في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيرات الاقتصادية، وتتعاظم الحاجة إلى بدائل مالية تحقق العدالة وتراعي القيم، تبرز شخصيات علمية استثنائية تسهم في بناء الجسور بين الأصالة والمعاصرة، وتعيد رسم ملامح الاقتصاد الإسلامي بلغة تجمع بين الحكمة الشرعية والدقة المؤسسية. من بين هذه الشخصيات، تلمع الدكتورة خولة النوباني كأحد الأسماء الرائدة في ميدان الاقتصاد والتمويل الإسلامي، وهي اليوم في صدارة المشهد العلمي والشرعي بعد إنجاز تاريخي يُضاف إلى سجلها الحافل، تعيينها كأول امرأة عضواً في مجمع الفقه الإسلامي الدولي منذ تأسيسه قبل أكثر من أربعين عامًا.
لم يكن إنجاز الدكتورة خولة فريز عوض النوباني وليد الصدفة، بل جاء تتويجًا لمسيرة علمية وعملية امتدت لعقود، خاضت فيها الدكتورة خولة عمق الفقه الإسلامي، واستوعبت أدوات التمويل المعاصر، وأسهمت في تطويرها على أسس شرعية متينة. هي باحثة جمعت بين التأصيل الفقهي والدراسة الاقتصادية، إذ حصلت على درجتي الماجستير والدكتوراه في موضوعات تُعد من اللبنات الأساسية لصناعة التمويل الإسلامي، أبرزها: عقد التأمين في الشريعة الإسلامية، وهيكلة الصكوك الإسلامية.
وعلى المستوى المهني، لم تكتفِ الدكتورة خولة بالعمل الأكاديمي، بل أطلقت وأدارت شركات استشارية متخصصة في تقديم الحلول المالية الشرعية، وتولت مهام شرعية في مؤسسات مصرفية وتأمينية داخل الأردن وخارجه. كما ساهمت في إعداد تشريعات متعلقة بالصكوك الإسلامية، وشاركت في صياغة قرارات مجمعية ذات أثر عالمي، وكتبت كثير من الدراسات و المقالات لتعزيز الوعي بالاقتصاد الإسلامي ومؤسساته.
وفي هذا الحوار، نفتح مع الدكتورة خولة النوباني صفحات من رحلتها العلمية والعملية، لنتعرف عن كثب على ملامح رؤيتها للتحديات التي تواجه التمويل الإسلامي أو المالية الإسلامية..
مسيرة علمية من التأصيل إلى التطبيق
دكتورة خولة النوباني، بصفتك أول عضو نسائي في مجمع الفقه الإسلامي الدولي، كيف كانت الرحلة العلمية التي أوصلتك إلى هذا المستوى؟ وكيف كانت مشاركاتك في دورات المجمع الفقهي في هذا السياق؟
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه. شكرًا لك أخي الكريم، وشكرًا لمنصة “إسلام أون لاين” على حضورها المتميز وجهودها في نشر الوعي، والمحافظة على الهوية الإسلامية، وزيادة المحتوى الإسلامي على شبكة الإنترنت.
أما بالنسبة لسؤالك، فقد بدأت رحلتي العلمية في الفقه الإسلامي من جامعة الكويت، ثم انتقلت إلى الجامعة الأردنية، حيث واصلت التخصص في الفقه وأصوله. وكانت رسالتي للماجستير حول التأمين الإسلامي، وتُعد من أوائل الرسائل في هذا المجال.
بعد ذلك، اتجهت إلى عالم المصارف الإسلامية، وكانت أطروحتي للدكتوراه في هذا المجال، كما حصلت على شهادة في القانون، إيمانًا مني بأهمية التقريب بين الشريعة والقانون، ليكون للشريعة الإسلامية صوت مسموع في إعداد القوانين والتشريعات والأنظمة.
