طه جابر العلواني – رحمه الله – سيرة ذاتية خاصة، من حيث تميزها وإثارتها لفضول الباحث كشفا عن أسرارها، وتوضيحا لخصائصها الموجِّهة لها. لذلك، فإن الناظر في هذه السيرة – سواء في بعدها التاريخي، أو في أفقها العلمي- يكاد يجزم بأننا أمام شخصية فريدة، ذات مسار تاريخي، وعلمي، خاص سمته الجد المتواصل، والعطاء الوافر، والاجتهاد المتكاثر، مع ما صاحب ذلك من خبرة متينة ومتميزة في علم أصول الفقه وفي الفكر الإسلامي على حد سواء.

على أن ما يميز سيرة طه جابر ليس كونه أصوليا متمكنا في تخصصه، فهذا الأمر تتقاسمه معه طائفة هامة من أبناء هذه الأمة المباركة، وإنما يظل التنبيه أكيدا على قلة من يزاوج بين التخصصات العلمية الشرعية الخالصة، وقضايا الفكر الإسلامي، خاصة ما يرتبط بهموم أمتنا، من حيث تشخيص أزماتها المتنوعة، والاجتهاد في طرح مقترحات شاملة وكفيلة بانبعاث هذه الأمة من جديد، قصد قيامها بواجبها الحضاري المنوط بها.

نبذة مختصرة عن طه جابر العلواني

بمدينة الفلوجة العراقية، كانت ولادة طه جابر العلواني عام 1935م، وبها تلقى تعليمه الأولي فيها، ليستكمل دراسته ببغداد، ثم بالقاهرة التي حصل بها على جميع شواهده من الثانوية الأزهرية، والليسانس، مرورا بالماجستير، ووصولا إلى الدكتوراه بجامعة الأزهر عام 1973 في تخصص أصول الفقه، من خلال تحقيقه لكتاب “المحصول في علم أصول الفقه” للرازي (ت 606 هـ) (1).

إن هذا المسار العلمي المتنوع أتاح للعلواني مخالطة علماء أوسع علما وأكثر انفتاحا، مما أخذ منه درسا منهجيا سيوجه حياته العلمية بأسرها في أنه ليس هناك مقدس أمام العلم إلا الكتاب والسنة، وأن المذاهب والمقولات الفقهية ليست الشريعة نفسها، وإنما هي فهوم بشرية نسبية للشريعة تتأثر بالبيئات الثقافية والاجتماعية، مما سمح له بتقديم انتمائه للأمة الإسلامية على كافة التحيزات الفكرية والقطرية الضيقة (2).

إنتاجات علمية متميزة

ومن ذلك (3)، تأليف طه جابر أكثر من ثلاثين كتابا بين تحقيق ودراسة، من أبرزها:

-تحقيقه كتاب “المحصول في أصول الفقه”، للرازي (ت 606 هـ)؛

-ومن دراساته للتراث وقضاياه، يأتي كتابه “أدب الاختلاف في الإسلام”؛

-ومن دراساته للتراث وشخصياته البارزة فيه، يقع كتابه “الإمام فخر الدين الرازي ومصنفاته”، و”ابن رشد الحفيد: الفقيه الفيلسوف”؛

-ومن اهتمامه بقضايا العصر واحتياجاته، طرح مشروع “إسلامية المعرفة” من خلال كتابه “مقدمة في إسلامية المعرفة”، و”الأزمة الفكرية ومنهاج التغيير: الآفاق والمنطلقات”، وغير ذلك؛

-ومن كتبه التي زاوجت بين الاهتمام بقضايا العصر، ومشروعه العلمي، ودراسة شخصيات تراثية، هناك كتاب “ابن تيمية وإسلامية المعرفة”؛

-ثم إن كتاب “أصول الفقه منهج بحث ومعرفة” يشكل الأرضية التي من خلالها عرض طه جابر تصوره الإجمالي لقضية تجديد علم أصول الفقه؛

وأما خبرات العلواني العلمية، فمنها: نيابته لرئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفيرجينيا، بالولايات المتحدة الأمريكية، منذ 1986م وحتى سنة 1996م، وكذا رئاسته تحرير مجلة إسلامية المعرفة، الصادرة عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفيرجينيا دائما، من سنة 2002م وحتى 2007م.

