إن مما يزيد من تعظيم المسلمين لرسولهم ﷺ معرفة عظيم قدرته، ورفعة مكانته عند ربه عز وجل، وذلك باستعراض خصائصه التي امتن الله عليه بها، والتي تدل على تشريف الله تعالى له وتكريمه لنبيه ﷺ وتفضيله على العالمين من الإنس والجن بل والملائكة المقربين، في الدنيا والآخرة.
وثمرة هذا الاطلاع، ونتيجة هذه المعرفة، شحذ الهمم لاتباعه والاقتداء به، والتمسك بسنته وهديه ولزومها، واقتفاء أثره في حياته كلها ومنهاجه في دعوته لهذا الدين العظيم.
فمن خصائصه وفضائله ومناقبه ﷺ في الدنيا:
أولاً: أنه رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِجَالِكُمْ وَلَكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّين وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) أي: هذه مرتبته، وهذه منزلته، أنه رسول الله ﷺ، وخاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم أشرف الخلق وأكرم الناس على الله تعالى كما هو معلوم، فقد اختارهم الله عز وجل عن علم، فهو يعلم مَن يصلح لرسالته وفضله، ومن لا يصلح، ولهذا قال: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}، كما قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124). وقال أيضاً سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْـمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج: 75)وقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 33).
وهو عليه الصلاة والسلام من آل إبراهيم ﷺ وذريته. فهو صفوة البشر، وخلاصة الخليقة، علماً وعملاً وفضلاً وتقوى وخُلقاً وخلقاً. فكيف وهو إمامهم ومقدمهم أجمعين؟! كما سيأتي.
ثانياً: ما امتنَّ الله عليه به في قوله سبحانه: {وَأَنَزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113)
فذكر الله سبحانه نعمته عليه بالعلم العظيم، والذكر الحكيم، الذي فيه علم الأولين والآخرين، وتبيان كل شيء، في القرآن الكريم، والسنة النبوية، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} وهذا يشمل كل ما علَّمه الله تعالى.
وقد كان قبل النبوة كما وصفه الله بقوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ} ثم لم يزل الله يوحي إليه ويعلِّمه ويكلمه، حتى صار أعلم الخلق على الإطلاق وأكملهم، ولهذا قال: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} ففضله على الرسول محمد ﷺ أعظم من فضله على كل الخلق، بما أسبغ عليه من المناقب والمراتب الشريفة، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىü وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىü وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (الضحى: 6- 8). ولم يزل ﷺ يصعد في درجات المعالي، ويرقى في مدارج الفضائل حتى توفي.
ثالثاً: أن الله تعالى أخذ له ﷺ العهد جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، أنه لو بعث ﷺ وهم أحياء أو أحدٍ منهم أن يؤمنوا به ويتبعوه وينصروه.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَـمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّـمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَأَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81).
فهو ﷺ إمام الأنبياء والمرسلين، الذي تجب طاعته واتباعه في أي عصرٍ وُجد، وهكذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما جمعهوا له للصلاة بهم في المسجد الأقصى حرره الله بفضله وقوته.
وهكذا كان أهل الكتاب على علم تام به وبصفاته وبمكان بعثته ومهاجره، وكانوا ينتظرونه، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْـحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 146).
وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157).
رابعاً: أنه ﷺ أكثر الأنبياء تابعاً، وأمته أكبر الأمم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثر تابعاً يوم القيامة» رواه البخاري (4/ 342).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة» رواه مسلم في الإيمان (1/ 130).
وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أهل الجنة عشرون ومائة صفٍ، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم» رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه ابن حبان وغيره.
ولا شك أن أعمال أمته من القربات والعبادات والأقوال الصالحات، من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد وبر ومعروف وذكر لله تعالى مضاف إلى أجره وعمله وحسناته، لأنها بإرشاده ودلالته وتعليمه، عليه أفضل الصلاة والتسليم، مما يجعله أعظم الأنبياء أجراً ودرجةً ومنزلة عند الله سبحانه.
خامساً: أن قرنه ﷺ خير القرون التي مرت ببني آدم عليه السلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «بُعثتُ من خير قرون بني آدم، قرناً فقرناً، حتى كنتُ من القرن الذي كنت منه» أخرجه البخاري (7/ 201 – 202).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم …» رواه البخاري (6/ 566) ومسلم في فضائل الصحابة (4/ 1964).
سادساً: أن الله تبارك وتعالى امتن عليه بأن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو حي صحيح، وهذا من أعظم مناقبه وكرامته ﷺ، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ü لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ü وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح: 1- 3).
فذكر في هذه الآيات الكريمة نعمه عليه بأن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم نعمته عليه بنصره وإعزاز دينه، وظهوره على أعدائه وبسط سلطانه عليهم، وهدايته الصراط المستقيم الذي تنال به السعادة الأبدية والنعيم السرمدي.
سابعاً: أن الله تبارك وتعالى أقسم بحياته ﷺ فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر: 72).
والإقسام بحياته يدل على شرف حياته وفضلها، إذْ لا يقسم المولى سبحانه إلا بكل عظيم شريف، وما ذاك إلا لما في حياته من رحمة للعالمين، وبركة على الإنس والجن، وهداية للخلق أجمعين.