أما عن مجمع الفقه الإسلامي، فقد كنت متابعة له منذ البدايات، وأتأمل يومًا أن أكون جزءًا منه. ولله الحمد، كان لي شرف إعداد عدد من الأبحاث التي عرضت في الندوات المختلفة. وفي الدورة السادسة والعشرين للمجمع التي عُقدت في الدوحة، تم تعييني كعضو معيَّن من قبل مجلس المجمع، وهو شرف عظيم أعتز به، وأراه تكليفًا قبل أن يكون تشريفًا، لأخدم الدين والأمة والإنسانية، فالمجمع ينطلق من منطلقات إنسانية لدين عظيم يستحق منا كل جهد وتفانٍ في سبيل نهضة الأمة ورفعة هذا الدين، الذي سيبقى مرفوعًا بإذن الله.
رحلة الصكوك الإسلامية
تناولتِ المستجدات في مجال المالية الإسلامية، ومنها الصكوك الإسلامية خاصة أنكِ كتبت كتابا بعنوان “هيكلة الصكوك بين الفقه والممارسة”، كيف تمت صياغة هذه الصكوك؟ كيف كانت رحلة الصكوك الإسلامية من التنظير إلى الإجازة الشرعية ثم التنفيذ في واقع المؤسسات المالية الإسلامية ؟
الحاجة كما يُقال أمُّ الاختراع، بدأت الحاجة إلى الصكوك الإسلامية وهي البديل الأصيل للسندات التقليدية، والصكوك في رحلتها البدائية من التنظير كانت عبر “سندات المقارضة” ضمن قانون السندات الأردني، لكن الفكرة لم تستمر بسبب الخلل في بعض البنود، ثم تبنت السودان هذا المشروع في رحلة مهمة جدا للسياسة النقدية، حيث كان النظام هناك متكاملًا و يحتاج إلى بدائل شرعية للفائدة، فبدأت من هناك رحلة الصكوك على مستوى الدول.

لاحقًا جاءت ماليزيا وبدأت بإصدار الصكوك في تسعينيات القرن الماضي، وشهدت نهضة متتالية في هذا المجال. وتتميز الصكوك بخصوصيتها كأداة لتمويل المشاريع الضخمة والبنية التحتية، وهي حاجة ماسة للدول التي تعرضت لتدمير كبير في بنيتها التحتية، وهذه الصكوك تعتبر الأداة المثلى والمأمول منها للقيام بهذا النوع من التمويل، وكذلك أداة رفد مهمة لتزويد الصناديق الاستثمارية بأدوات شرعية. ورغم أنها ليست جديدة من حيث المفهوم، إلا أنها تُعد جديدة من حيث التطبيق العملي في التمويل الإسلامي، وقد قطعت شوطًا كبيرًا كما تعلمون.
في هذا الكتاب، كان لكِ جهد ملموس من خلال زيارة عدة دول مثل ماليزيا والبحرين والسودان، للنظر في اختلاف الممارسات. ماذا كانت نتائج هذه الجولات الميدانية؟
صحيح، هي مدارس مختلفة، النتيجة بالتطبيق. ماليزيا حازت على الحظ الأوفر من حيث حجم الإصدارات، وكانت تُصنَّف في المرتبة الأولى لسنوات عديدة. أما تجربة السودان، فقد كانت رحلة من حيث التأصيل، ثم التطبيق، ثم الابتكار في هياكل الصكوك. أما البحرين، فقد تعاملت فيها على مستوى البنك المركزي، وكانت (صكوك السَّلَم) من الأدوات المستخدمة حتى اليوم لإدارة السيولة على المدى القصير والمتوسط.
أحيانًا يُثار جدل علمي يتعلق بالتطبيق العملي للصكوك واختلاف الفتاوى بشأنها، فما رأيك في هذا الجدل، خاصةً أنه يصدر عن علماء وخبراء ينتمون إلى مؤسسات علمية معتمدة وذات مستوى عالٍ في مجال المالية الإسلامية؟ وهل أثرت على سوق الصكوك ؟
نعم، هذا صحيح. في مرحلة ما أثّر هذا الجدل فعليًا على سوق الصكوك. رحلة التمويل الإسلامي عمومًا، رحلة الصكوك خصوصًا، شهدت محطات تستحق التوقف عندها وأدت إلى تحسينات لاحقا في بعدها الشرعي.
