لكل محرك ولكل مبنى ولكل وعاء ولكل مساحة سعتها الخاصة بها والتي تقدر بالوحدة المناسبة، فهل للإنسان هو الآخر معيار يقيس به السعة في الحياة، من حيث قوته الروحية والبدنية والعقلية؟  إن تفاوت قدرات الناس أمر ملحوظ في التاريخ الإنساني، عبر عنه الشاعر بقوله:

النَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدٍ وَوَاحِدٍ كَالأَلفِ إِنْ أَمْرٌ عَنَى[1]

ألف واحد في جهدهم وفكرهم وما ينتجون، كواحد يمتلأ همة ويسعى بعقل ونشاط،بل قد يكون تأثيره في مسار الحياة والأحياء أكبر من تأثيرهم جميعا، و (قيل: إنّ أبا بكر كان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل!) [2]

ورعاية سعة الآخرين بأنواعها المتعددة أمر مطلوب دائما؛ ففي صلاة الجماعة يطلب من الإمام أن يقدر سعة المصلين فيصلي بهم على قدر تحملهم البدني والعقلي والروحي، بحيث لا يملون ولا تحضر أجسامهم في المسجد بينما تغيب عقولهم وقلوبهم، وقد سمى النبي من يطيل بالناس فوق طاقتهم، “فتان” إذ يجعل المصلين في فتنة بين الوساوس التي تتجاذبهم والشعور بطول الصلاة والرغبة في الخروج منها. 

ومن حسن الإدارة وأسباب نجاحها أن يقدر المدير سعة موظفيه، من منهم يتحمل العمل تحت ضغط؟ ومن منهم يملك الصبر على تدقيق المعاملات؟، وكلما عرف مدى ما تتسع له طاقتهم  وأحسن توظيفها كلما تحسن سير العمل.

وكذلك على المعلم أن يقدر سعة استيعاب طلابه، فلا يثقل عليهم بالمعلومات في دروسه.

لبذل الوسع ثماره: هؤلاء الذين اعتادوا على بذل ما في وسعهم لا يشعرون بالراحة والسعادة إلا إذا بذلوا كل ما يستطيعون، وبعد ذلك فقط ترتاح ضمائرهم وأبدانهم ويجدون سعادة وبركة يلحظون آثارها في حياتهم الخاصة والعامة وفي أموالهم وعلاقاتهم مع الناس.

وفي فضل هذه الفئة جاء قول ابن عمر رضي الله عنهما:” أفضلُ النَّاسِ رَجُلٌ يُعْطِي جُهْدَهُ”[3] ،فهؤلاء أظهروا صدق قلوبهم في محبة الله تعالى حين قدموا كل ما يستطيعون بكل إخلاص وتفان.

يمكن  أن تراجع تجاربك الشخصية، كم مرة كنت متعبا ولكنك اضطررت للعمل وبذل المزيد من الجهد مع أنك ظننت أنه لم يعد لديك أي مقدار من الطاقة؟ هناك دائما طاقات مدخرة تظهر أوقات الأزمات، وفي سبيل زيادة السعة يمكن أن نتخذ الخطوات التالية:

1-بمعرفة أن “عند الله السعة” وهذه من أجمل الكلمات التي تقال لمن خنقه الضيق وآلمته الحوادث وشعر أن الأبواب  قد  انسدت في وجه، تذكّره العبارة  بأن باب الله تعالى لا يسد، وإذا تذكرنا ما يتداوله الناس من عبارات تدل على الفطرة السليمة والمعرفة بالله تعالى ،وجب علينا أن نتذكر خطاب الله تعالى لنا في القرآن الكريم {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32] {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130] {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115] { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 247] سعة ملك وقدرة وعطاء ورحمة، ومع السعة علم بمدى ما أنت فيه من كرب وهم، وكيف يفتح لك الأبواب المغلقة وييسر لك أمورك من حيث تحتسب ومن حيث لا تحتسب.

2-بالتحفيز: والتحفيز يدفع النفوس للمعالي وبذل المزيد من الجهود ،وفي السنة الكثير من النصوص التي تدل على فضل من اجتهدوا لكي تتسع طاقاتهم، منها ما يحكيه  النبي عن قوم بذلوا كل ما في وسعهم أثناء سفرهم، لكن واحدا منهم  استخدم الرصيد الاحتياطي -كما يقال – فقام يثني على ربه ويتلو كتاب الله، فكانت مكافأته عند ربه أن جعله بين من يحبهم سبحانه و تعالى، وإذا أحب الله عز وجل عبدا أحبه أهل السماء ووضع له القبول في الأرض ،قال : “ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ” وذكر منهم: وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي[4]

3-بالذكر: فالذكر يوسع من مدارك الإنسان ومن طاقته كذلك،  كانت السيدة فاطمة رضي الله عنها تقوم بأعمال البيت من جلب للماء وطحن للحبوب وتنظيف للبيت وإشعال النار والمحافظة عليها متقدة لإنضاج الطعام، وأصابها من ذلك ضر كما قال علي رضي الله عنه ،هذا الضر كأنه استنفد طاقتها فاحتاجت إلى من يساعدها، فاقترح عليها عليّ رضي الله عنه ،أن تطلب من النبي خادما يعينها، فقَالَ لها : «أَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْ خَادِمٍ؟ تُسَبِّحِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، حِينَ تَأْخُذِينَ مَضْجَعَكِ»[5]، هذه الأذكار توسع من  طاقتها بحيث تقوم بهذه الأعمال الشاقة دون مساعدة الخادم.