ثامناً: أن الله تبارك وتعالى وقره في ندائه، فلم يناديه باسم، كما نادى الأنبياء والمرسلين (يا آدم) (يا نوح) (يا إبراهيم) (يا موسى) (يا عيسى) صلوات الله عليهم وسلامه، وإنما ناداه باسم النبوة والرسالة (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول)، وهذه الخصيصة لم تثبت لغيره ﷺ.
تاسعاً: أن الله عز وجل أمر الأمة بذلك أيضاً، أن لا ينادونه باسمه، بل باسم النبوة والرسالة، فقال تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} (النور: 63).
وهذا من شرفه ﷺ وفضله وتميزه عن غيره.
عاشراً: أن الله عز وجل نهى المؤمنين أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، ولا أن يجهروا له بالقول، كما يخاطب الناس بعضهم بعضاً، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُم بَعْضاً أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (الحجرات: 2).
وهذا أدبٌ مع الرسول ﷺ في خطابه، أمر به المولى عباده، أن لا يرفعوا أصواتهم عند مخاطبته، ولا يجهروا له بالقول، بل يغضون صوتهم عنده، ويكلمونه بأدبٍ ولين، وتعظيم وتكريم، وإجلال وتوقير، وخوَّفهم الله من مخالفة أمره بذلك، من حبوط الأعمال، وذهاب الحسنات، وهم لا يشعرون.
الحادي عشر: أن الله عز وجل أجرى على يديه عشرات الآيات والمعجزات، من انشقاق القمر، وتكليم وتسليم الحجر، وصياح الشجر، وجريان الماء من بين أصابعه الشريفة، وشفاء المرضى والجرحى، وأشياء كثيرة لا تعد ولا تحصى، مما فاق به من قبله من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه.
وكان أعظم آية أوتيها هي القرآن الكريم، والذكر الحكيم، وحبل الله المتين، الذي حفظه الله تعالى إلى يوم الدين، حجة على خلقه أجمعين، بينما انقرضت معجزات من قبله من الأنبياء وانتهت بموتهم ، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
فيه نبأ من قبلنا، وخبر من بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
فيه الإعجاز البلاغي واللغوي والبياني، والإعجاز التشريعي، والإعجاز العلمي، والأخبار الغيبية ما لا يوقف فيه على سائل، ولا يشبع فيه عالم.
هذه بعض خصائصه وخصائص أمته في الدنيا.
وأما خصائصه عليه الصلاة والسلام في الآخرة، فمنها:
أولاً: أنه سيد ولد آدم يوم القيامة، كما قال ﷺ:«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع» رواه مسلم في الفضائل .
وإنما قال ﷺ: «أنا سيد ولد آدم» لتعرف أمته منزلته عند ربه سبحانه وسيادته ﷺ للناس يوم القيامة تظهر عند ما يلجأ إليه الناس في طلب الشفاعة العظمى في الموقف الرهيب، بعد أن يتبرأ منها الأنبياء والمرسلون، حتى تصل إليه فيقول ﷺ: «أنا لها» فيسجد تحت العرش، فيقال له: يا محمد، ارفع رأسك، واشفعْ تشفع وسل تعْطه» أخرجه البخاري (6/ 271) ومسلم في الإيمان.
وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه.
ثانياً: جاء في الحديث السابق، أنه ﷺ أول شافع للخلق، وأول مشفع فيهم، وهذه أيضاً من خصوصياته، وعظيم جاهه عند ربه عز وجل، فلا جاه لمخلوق أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته.
ثالثاً: أن الله تعالى جعل بيده ﷺ لواء الحمد يوم القيامة: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواء إلا تحت لوائي، وأنا أول من عنه الأرض ولا فخر» رواه أحمد (3/ 2) والترمذي (2615) وابن ماجة (4308).
وهذا أيضاً مما يدل على علو مرتبته عند الله عز وجل وتخصيصه بذلك.
رابعاً: أنه ﷺ أول من تنشق عنه الأرض يوم يبعث الله سبحانه من في القبور، كما صرح في الحديث السابق.
خامساً: أنه ﷺ أول من يجيز على الصراط هو وأمته، كما جاء في حديث الصراط قوله ﷺ: «ويُضرب الصراطُ بين ظهري جهنم، فأكون أول من يجز من الرسل بأمته…» الحديث رواه البخاري (2/ 292 – 293) ومسلم في الإيمان.
سادساً: أنه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أول من يقرع باب الجنة وأول من يدخلها ولا يفتح لأحد قبله، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة».
وعنه أيضاً: قال رسول الله ﷺ: «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك» أخرجهما مسلم في الإيمان.
وهذه الخصائص التي ذكرناها على وجه الاختصار لا البسط، مما تعرف المسلم بمنزلة هذا النبي الكريم ﷺ ورفعة مكانته عند الله عز وجل، وعند العقلاء من خلقه، مما يلزمهم تعظيمه وتوقيره ومحبته، واتباعه والإيمان به، والسير على منهاجه والعمل بشريعته.
وأما من أصم أذنيه، وأغمض عينيه، وأعرض وتولى، فهو المحروم من السعادة والنجاة، والمتعرض لسخط وغضب ربه ومولاه، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمنَ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِü فَذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} (الأنفال: 13، 14).
فالمشاق لله تعالى ورسوله ﷺ متوعد بالعذاب العاجل.
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَü وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 22، 23).