عند وقوع الأزمة المالية العالمية، حدثت العديد من الإشكاليات المتعلقة بالصياغات الشرعية للصكوك، مما أثّر على حجم الإصدارات. وكما تعلم، فإن “مخاطر السمعة” تُعد من المخاطر الفريدة التي لا نجد لها مثيلًا في الأدوات المالية التقليدية، بل هي مرتبطة مباشرة بالجانب الشرعي في أدوات التمويل الإسلامي.
الصكوك بدأت بقوة كبيرة، ثم جاءت هذه المرحلة التي ظهرت فيها تحفظات شرعية على بعض الإصدارات، خصوصًا تلك التي كانت خاضعة لتشريعات أو محاكم غربية، كالمحاكم البريطانية التي لا تعير البعد الشرعي أي اعتبار، وهنا وقعت الإشكاليات ثم احتاجت الصكوك لمراجعات من حيث العقود، هذا أدى إلى توقف نحو 60% من الإصدارات التي كانت على وشك الخروج إلى السوق بسبب أثر السمعة عليها. وبعض الإصدارات أيضاً تأثرت بطريقة أخرى لا مباشرة لذلك للمحافظة على انطلاقة التمويل الإسلامي والصكوك تعتبر تاج الإصدارات الإسلامية أو الأدوات المالية الإسلامية لأنها يتم التعامل معها غالباً عن طريق سيادة الدول وهذا مهم جداً بالنسبة للتمويل الإسلامي كحاضنة سيادية لموضوع الأدوات المالية الإسلامية وعلى رأسها الصكوك.
وبعد هذا الأمر كما يُقال: “رُبّ ضارّة نافعة”. فقد جاءت هذه الأزمة بمراجعات مهمة، خصوصًا من قِبل الشيخ تقي عثماني رئيس الهيئة الشرعية في هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI) الذي أعاد النظر وحدّد ثلاث مخالفات جوهرية في عقود الصكوك ولفت النظر إلى مخالفاتها الشرعية.
بعدها بدأت التحسينات، سواء على المستوى الشرعي أو على مستوى التشريعات القانونية. وبدأت الدول تتسابق لوضع أطر قانونية لإصدار الصكوك، كقانون الصكوك الأردني الذي أُعدَّ بين عامي 2010 – 2012 م، وقد كان لي شرف المشاركة في اللجنة المكلّفة بإعداده.
ومن بعده حذت دول أخرى حذوه، فإما أدرجته ضمن قوانين الأوراق المالية، أو أقرّته كقانون مستقل، كما في الأردن سابقًا، وفي السودان أيضًا، حيث كان قانونًا مستقلًا ثم أُدمج لاحقًا في قانون الأوراق المالية.
وفي ماليزيا، كما هو معلوم، يُعتبر قانون السوق تابعًا لقانون الأوراق المالية. والصكوك، وهي أوراقًا مالية تمثل أصولا حقيقية.
تحدثتِ عن مخاطر السمعة التي ترتبط بالتمويل الإسلامي، وذكرتِ أن لها علاقة وثيقة بمفهوم الحوكمة. وقد كانت لكِ كتابات في هذا الموضوع. ما هو واقع الحوكمة في التمويل الإسلامي؟ وهل لها علاقة فعلًا بمخاطر السمعة، خصوصًا المخاطر الشرعية التي تواجه المؤسسات المالية الإسلامية ؟
تستطيع القول أن كل ما يمس أداء المؤسسة المالية الإسلاميةمن ناحية الأخلاقيات – سواء أبعاد الفساد أو عدم العدالة أو عدم الشفافية والإفصاح – تندرج تحت مظلة الحوكمة. وكل هذه الأمور ترتبط بأخلاقيات التمويل الإسلامي ومن الواجب المحافظة عليها. ومن محاسن المسألة أن ينتظم العالم كله ويلتفت لجزئية معينة وهي الحوكمة الموجودة لدينا في الشريعة الإسلامية.
الحوكمة موجودة في الشريعة الإسلامية، وهي أصل أصيل لدينا، لكن مصطلحها المعاصر “governance” بدأ يتبلور عالميًا منذ عام 1999 م تقريبًا. وللأسف، كثير من كنوز فقه المعاملات المالية الإسلامية لا تزال دفينة، ويجب علينا إخراجها للعلن بشكلها النقي، ومنها الحوكمة.
