز وجل: ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ﴾ (المائدة: 7)،

وقال تبارك وتعالى: (ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَٰقَ﴾ (الرعد: 20).

ويقصد بالقيم بأنها المعايير التي يجب أن يؤمن بها الإنسان، وتكون مقصداً وهدفاً ودستوراً له في حياته، وتعتبر المقياس الذي يقاس به إيمانه وسلوكياته، كما تستخدم كأداة يتم بها تقويم الأداء، وبالتالي فإن القيم هي نفسها المعايير[10]. وينظر إلى القيم الإيمانية والأخلاقية باعتبارها معايير ذاتية يجب أن يؤمن بها الإنسان.

ومن بنود الميثاق الإسلامي للقيم في مجال الأعمال؛ ما يلي[11]:

بنود التكوين الذاتي لرجل الأعمال: وتشمل صدق النية والإخلاص لله، وحسن الخلق، وحسن التعامل مع الناس.

بنود محددات مجال الأعمال المشروعة: وتشمل التعامل في الحلال والطيبات، والالتزام بالأولويات الإسلامية.

بنود العلاقات مع الغير: وتشمل حسن اختيار الشركاء، وحسن انتقاء العاملين، والتعاون مع الأطراف ذات الصلة بأنشطة المنظمة، ومبدأ الشورى في اتخاذ القرارات.

بنود إتقان العمل، وتطبيق أسس إدارة الجودة الشاملة.

بنود الانضباط والكتابة والتوثيق: وتشمل تنظيم العمل، وكتابة المعاملات والإشهاد عليها، وتوثيق الاتفاقيات والعقود والإشهاد عليها، والتحكيم الودي في الفصل في المنازعات.

بنود التعجيل في أداء حقوق العمال، وسداد الديون في مواعيد استحقاقها، والتعجيل بأداء حقوق المجتمع.

بنود محاذير لرجال الأعمال: وتشمل تجنب التعامل بالربا، وعدم التعامل في الخبائث، وعدم أكل أموال الناس بالباطل، وتجنب الإسراف والتبذير والمظهرية، وتجنب البيوع غير المشروعة، وتجنب سوء الأخلاق، وعدم الركون إلى الذين ظلموا، وتجنب التعامل مع الأعداء الحربيين – أعداء الوطن – ، وتجنب مخالفة القوانين والنظم العامة.

بنود الالتزام والعقوبات: وتشمل وجوب الالتزام بالميثاق، والزواجر العقوبات[12].

ولكي تتحقق الفعالية في توجيه العاملين، لابد من التحلي بأخلاق الإسلام التي يكتمل بها إيمان المسلم؛ وأهمها الصدق والوفاء والأمانة والإخلاص والقوة والتكاتف والعمل في جماعة والاتعاظ بالوقت.

يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 70، 71) ومعنى “القول السديد” أي القول الصحيح.

وقال تعالى : ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الأنعام: 152).

قال تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الحج: 77).

قال تعالى : ﴿إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ (النساء: 103).

إن الإسلام يأمر بالتفكير والتدبر في كل الأمور، حتى في أمور العقيدة، وكان الأمر الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق: 1).

ويحث الإسلام على الانتفاع بالوقت وعدم إهداره، وهو عنصر هام في الإدارة؛ والمدير المسلم يعي هذه الحقيقة.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.[13]

المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان”.[14]

ثالثاً: موقف الاقتصاد الوضعي من القيم الإيمانية والأخلاقية

الواقع يؤكد أن القيم لا تغيب عن الاقتصاد الوضعي؛ فهو اقتصاد له قيم أيضاً، ولكن يوجد فرق كبير بين دور القيم في الاقتصاد الإسلامي ودور القيم في الاقتصاد الوضعي، وينعكس ذلك على المناهج الوضعية في التنمية.

والقيم الأخلاقية تعد متغيراً داخلياً في آلية نظام الاقتصاد الإسلامي، وليس كما في الفكر الرأسمالي؛ حيث تعد القيم إطاراً خارج ميكانيكية النظام رغم أنه يتأثر كأي نظام بشري بصورة أو بأخرى بالقيم.

والسؤال الرئيس هو: ما أثر الإيمان على الأخلاق والسلوك والضمير، وذلك في ضوء ما يحدث في الدول المتقدمة التي تأخذ بالعقل والمادة ونتائج التجارب العلمية فقط؟

رغم أن الحضارة الحديثة حضارة ذكية العقل واسعة المعرفة، وطوعت ما بلغته إلى تقدم صناعي باهر طفر بالإنسانية طفرة رحيبة ورهيبة، في جميع المجالات المدنية والعسكرية. إلا أن هذا التقدم المادي لم يواكب تقدم روحي؛ لذلك فإن انسان العصر الحديث لا يختلف كثيراً عن إنسان العصر الأول في غرائزه وشهواته. وإذا كانت ثمت فروق ففي الوسائل لا في البواعث والغايات. والواقع أن الإنسان يتضاعف شره عندما يكون حاد الذكاء عديم الخُلق، وطالما رددنا أن الإسلام عقل يرفض الخرافة، وقلب يكره الرذيلة. [15]