وأما انخراطه في المؤسسات العلمية الدولية، فمنها: عضويته في المجمع الفقهي العالمي بجدة، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وكذا عضويته في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، بمكة.

ولا شك، فالمتأمل لما سبق بيانه من سيرته، يدرك بأن حياة طه جابر مليئة بالعطاء الوافر، والاجتهاد المتكاثر، مع ما صاحب ذلك من خبرة متينة ومتميزة.

إسلامية المعرفة لتجاوز أزمة أمتنا الحضارية

ينطلق العلواني من أن العالِم الأصولي أو غيره لا ينبغي أن تخرج اهتماماته عن قضايا الأمة الإسلامية وهمومها، لما صار من المعلوم بالشرع، والعقل، والواقع، ضرورةً أن أمتنا تعيش أزمة حضارية خطيرة تتمثل تجلياتها في مستويين اثنين متكاملين:

-فأما الأول منهما، فهو بعد المسلمين أفرادٍ، وجماعات، ومؤسسات، وأمة ككل، عن منهج الوحي تصورا سليما، وتطبيقا صحيحا؛

-وأما المستوى الثاني منهما، فهو نتيجة للعامل الأول حتمية، ويتجلى في وضع أمتنا المتردي مقارنة مع غيرها من أمم الأرض على كافة المجالات، خاصة ما يتعلق بالحياة العامة منها: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وصحيا…  .

وفي إطار تشخيصه وحصره للأزمة التي تعيشها هذه الأمة، يستبعد طه جابر البعد الاقتصادي، بالنظر إلى أن خيرات أمتنا وثرواتها كثيرة ومتنوعة. كما يستبعد البعد السياسي باعتباره شرطا لهذه الأزمة، لأن هذا التفسير يقودنا إلى تعطيلنا للكسب الحضاري للأفراد والجماعات، بالاحتماء بما كسب غيرنا، ونسيان أهمية كسبنا نحن.

لذلك، ينطلق العلواني «من فرضية أن أزمة الأمة في فكرها ومنهج تفكيرها، وما يتعلق بذلك من نظم تربوية وتعليمية، والتي أدت إلى تكريس الغربة والابتعاد عن الإسلام ونظامه في الحياة» (4) .

لذلك، وربطا للأسباب بمسبباتها، ولكي تتجاوز هذه الأمة مشاكلها الكثيرة والمعقدة، يرى طه جابر ضرورة «إعادة تشكيل العقل المسلم المستنير، القادر على أداء رسالته، وممارسة دوره في الاجتهاد والتجديد والعمران الإنساني، وتأهيل المسلم لدور الاستخلاف وبناء القدرة لديه على التسخير، وذلك من خلال جولاته الفكرية والثقافية، واكتشاف سنن الله في الأنفس والآفاق، لامتلاك إمكانية التسخير» (5) .

وبغية تحقيق هذا الهدف، فإن العلواني يقترح سبيلين اثنين:

-أما الأول، فهو تنقية عالم الأفكار، وإعادة قراءة الميراث الثقافي، وتقييمه في ضوء رؤية ذاتية وفقه حضاري؛

-وأما الثاني، فهو بناء النسق المعرفي والثقافي الإسلامي (6) .

على أن المدخل للانطلاق الإسلامي نحو التغيير الحضاري الهادف والبناء لأمتنا، يتخذ شكل مشروع “إسلامية المعرفة” (أو أسلمة العلوم)، باعتبارها منهجا محدد المعالم واضح القسمات، يمثل بديلا للمادية والوضعية المتجاهلة لله وللغيب، كما يمثل بديلا عن اللاهوتية والكهنوتية المستلبة للإنسان والطبيعة (7) .

وإذا كانت إسلامية المعرفة تمثل «الجانب الذي يمكن أن نطلق عليه ((الجانب النظري)) من الإسلام، أو الجانب المعرفي الذي يقابل الجانب النظري في سواه» (8) ، فإن هذا المشروع يجد تطبيقاته في العلوم بأقسامها الثلاثة: العلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، والعلوم الشرعية، عن طريق إعادة بناء وتوجيه هذه العلوم، من خلال رؤية الإسلام، وفلسفته، ومقاصده.