وباختصار، يمكن تلخيص الحوكمة في ثلاثة عناصر: الشفافية في الأداء، والمساءلة في التطبيق، والعدالة في النتائج.
- الشفافية أشار إليها النبي ﷺ بقوله: «هلا وضعتها على وجه الصبرة ليراها الناس؟»، في إشارة إلى الإفصاح الكامل.
- أما المساءلة، فالله تعالى ورسوله والمؤمنون يسألوننا عن أعمالنا.
- وأما العدالة، فهي مبدأ أصيل راسخ في الشريعة الإسلامية، خاصة في الأمور المالية، حيث يجب تحقيق التوازن بين المساهمين والمتعاملين.
يجب الحذر من تضارب المصالح، والحفاظ على استقلالية القرار، وهي أمور تم التأطير لها عالميًا.
المؤسسات المالية الإسلامية – من بنوك وشركات تأمين وأوراق مالية – لها جناحان: ربحي، يشمل هذه المؤسسات، ولا ربحي، يشمل الوقف والزكاة والصدقات. ونحن اليوم بحاجة لتفعيل هذا النظام المتكامل.
عندما نتحدث عن المؤسسات المالية الإسلامية علينا أن نعلم أن لها ذراعين تطير بهما في عالم المال الذراع الأول هو الذراع الربحي ويضم المؤسسات المالية الإسلامية متمثلة بـ البنوك الإسلامية وكذلك الشركات التأمين وكذلك الأوراق المالية ومنها الصكوك في الأوراق المالية والأسواق المالية.
الجناح الآخر هو الجناح اللاربحي وهو الوقف والزكاة والصدقات وغيرها. نحن بحاجة اليوم لتفعيل كل هذه المنظومة حتى يظهر فاعلية الاقتصاد الإسلامي الذي نؤمن به، وبعيداً عن العواطف العالم الآن يستحق أكثر من أي وقت مضى نظاماً متكاملاً يُطرح بأبعاده الإسلامية.
التمويل الإسلامي بين التحديات والمراجعات الشرعية
دكتورة خولة، حديثك يقودنا إلى السؤال حول الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية. نعلم أن هيئة الرقابة مُعيّنة من قبل إدارة البنك أو إدارة المؤسسة المالية، فكيف يمكن أن تكون لها استقلالية فكرية ولا يكون هناك تعارض مع المصالح ؟
تعلم أن بعض القوانين أقرّت أو فرضت على المؤسسات المالية الإسلامية، بما فيها البنوك وكذلك شركات التأمين، أن يكون لها هيئة شرعية منتخبة ومُزكّاة من الهيئة العامة، وهذه الهيئة تتكوّن من كبار العلماء الموجودين في المنطقة.
هذه اللائحة، طبعًا مع كامل الاحترام لهيئاتنا الشرعية ومشايخنا الكرام، يجب أن تكون ضليعة في أدوات التمويل الإسلامي وفي ممارساته. موضوع حفظ الاستقلالية تضمنه التعليمات والأنظمة، وبالتالي لا يكون هناك تدخل في قراراتها. هذا يعني أن بعض الممارسات تكاد تنحرف عن هذا المسار، ولكن في المجمل صدر قرار عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الحالية في قطر – الدورة السادسة والعشرين – حول ما يتعلق بالحُكم بأن الهيئات الشرعية مستقلة ويجب المحافظة على استقلالها. أي ممارسات أخرى شاذة لا نُعوّل عليها إطلاقًا، ولكن علينا أن نحترم موضوع الأبعاد القانونية، وأبعاد تعليمات الجهة الإشرافية والرقابية، وكذلك نُعوّل على أمر آخر لا يُذكر في موضوع الحُوكمة بشكلها التقليدي، وهو الوازع الديني وكرامة الإنسان المسلم. من الصعب جدًا أن تتخيّل مسلمًا من مشايخنا الكرام يمكن أن يحاول مهادنة بعد محرم في الشريعة الإسلامية.