4-بالتدريب والانتفاع من التجارب فالإنسان دائما يتحرك نحو السعة، السعة في العلم والمال والقوة وقد قطع أشواطا كبيرة في هذا السبيل، ودوّن بعض هذه التجارب التي يمكن التعلم منها والبناء عليها، ولعل الطاقات الإنسانية يمكن أن تتسع إذا درب الإنسان نفسه على العمل وهو مرهق ولو لمدد صغيرة، وبالصبر والتدرب  تزداد السعة.

5-لا تستهن بسعتك ولا بما يمكن أن تقدمه: قبل أن يدخل النبي المدينة، دخلها الإسلام مع  مصعب بن عمير رضي الله عنه، وظل يعمل بتوفيق الله تعالى  حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وله معرفة بالإسلام ، وهو شخص واحد لكنه يبذل ما في وسعه والتوفيق من الله تعالى، لو أنه قال: وماذا يمكن أن يصنع شخص في هذا المحيط الهائل من الجهل المتراكم والموروث؟ لما تحرك خطوة ولما صنع شيئا، والله تعالى يعين من استعان به.

6-ابغنا خامسا: المرأ قليل بنفسه كثير بإخوانه، هذه الحقيقة تؤكدها وقائع التاريخ، عندما حوصر المسلمون في شعب أبي طالب وضيقت قريش عليهم في بيعهم وشرائهم وسائر تعاملاتهم كان هشام بن عمرو بن ربيعة  يتطلع إلى فك الحصار عن المسلمين الموجودين في شعب أبي طالب  فيمدهم بالطعام والثياب،ولكن الحصار طال فأراد أن يؤلف رأيا عاما يعينه على إيقاف هذا الحصار، فذهب إلى زهير بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم يخاطبه بما يحرك الشهامة، فقال زهير: وما أصنع وأنا رجل واحد؟ قال له هشام: قد وجدت ثانيا، أنا معك، قال زهير: ابغنا ثالثا، وما زالوا كذلك حتى وصلوا إلى خمسة، اتسعت طاقتهم لتتفوق على طاقة من صنعوا هذا الحصار الظالم فأنهوه،فــــــ”لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا”[6]

7-لا تستهن بسعة من أمامك: من علامات عدم التوفيق ألا يقدر الإنسان قوة من أمامه وأن يغتر بنفسه، والنظر في ملكوت السموات والأرض يرينا كيف تمتلك أضعف المخلوقات ما تتمكن به من حماية نفسها من خطر أكبر منها بمراحل.

8-قد يكون في الضعيف ما ليس في القوي: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:” هَلْ تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ”[7].أي بسببهم أو ببركة دعائهم،  ووضع له الإمام أبي داود في سننه عنوانا هو:” باب في الانتصار برذل الخيل والضعفة”، ويمكن أن نفهم من هذا العنوان أن الإنسان الضعيف دابته ضعيف مثله، وحالة الضعف هذه – إذا قوي القلب وصدق في اللجوء إلى الله تعالى – تنفع أكثر من حالة القوة التي يغتر بها صاحبها فيصاب بأسوء الهزائم.

9-تتسع البيوت بتلاوة سورة البقرة وتتسع بالحب والألفة وتتسع باتساع الصدور.

10-اتساع القلوب بعض الناس تضيق صدورهم بالآراء المخالفة دون أن يبحثوا في صوابها أو قربها من الصواب، ودون أن يراجعوا أنفسهم هل الحق معهم أو مع غيرهم، وقد ضرب علماؤنا المثل في سعة الصدر فحين سمى”  إِسْحَاق بْن بهلول كتابه “كتاب الاختلاف”، قال له أَحْمَد: سمه” كتاب السعة[8].

11-“السماء تتسع لكل النجوم”: ساحة الحياة والعمل تتسع للكثير من الناجحين، لكن عمى البصيرة يحول التنافس إلى تقاتل يحرم المتنافسين من الطمأنينة والشعور بالإنسانية.

سعة الدنيا وسعة الآخرة: إننا نبحث عن السعة في الدنيا في المال والجاه والولد وسائر ما يتمناه الإنسان، ولكن حياة أخرى تنتظرنا تبدأ من القبر وتنهي حيث أراد الله تعالى بعباده الصالحين في دار الكرامة، وحيث يعاقب الله تعالى عباده المجرمين في دار الإهانة، كيف تتسع القبور؟و المساحة التي يحتلها جثمان الميت مساحة محدودة جدا، لكنها تتسع لمئات الأضعاف حين يفسح الله سبحانه وتعالى القبر مد البصر.

لعل الذي يوسع الله تعالى عليه في قبره  كان يوسع على الناس بماله أو يعطيهم مساحة في قلبه وعقله  فجزاه الله تعالى بأفضل مما كان يعمل.