نظرا للأزمات السياسية الكثيفة في سياقاتنا؛ فإنَّ التغيير أصبح لا يُفهم إلا بكونه تغييرا سياسيا، تترسَّم خطواته في تغيير نظام الحكم، بالطرق المشروعة، لأجل ميلاد نظام سياسي جديد، يكون أكثر رشادة وحَكَامَة، لكنَّ هذا الإقرار على شهرته، ينسى بأنَّ الفعل السياسي ما هو إلاَّ فرع للأخلاق، فالسؤال الذي طرحه أرسطو : كيف يجب أن أعيش أو السؤال الكانطي : ماذا يجب علي أن أعمل؟

يستغرق الفعل السياسي، الذي بات تسكنه مفارقة غريبة : كيف أنَّه فرع من فروع الأخلاق وفي الآن نفسه يجنح إلى الخروج عن أوامرها وتعاليمها؟ لذا، فإننا نقر مع حنا أرندت، بأنَّ الثورة ليست مجرد عملية تغيير، يتم بمقتضاها قلب نظام الحكم السياسي، الثورة التي تحدث ينبغي أن تثمر ميلاد قيم جديدة تصبح سلوكا مرئيا في الفضاء العام، مثل الثورة الأمريكية التي أتت معها بقيمة المواطنة والحرية والإنسان الأمريكي وغيرها، أي أنَّ الثورة في روحها ليست مجرّد تغيير شكلي، بل إنَّها تغيير في ذات الإنسان وسحق لمظاهر الانحطاط وتجديد للنفسية الحضارية الفاترة؛ كي تشرع في الدخول إلى التَّاريخ ونثر المعنى على الأشياء.

إننا نبتغي من إيراد هذه التَّقدُمة، الإقرار بأن أي تغيير إنساني، يجد معناه وبقاءه في التغيير الأخلاقي، وما أشد حاجة الإنسانية إلى هذا التغيير، وحاجتنا نحن في الفضاء العربي الإسلامي أكثر وأشد، لأننا نعيش تخلفا تنمويا، وإذا أضيف له الانحطاط الأخلاقي يصبح تخلفنا تخلفا جذريا مُضاعفا..

“من كان مرباه بالعسف والقهر … سطا به القهر وضيَّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، …وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن”

ابن خلدون

لكن ما هي الشروط التي يحدث بها هذا التغيير الأخلاقي ويصبح ممكنا ؟

أولا: التَّنشئة بدلا من التّرويض

من أسباب عدم الاستجابة الأخلاقية في وجدان الذّات، أسلوب التربية، لا رؤيتها ولا مناهجها و لا غاياتها؛ فنحن ننتهج أسلوب التَّرويض عن طريق الإكراه والقهر، مثلما يتم ترويض الحيوانات حتى تصبح مسالمة، فاقدة لطبيعتها الأصلية؛ يعني في الأخير يتم إضعافها؛ بينما التربية الجديرة بالتطبيق يكون أسلوبها هو التنشئة، ومعنى التنشئة الرعاية ومخاطبة القَلب والتشجيع والحب والقُدوة، وتوفير الشروط التي فيها تنمو ملكات التفكر و التخلّق بصورة ذاتية؛ فالأخلاق الراسخة تنمو بالعناية وليس عن طريق الإكراه، فالتَّربية عن طريق القهر كما حلل ذلك ابن خلدون تُضيِّق على النَّفس في انبساطها وتدعو إلى التظاهر بما ليس في النفس خوفا من انبساط الأيدي، وهذا ما يسمى في معجم الأنثربولوجيا التربوية بـ : السُّلطوية في الخطاب التربوي.

ثانيا: الذكاء والتَّطبيق بدلا من المثالية وإلزامات القلوب

لقد تقطَّعت حياتنا الأخلاقية بين ثنائيات متعارضة ومكرورة : فإما المعاني المثالية وإما التغيرات الواقعية، إمَّا النتائج النَّافعة وإما النَّوايا الخالصة، إمَّا بطولة الإيثار المطلق وإما الأنانية الذَّاتية، وهكذا تمزقت أفعالنا بين هذه وتلك، بينما المسالك الصَّحيحة، تظهر في إقامة توافقات معقولة وإجراءات متوازنة: بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، بين الأوامر المطلقة والتغييرُّات الواقعية، بين الحرية والتَّضامن، بين الروحية والغرائزية؛ وهذا هو روح الذكاء والتطبيق أخلاقيا؛ فنحن لم تقتدر على الإقامة في هذا البرزخ، أو تعويد النّفوس على الفعل الأخلاقي المتوازن، لازلنا بين : إما…أو…والمكسب الذي نجنيه من الذكاء و التطبيق في الأخلاق، يظهر في تحريرنا للأمر الخلقي من مثاليته، وتحرير الواقع من عدميته، فالأجدى لنا أن نبقى في العادات الأخلاقية الذَّرية : أي أخلاق في الحد الأدنى، لأنَّها أفضل من الإقبال على حياة العدمية وكسر الإلزامات وتوهُّم الحرية من غير مسؤولية. لنقل إذن بأن الفعل الأخلاقي لا يسكن في إلزامات القلوب الخالصة، بل يراعي الأمراض الاجتماعية ويعيّن وسائل لعلاجها،[1] وتكون ملائمة للناس ولظروفهم.

تنزيل PDF