هل غطّت المؤسسات المالية، من البنوك وشركات التأمين ومؤسسات التمويل الإسلامي، على مؤسسات التنمية الاقتصادية؟ وذكرتِ قبل قليل أن هناك جانبًا وشِقًّا في مجال المالية الإسلامية وهو الجانب اللاربحي، المتمثّل في الوقف والقرض الحسن، لكن هل غطى الجانب الربحي على الجانب الآخر، وعلى مؤسسات التنمية الاقتصادية الأخرى، بحيث أن التمويل الإسلامي أخذ مساحة أكبر من الاقتصاد الإسلامي ؟
شكرًا، السؤال مهم جدًا. نعم، في أبعاد عميقة، المصارف الإسلامية وكذلك شركات التأمين الإسلامي وغيرها أخذت ذلك الوهج. ولكن لا نستغرب أنها أخذت ذلك الوهج الكبير، فالمصارف الإسلامية تتعامل في المال، وهي مؤسسات ربحية ومسجّلة كشركات في كافة الدول..
لدينا 600 مصرف إسلامي والعدد في ازدياد حول العالم، في 80 دولة حول العالم، ولدينا ملايين المتعاملين مع المؤسسات المالية الإسلامية. ولكن ما نلوم عليه هو أن الوقف والزكاة والقرض الحسن، رغم أنه في ميزانية البنوك الإسلامية هناك بُعد للقرض الحسن، وهناك بُعد أيضًا للمشاركات المجتمعية، إلا أن موضوع الوقف والزكاة لم يأخذ ذلك الوهج.
التمويل الإسلامي، بكافة مؤسساته يتعامل بالمال، وبالتالي الضبط والرقابة عليه عالية جدًا. الوقف والزكاة يتعاملان بالمال أيضًا، ولكن هناك محددات كثيرة في أبعاد معينة لهذه الجهات. هذه المؤسسات أغلبها مؤسسات خاصة، وبعضها تابع للدولة، وبعض البنوك وبعض المؤسسات تمثل الدولة في بعض الدول. ولكن في موضوع التعاملات، فإن هذه المؤسسات تملك مبالغ كبيرة جدًا من حيث حجم الأصول ومن حيث حجم التعاملات حول العالم.
وبالتالي، أخذت ذلك الوهج من الناحية التنظيمية، ومن الناحية القانونية، ومن الناحية التشريعية، ومن الناحية الاجتماعية أيضًا. وترى كثيرًا من الناس فطريًا يبحثون عنها ويريدون التعامل معها.
لا غنى لنا في وقتنا المعاصر عن البنوك وشركات التأمين، لذلك ترى الجميع مهتمًا، يعني، هذه المؤسسات يجب أن تُعلَم بأنها تحت “المايكروسكوب” دائمًا. هي لا تُشكّل من النظام المالي العالمي حصة كبيرة – تقريبًا 3% – في النظرة الكلية قد لا تُعتبر شيئًا، ولكنها بما تحمله من فكر أجبرت كثيرًا من المؤسسات الدولية، كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وغيرها، على النظر إلى هذه المعاملات بعين الجِدية. وأصبحت هناك أقسام خاصة في فهم التمويل الإسلامي والإشراف عليه.
هذا يقودنا إلى التساؤل عن المسؤولية الاجتماعية، إذا فهمنا أن طبيعة مؤسسات التمويل تتمثل في كونها مؤسسات خاصة تتعامل مع السوق ومع المساهمين. لذلك، ما هو واقع المسؤولية الاجتماعية بالنسبة لهذه المؤسسات المالية الإسلامية ؟
نعم، بعض القوانين في بعض البلدان فرضت الزكاة على الأرباح الناتجة عن المساهمة أو التعامل مع البنوك الإسلامية، بينما تركت بعضها الآخر الأمر للعامل. فبالتالي، تحصيل حاصل أن يرتبط المال دائمًا بمفهوم الزكاة. أما الوقف، فهو اختياري فعلاً، لكن الزكاة كما تعلمون هي ركن من أركان الإسلام، وبالتالي لا تنفك الإنتاجية المالية عن أن يكون لها ارتباط بالزكاة. كما قلت، بعض الدول والتشريعات تركت الأمر للأفراد، وبعضها الآخر فرضه على المؤسسات، وبالتالي هي تساهم بشكل أو بآخر في البعد اللاربحي بالنسبة لمنظومة الاقتصاد الإسلامي التي ذكرتها.
