من صبر الأنبياء على البلاء ما روي أن يعقوب عليه السلام في قصته مع أبنائه حين جاءوه عشاء يبكون أخاهم يوسف – كما جاء في تفسير القرطبي– قالوا له: فأكله الذئب. قال لهم: ألم يترك الذئب له عضواً فتأتوني به أستأنس به؟ ألم يترك لي ثوباً أشم فيه رائحته؟ قالوا: بلى، هذا قميصه ملطوخ بدمه، فذلك قوله تعالى { وجاءوا على قميصه بدم كذب } (يوسف:18) .
بكى يعقوب عند ذلك، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقاً ولا تمزيقاً. فقال: والله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت كاليوم ذئباً أحكم منه. أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه ! فعلم أن الأمر ليس كما قالوا وأن الذئب لم يأكله. فقال: بل زينت لكم أنفسكم أمراً غير ما تصفون وتذكرون. ثم قال توطئة لنفسه { فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون } (يوسف:18).
يعقوب عليه السلام صبر صبراً جميلاً على ما حدث لابنه الصغير يوسف، والذي هو بدوره لم يجد حلاً لمصيبته سوى الصبر والصبر فقط، اقتداء بمنهج والده عليهما السلام، حتى نالا الجزاء الجميل. حيث يرى يعقوب عليه السلام عائلته تجتمع من جديد في حب افتقدته العائلة سنين طويلة، ويوسف عليه السلام يتمكن في الأرض، بل ويسجد له الوالدان والإخوة جميعاً، تحقيقاً لرؤيته قبل سنوات طوال.
هكذا هم أهل الصبر، وهكذا تكون نتائج صبرهم كما قال تعالى { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } (الزمر :10)
مدرسة أيوب عليه السلام
قصة ابتلاء النبي أيوب عليه السلام وهو يدعـو ربه في أدب بالغ عجيب {ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} (الأنبياء:83) نموذج آخر للصبر، ومن أروع قصص الابتلاء، كما قال سيد قطب في ظلال القرآن: .. وأيوب هنا في دعائه لا يزيد على وصف حاله (أني مسني الضر) ووصف ربه بصفته (وأنت أرحم الراحمين) ثم لا يدعو بتغيير حاله، صبراً على بلائه، ولا يقترح شيئاً على ربه، تأدباً معه وتوقيراً، فهو نموذج للعبد الصابر، لا يضيق صدره بالبلاء، ولا يتململ من الضر الذي تضرب به الأمثال في جميع العصور، بل إنه ليتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه، فيدع الأمر كله إليه، اطمئناناً إلى علمه بالحال وغناه عن السؤال. وفي اللحظة التي توجه فيها أيوب إلى ربه بهذه الثقة وبذلك الأدب كانت الاستجابة، وكانت الرحمة، وكانت نهاية الابتلاء {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم} (الأنبياء :84)
الناس مذاهب في الابتلاءات
أحدنا قد يتعرض لمحنة أو مصيبة أو ابتلاء، فتجده من شدة الابتلاء لا يصبر. والناس قدرات ودرجات في الصبر، فيتأفف ويتململ وبالتالي يضيع الأجر، وهو المقصد الرئيسي من الابتلاء أو المحنة. نعم قد يرفع الله عنه البلاء أو المصيبة بعد حين، لكن بعد أن يكون قد أخفق في الاختبار.
حياتنا الدنيوية ما هي سوى قنطرة، أو طريق مليء بالمحن والابتلاءات على اختلاف أنواعها وشدتها، بل هي أكثر مما يمكن أن نحصيها ونحصرها هاهنا. لكن المتفق عليه أنها أمر طبيعي. لماذا؟ لأننا نعيش – كما أسلفنا – في دار امتحان وابتلاء. وهذه حقيقة من حقائق الحياة التي لابد أن نعيها ونتفهمها جيداً، كيلا نعيش في قلق وتوتر دائمين.
حوادث الدنيا والمحن المتنوعة إن جاء وقتها كما هي مقدّر لها، فلن تميّز بين أحد. الناس كلهم سواسية أمامها. بمعنى أن المصيبة لو نزلت، لا تعرف فقيراً أم غنياً، قوياً أم ضعيفاً، مسلماً أم غير مسلم، كبيراً أم صغيرا.. وليس هذا هو المهم في حديثنا، بقدر أهمية الكيفية التي علينا التعامل معها، لأن هذه الحوادث والابتلاءات ما هي إلا جملة اختبارات من بدء التكليف حتى الممات، حتى يخرج أحدنا من مدرسة الحياة المخصصة لاختبارات متنوعة عديدة وكثيرة، وبنتيجة محددة واضحة: إما نجاح وانتصار أو رسوب وإخفاق.
منا من يوفقه الله إلى التغلب على المحنة تلو الأخرى في محطات الدنيا عبر أنواع عديدة من العلاجات يتبعها، وأهما الصبر، مع تعامل صحيح معها. لكن منا من يتعثر تارة في محنة تطول مدتها، لكنه ينجح مع أخرى، وهكذا. فيما فريق ثالث، حياته كلها عثرات وابتلاءات لا يصبر عليها، ولا يتعامل معها بحكمة وروية، وعلم ودراية، حتى تنتهي به الأمور إلى إخفاقات وانتكاسات، والعياذ بالله.
خلاصة الحديث : طب نفساً
المسلم المؤمن يتعلم منذ نعـومة أظفاره مسألة الإيمان بالقدر خيره وشره، فتجعله يطمئن إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فقد رُفعت الأقلام وجفت الصحف، كما في الحديث الشريف. لكن غير المؤمن تهتز أركانه وترتجف أوصاله عند أول ابتلاء أو محنة، وبالتالي تجده يضعف ويتشتت إيمانه ويضعف أكثر فأكثر.. تلك نقطة أولى.
النقطة الثانية أن المؤمن عادة يكون موقناً تمام اليقين أنه يُثاب على أي مكروه يصيبه، حتى الشوكة يشاكها، له فيها أجر. أجر الألم أولاً، ثم أجر الصبر على الألم ثانياً. وقد تعلمنا من ضمن دروس الإيمان الأولى ضمن المراحل الدراسية المبكرة، أن المؤمن أمره كله خير، إن أصابه خير فشكر كان له أجر، وإن أصابه شر فصبر كان له أجر أيضاً.. فدع الأيامَ تفعلُ ما تشاء – كما قال الإمام الشافعي – وطب نفساً إذا حكم القضاءُ. وليست هذه دعوة للسلبية، بل دعوة للمداومة على أدعية النجاة من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، والحرص على ذلك ليلاً ونهارا، وأن نسأل الله دوماً العافية في الدين والدنيا والآخرة، فهو كفيلٌ بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.