ولكي يتحقق التقدم بالمعنى الشامل؛ الذي يتضمن النواحي المعنوية والمادية؛ لابد من اشتراط “الإيمان”، لا “الإدراك العلمي”. ودليل ذلك أن غيبة الإيمان الديني عن الأوروبيين، الذين يتمتعون بأعلى مستويات المعيشة المادية قد جعلتهم يعانون أعلى مستويات الاكتئاب والانتحار. ولذلك فإن الحضارة الغربية تصنع أجيالاً لا تعرف إلا الحياة الدنيا، وتؤمن أنها لن تحيا مرة أخرى أبداً، ومن هنا غلب عليها هذا السعار في اقتناص الموجود، والركض وراء المفقود، والحقد على من وجد، والازدراء على من فقد. وما يدور في ذهنهم تعاون عام لإبقاء الأرض موصولة بالسماء، فهل هذا تقدم علمي أم نجاح للغرائز الهابطة والأغراض الدنيا؟ [16]

 على أن القرون الأولى لم تخل من علم أثارت به الأرض، وزينت به الحياة، والذي يُنكَر هو انعدام التوازن في أية حضارة بين جوانبها المادية والأدبية.

ومن قصص القرآن الكريم؛ قول الله عز وجل: ﴿أتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ⁕ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ⁕ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ⁕ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُون﴾ (الشعراء: 128 – 131).

ورفض هؤلاء وأولئك تقوى الله، وسماع الناصح الأمين فماذا كانت العقبى؟

يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ⁕ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ⁕ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ⁕ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ⁕ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ⁕ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ⁕ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ⁕ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ⁕ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر: 6 – 14).

ولذلك فإن هذه المدنيات البائدة قامت على علم بحاجات الناس، واغتروا بهذا العلم، ومهما تقدم هذا العلم لا يغني عن الإيمان، والإيمان المقصود هنا هو الذي يعانق العقل وتتزين به الحياة.

وفي أهمية الإيمان بالتعددية؛ فإن الإسلام لم يمنع الإيمان بالتعددية في الميادين الفكرية والسياسية والاجتماعية، بل إن الإسلام يقرها ويشجعها، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ (الليل: 4).

قال تعالى: ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ (البقرة: 148). والناس لا يزالون مختلفين، بل وللاختلاف خلقهم الله تعالى[17].  

إن للإيمان بالغيب والقيم الأخلاقية الدور الرئيس في المنهج الاقتصادي الإسلامي في مجال التنمية الاقتصادية.


[1] أنظر: أحمد النجار: مدخل إلى النظرية الاقتصادية في المنهج الإسلامي، (خاص، 1998م)، ص 46.

[2] رواه البخاري في صحيحه بأرقام 3559،  و 3759،  و 6029، و 6035، ورواه مسلم في صحيحه برقم 2321.

[3] أنظر: محمد الغزالي: خُلق المسلم (الإسكندرية: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، ط2، 1409هـ = 1989م)، ص 11 – 13.

[4] رواه مسلم في صحيحه برقم 58.

[5] أخرجه أحمد (8939)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (273) واللفظ لهما، والبزار (8949) باختلاف يسير

[6] رواه البخاري في صحيحه برقم 34.

[7] رواه مسلم في صحيحه برقم 2581.

[8] أنظر: مصطفى محمود: حوار مع صديقي الملحد، دراسة وتقديم وتعليق: محمد عمارة، هدية مجلة الأزهر، جمادى الأول 1436هـ = مارس 2015م، ص 19، 20.

[9] أنظر: حسين حسين شحاته: الميثاق الإسلامي لقيم رجال الأعمال An Islamic Code of Ethics For Business Men (القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1419هـ = 1998م)، ص 16.

[10] المرجع السابق نفسه، ص 33 – 37.

[11] حسين حسين شحاته: الميثاق الإسلامي لقيم رجال الأعمال، مرجع سابق، ص 31 – 78.

[12] للوقوف على كيفية تطبيق هذا الميثاق، أنظر في ذلك: حسين حسين شحاتة: المرجع السابق، ص79 – 93.

[13] رواه مسلم.

[14] رواه مسلم في صحيحه برقم 2664.

[15] محمد الغزالي: مائة سؤال عن الإسلام، ج1 (القاهرة: دار ثابت للنشر والتوزيع، 1404هـ = 1983م)، ص 271.

[16] المرجع السابق نفسه، ص 275، 276.

[17] أنظر: محمد عمارة: ظاهرة الإسلاموفوبيا: الجذور التاريخية والنهايات المنتظرة (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 1439هـ = 2018م)، ص 100، 101.