البعد الذي ذكرته في المساهمة في الخدمات الاجتماعية أو البعد الخيري بالإجمال، هناك مقياس في درجات التصنيف للبنوك يدخل فيه موضوع البعد الاجتماعي، وهل للبنك فعلاً مساهمات مجتمعية بحسب الدولة التي يوجد فيها. لذلك، البنك دائمًا حريص على أن يكون له دور اجتماعي في مجتمعه. وهذه البنوك أساسًا، وشركات التأمين وغيرها من المؤسسات الإسلامية المالية، دائمًا ما تحرص على أن يكون لها يد في البعد الاجتماعي في الدول.
وضعت منظمة الأمم المتحدة 17 هدفًا كأهداف يجب أن تتحقق، وكان ذلك في عام 2015 م تقريبًا على ما أذكر. هذه الأهداف السبعة عشر، وبعد أن قمت ببعض الدراسات الخاصة بتحليلها، تكاد تكون 70% منها منطبقة على التمويل الإسلامي. وبالنتيجة، يتحقق مثل هذه الأهداف، ومنها تمكين المرأة، والمحافظة على البيئة، وغيرها من العناصر الرئيسة السبعة عشر.
الوقف يلعب دورًا كبيرًا في تحقيق مثل هذه الأهداف، وكذلك البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية حريصة دائمًا على الإفصاح في ميزانيتها في نهاية العام عن حجم الصرف على البعد الاجتماعي في الدول.
وكثيرًا ما نرى أن المؤسسات المالية الإسلامية، وخاصة المصارف الإسلامية، كما تعلم، عند استثماراتها، دائمًا ما أقول إن الصكوك الإسلامية هي نافذة للبنوك الإسلامية حتى تستطيع توظيف أموالها بأدوات مالية جديدة. الصكوك في ذاتها أيضًا تحمل البعد الوطني، وهذه المساهمة يغفل عنها الكثيرون، فالأدوات في التمويل الإسلامي لها خصوصية عالية جدًا في دعم المجتمعات.
الفرق بين البنوك الإسلامية والتقليدية
هناك فئة من الناس – ربما تكون كبيرة – لديها بعض التصورات حول البنوك الإسلامية من بينها أن لا فرق بين البنوك الإسلامية والتقليدية، أو أن البنوك الإسلامية فقط تحاكي أدوات التمويل غير الإسلامية. فكيف يمكن الرد على هذا الكلام ؟
بصراحة، كنت أتمنى أن يكون هذا السؤال قد عفا عليه الزمن، كثير من الأمور الناجحة دائمًا ما تُحارب.
أدوات التمويل الإسلامي ومؤسسات التمويل الإسلامي، دائمًا ما أقول إنك بحاجة إلى حاضنة دولية تدعم كافة التفاصيل في البلدان الإسلامية. احترامًا للعامة، لا أستطيع تحميلهم بكافة التفاصيل المحيطة بالتحديات التي تواجه أعمال البنوك الإسلامية، وشركات التأمين، وغيرها من المؤسسات المالية الإسلامية. لا أدافع عن التمويل الإسلامي بقدر ما أقول إن هناك فعلاً بعض الأمور التي يلتفت إليها الإنسان المتعامل العادي، غير الممارس في البنوك الإسلامية، والذي لا يطّلع على كافة التفاصيل.
على سبيل المثال، يُقال إن كلفة البنوك الإسلامية مرتفعة، وكأنك تدفع ثمن انتمائك لمؤسسة مالية إسلامية أو تعاملك معها، وذلك بسبب المقارنات بين التمويل في البنك التقليدي والتمويل في البنك الإسلامي. ولكن عموم الناس لا يعلمون أن البنوك الإسلامية لا يمكن أن تدخل في الفائدة المركبة عند التعثر، فهي محكومة ومنضبطة بأبعاد الشريعة الإسلامية. ومع ذلك، في بعض الحالات، تكون كلفة التمويل عالية أساسًا، لأن البنوك الإسلامية تتحوّط أكثر من البنوك التقليدية حتى لا تضطر إلى اللجوء إلى ملاذها الأخير.