فأما ارتباط إسلامية المعرفة بالعلوم الطبيعية، فيتجلى من خلال دور الإسلام الذي يوجه هذه العلوم، ويرسم الاتجاه، ويجعل للعلم هدفا وغاية ومقصدا، فيفرض البحث النافع الممدوح، في مقابل رفضه للضار منه والمذموم. فهي – إذن – عملية ربط غاية المعرفة ومقاصدها، ومغادرة لفكرة العلم للعلم، والفن للفن (9) .

وأما ارتباط إسلامية المعرفة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، فتظهر من خلال النظر إلى العلاقة بين هذا المشروع و«بين الإنسان وبين المعارف، فهذه المعارف الاجتماعية والإنسانية هي معارف القرآن الكريم، فالقرآن تكلم عن الفرد والمجتمع والأسرة، عن الإنسان، الأمم وكيفية نشأتها وصعودها وتراجعها، العمران؛ ولذلك فالعلاقة وثيقة بين الأسلمة والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ولا يملك أحد إنكاره» (10).

والعلوم الشرعية ليست بمنأى عن أسلمتها كذلك، عن طريق «إعادة النظر في التعامل مع الكتاب والسنة، وجعلها المصادر الأساسية، باعتبار أن القرآن الكريم هو المصدر المنشئ للأحكام، والسنة مصدر مبين على سبيل الإلزام لهذه الأحكام. وإسلامية المعرفة هنا تعني مراجعة التراث، وبالتالي فأسلمة هذه العلوم تقوم على مراجعة هذه الأنواع من المعرفة، والسعي للكشف عن مدى ارتباطها بالكتاب والسنة، على مستوى فهمنا المعاصر، استجابة لجدلية النص والواقع» (11) .

ثم إن مشروع “إسلامية المعرفة” يشكل شرطا ومدخلا للانطلاقة الإسلامية نحو التغيير الحضاري لهذه الأمة، باعتباره الجانب النظري من الإسلام، والمحدِّد المنهجي الإسلامي البديل عن المادية الغربية المتجاهلة للوحي، عن طريق تأهيل المناحي الثلاثة الكبرى للعلوم (أي: العلوم الطبيعية، والاجتماعية، والشرعية)، خدمة لانبعاث جديد لأمتنا، بما يتماشى ومقاصد الشريعة.

ولكن، شاءت الأقدار الإلهية أن تتوقف مسيرة طه جابر العلواني العلمية بوفاته يوم 4 مارس سنة 2016م، عن عمر بلغ 81 سنة، تاركا مشروعا فكريا عظيما للأمة، ومعه تصورات تجديدية حقيقة ورصينة لعلم أصول الفقه، ومعه مشروع واضح المعالم بغية انبعاث هذه الأمة من جديد، مما يصلح أن يكون مادة أولية، ورافدا لرؤية تنقذ أمتنا من براثن الجهل والتخلف، خدمة لراهنيتها أفضل، وطلبا لغد أحسن، وسعيا لصبح أمثل.



(1) أبو حليوة، إبراهيم سليم، طه جابر العلواني: تجليات التجديد في مشروعه الفكري، سلسلة «أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي»، منشورات مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، ط1، 2011 م، ص 19.
(2) الخال، سمير، إشكال تجديد علم أصول الفقه: طه جابر العلواني نموذجا، دار اليمامة (دمشق/ بيروت) والدار العالمية للكتاب (الدار البيضاء)، ط1، 2017 م، ص 206 – 208، بتصرف شديد.
(3) المرجع السابق نفسه، ص 212 – 215، بتصرف.
(4) أبو حليوة، طه جابر العلواني: تجليات التجديد في مشروعه الفكري، ص 53.
(5) المرجع السابق نفسه، ص 56.
(6) المرجع السابق نفسه.
(7) الخال، إشكال تجديد علم أصول الفقه: طه جابر العلواني نموذجا، ص 217.
(8) العلواني، طه جابر، ابن تيمية وإسلامية المعرفة، سلسلة «إسلامية المعرفة»، العدد 13، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط 1، 1415هـ – 1994م، ص 54.
(9) المرجع السابق نفسه، ص 58 – 59، نقلا عن: العلواني، مقدمة في إسلامية المعرفة.
(10) المرجع السابق نفسه.
(11) المرجع السابق نفسه.