هناك كثير من التفاصيل التي لا تُطرح علنًا، ولكن المتخصصين يعرفونها. لذلك، دائمًا أقول: لنلتمس عذرًا لهذه المؤسسات، ولكن ليس على حساب الأداء. علينا أن ننظر إلى أدائها؛ فقد وضعت بصمتها في خارطة التمويل في العالم كله، وبالتالي، علينا دعمها بشتى الطرق.
من الأمور التي تثير الجدل استخدام مؤشر “ليبور” في تسعير بعض أدوات التمويل الإسلامي. كيف توضحون ذلك ؟
بصراحة، مؤشر الليبور في الحسابات المصرفية لا شك بأنه موجود، ووجود بديل إسلامي له بحاجة إلى جهد كبير. هو ليس بالمستحيل، ولكن بحاجة إلى جهد كبير. وكما تعلمون، فإن هذه الحسابات أو هذا الاعتماد على معدلات الليبور أمر عالمي لا يمكن الانفكاك عنه، تبعًا لإجابتي على السؤال السابق.
هناك كثير من المحددات. نحن بحاجة إلى أبعاد ابتكارية قوية، وكذلك إلى دعم من صناع القرار، حتى ينهض التمويل الإسلامي كما يريده العموم والخصوص أيضًا. موضوع “الليبور”، لا أقول إنه من أساس طرق التمويل الإسلامي – وقد نوقش في كثير من الدراسات – ولكنه كما تعلم، هو عبارة عن معدل معيّن في الأسواق، وخاصة في سوق لندن، حيث يتم تحديد معدلات معيّنة من أدوات بمعدلات فائدة معينة، تتعلق بأسعار الصرف وغيرها.
وبالتالي، فإن النظرة إلى “الليبور” يجب أن تتطور لاحقًا. وقد يأتي وقت، في المستقبل القريب أو البعيد، يُستحدث فيه بدائل إسلامية. ما يحضر في ذهني الآن للرد على مثل هذا السؤال هو أننا – بشكل عام – بحاجة إلى عقول مبتكرة، تفكر خارج الأطر المألوفة، ولكن ضمن الإطار الإسلامي العام.
نحن بحاجة لمثل هذه الأفكار البديلة، حتى لا يُقال إننا نحاكي البنوك التقليدية. ولا ألوم من يقول هذا القول، لأن نظرته من الخارج توحي بذلك. كثير من العاملين في المؤسسات المالية الإسلامية في السابق كانوا متدربين أو عاملين في مؤسسات تقليدية، وقد قطعوا شوطًا كبيرًا في دراسة الاقتصاد الوضعي والتعامل مع هذه المؤسسات.
لذلك، نحن بحاجة إلى فسحة من الوقت، ولكن أيضًا إلى الاستعانة بالأمور المستجدة من تكنولوجيا، ومن الذكاء الاصطناعي (AI)، ومن غيرها من التوظيفات، وحتى من العنصر الشبابي، لأن طريقة تفكيره الحالية تختلف تمامًا عن السابق. وبالتالي، قد تتولد لدينا مدرسة ابتكارية يحتاجها التمويل الإسلامي، وتحتاجها المؤسسات كذلك.
لكنك بحاجة إلى حاضنة لهذه العقول، تدعم تفرغهم لمثل هذا الأمر، حتى يكون لدينا هذه الإشراقة المستقبلية. وعلى بعض المهتمين وذوي القرار، أو أصحاب القرار، أن يدفعوا بهذا الاتجاه.
ذكرتِ في حديثك العملات الرقمية والعملات المشفّرة، وكنتِ قد قدمتِ بحثًا عنها في مجمع الفقه الإسلامي. كيف ترين مواكبة الهيئات الشرعية لهذه التطورات السريعة ؟
العملات الرقمية والمشفّرة و “البلوكتشين” والاندفاع باتجاه العملات الرقمية موضوع عالمي لا تُقرره مؤسسة منفردة ، لأن هذا الأمر يخضع لسيادة الدولة وإشرافها، وبالتالي نحن بحاجة إلى نهوض البنوك المركزية لابتكارات من هذا النوع، ثم تؤطر موضوع المتاجرة فيه حول العالم.
ومن هذه الانطلاقة بعد أن يكون هناك اعتراف أساساً من البنوك المركزية لمثل هذه العملات أو حتى إصدار عملات للبنوك المركزية، وكما تعلم أكثر من بنك مركزي الآن أصدر مثل هذه العملات حتى يكون لها صفة وطبيعة قانونية.
المال في الإسلام له ضوابط .. وهذه الضوابط لا تنطبق على العملات المشفرة بشكلها الحالي الآن، فالتعاملات الرقمية تختلف عن العملات المشفرة، وبالتالي علينا أن ننتبه لمثل هذه الأبعاد وأن لا نسبق الزمن ولكن على الأقل أن نكون متماشين معه في موضوع المتابعة الحثيثة للمستجدات والمخرج الشرعي الذي من الممكن أن يخرج عنه.
العملات المشفّرة بصورتها الحالية لا تنطبق عليها ضوابط المال الشرعي، لكن العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية قد يكون لها وضع مختلف.
مستقبل التمويل الإسلامي
أخيرًا، كيف ترين مستقبل التمويل الإسلامي بعد هذه المسيرة الطويلة ؟
التمويل الإسلامي اليوم في عقده الخامس، بينما التمويل التقليدي له أكثر من 400 سنة. لا أذكر ذلك من باب المقارنة فحسب ولكن حتى نعرف في أي مرحلة يمر بها التمويل الإسلامي.
أعتقد بأننا بحاجة لوقت ليس بالكثير لأن ننضج بحيث نصل إلى مستويات تفوق المستويات الحالية. التمويل الإسلامي الآن حقق قفزات نوعية في أبعاد كثيرة، يكفي الاعتراف العالمي بوجوده.
العالم الآن يفتقر إلى الأخلاق .. أخلاق المعاملات المالية الإسلامية، والتمويل الإسلامي كان له بعد دعوي حول العالم من حيث لا يعلم، وبالتالي انتشر في الآفاق عبر البعد الأخلاقي الكامن فيه.
التمويل الإسلامي له مستقبل باهر بإذن الله تعالى مع تزايد أعداد المسلمين في العالم ولكن نحن بحاجة لتوظيف رؤوس الأموال حتى ينهض التمويل الإسلامي، توظيف على أبعاد متعددة من تأسيس لهذه المؤسسات، من دعم المؤسسات القائمة، ومن دعم تشريعي قوي. كثير من الدول التي هي في مصاف الدول بالنسبة للتمويل الإسلامي مثل دول الخليج العربي ومثل ماليزيا كانت تحظى بدعم سياسي واضح لنهضة هذه المؤسسات المالية، بالرغم من أننا في أنظمة مختلطة ولكننا لازلنا بحاجة لدعم سياسي لهذه المؤسسات، وبفضل الله هو موجود في عالمنا الإسلامي ولكن علينا أن ننطلق إلى رحاب العالم كله.
في فترة ما كانت بريطانيا وفرنسا تتنافسان لكي يكون هناك أرضية تشريعية ينطلقان منها لآفاق التمويل الإسلامي بغض النظر عن أهداف استقطاب المال الإسلامي ولكن الآن هناك أبعاد كثيرة من الممكن أن تدخل فيها كصناعة الحلال حول العالم التي تشهد اتساعا متزايدا في كل العالم تقريباً.
نحن بحاجة لتبني الأفكار المستجدة بضوابط، وأن نبقى مع المؤسسات التي تستميت في بقاء أبعاد الشرعية للتمويل الإسلامي محافظة على روحها الأصيلة ومنطلقة منها.
الخاتمة
شكرًا جزيلًا لكِ دكتورة خولة على هذا الحوار الثري والمليء بالإضاءات العميقة حول واقع ومستقبل التمويل الإسلامي.