مقاصد الأسرة في القرآن: اهتم القرآن الكريم بالأسرة وعدها آية من آيات الله التي يمتن بها على عباده بها؛ فقال سبحانه { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } (الروم:21)، وقد فصل أحكامها تفصيلا على نحو لا نجده في أي تنظيم أو مؤسسة أخرى، ثم ربط تلك الأحكام بالعقيدة لكنه يقف عند بيان الأحكام وإنما أفاض الحديث عن مقاصدها وغاياتها.
وكما هو معلوم لم يرد مصطلح الأسرة في القرآن الكريم لكنه استعاض عنه بمصطلحات “الآل” و”الأهل” التي تدل على جماعة الرجل وعشيرته، ومنها يفهم أن الأسرة تتأسس من خلال الزواج الذي يتم بين رجل وامرأة ويثمر أبناء وذرية[1].
ومقاصد الأسرة هي الأهداف والغايات التي جاء بها القرآن الكريم لتؤطر العلاقة الأسرية، وقد تعددت المصطلحات التي استخدمها الأصوليون للتعبير عنها فمنهم من عبَّر عنها بـ”حفظ النسل”، ومنهم من عبر عنها بـ “بحفظ النسب”، وبعضهم استعمل عبارات أخرى، مثل: “حفظ الأبضاع” أو “الفروج” أو”حفظ الأعراض”، وهي تشير من جانب إلى المرونة التي تمتع بها العلماء في التعامل معها، ومن جانب آحر أن الاصطلاحات يفضي بعضها إلى بعض، “فالبضع في اللغة هو الفرج، وهو محل الحرث، والنسل المطلوب شرعاً هو النسل المتولد من طريق شرعي صحيح يعرف به النسب، فلوجود هذه الأمور وتلازمها تساهل العلماء في إطلاق بعضها على بعض”[2].
وكذلك اختلفت آراء العلماء -لاسيما المحدثون- فيما يعتبر من هذه المعاني مقصداً ضرورياً لحفظ الأسرة وما يعتبر منها في رتبة دون الضروري، فمنهم من اعتبر “حفظ النسل” مقصدا ضروريا، واعتبر حفظ النسب والعرض مقصدان حاجيان ومن وسائل تحقيق مقصد حفظ النسل، كما ذهب ابن عاشور والريسوني والزحيلي، ومنهم من اعتبر المقصد الضروري في هذا المجال شاملاً لهذه المعاني الثلاثة (حفظ النسل والنسب والعرض) كما افترض نور الدين الخادمي.
فئات مقاصد الأسرة في القرآن
أثمر الاختلاف في التصنيف تنوعا كبيرا في المقاصد التي وضعها العلماء، إذ أحصى الأستاذ محمد شيخ مقاصد الأسرة لدى العلماء فوجدها عشرون مقصدا، وبعضها يتعلق بالمقاصد الكلية القرآنية وبعضها الآخر يتعلق بمقاصد التشريع، ويمكن دمج هذه المقاصد المتشابهة ضمن فئات على النحو الآتي.
أولا: حفظ النوع البشري
وهو المقصد الأول من مقاصد الشريعة على إطلاقها، ويتضمن هذا المقصد ثلاثة أنواع من الحفظ:
- أ-حفظ الوجود البيولوجي والاستمراري للإنسان بحفظ النوع وحفظ النسل.
- ب-حفظ الانتماء البيولوجي بمعرفة الفرع انتسابه لأصل بحفظ النسب.
- ج-حفظ الوجود القِيمي والأخلاقي من خلال “التزكية”؛ وذلك لكون الإنسان يتكون من وجود مادي ووجود معنوي “قيمي”[3].
ولكل منها تجلياته في القرآن الكريم، ففي النوع الأول “حفظ النوع والنسل” يقرر القرآن أن الزواج هو الآلية الوحيدة لحفظ النوع { يا أيّها الناسُ اتّقُوا ربَّكُم الذي خلقَكُم من نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ منها زوجَها وبثّ منهما رجالاً كثيرا ونساءً } (النساء:1) ولأجل ذلك لم يحبذ الإسلام الرهبنة لما تنطوي عليه من ظلم للنفس ومن حرمان من نعمة النسل، وحرم قتل الأجنة واعتبره تضييعا لمقصد استمرارية النسل وحفظ النوع الإنساني.
ومن تجليات النوع الثاني “حفظ الأنساب” تنظيم الأنساب وتجريم الاعتداء عليها -بأي شكل، ومن أجله شرعت أحكام كثيرة وأحكمت توجيهات وإرشادات منها ما يتعلق بتجريم الزنا ومنع الزواج من المحارم، وتحريم التبني وضبط أحكام الرضاعة وأحكام العدة، والنهي عن كتم ما في الأرحام، وإثبات النسب وجحده، وما ذلك إلا للحفاظ على الأنساب من الاختلاط والتداخل.
وأما النوع الثالث المتعلق بالوجود القيمي والأخلاقي المعبر عنه بالتزكية أو التربية فهو مما ينفرد به الإنسان، فالحيوان يحيا من دون أخلاقيات تقوم سلوكه وتضبطه أما الإنسان فلا يستطيع ذلك، وما من مؤسسة تستطيع ذلك إلا الأسرة التي تلعب الدور الأكبر في ذلك، ولذلك جاء الدين وشرع أحكاما كثيرة مثل أحكام: النفقة والحضانة والتعليم والرعاية الصحية وما هو في حكمها من كل ما يتعلق بتربية الأطفال ورعايتهم [4].
ثانيا: الإحصان
والإحصان يعني في اللغة المنع من أحصن إحصانا: تزوج، والحصن: الموضع الحريز الذي لا يوصل إلى ما فيه والمكان الذي لا يقدر عليه؛ لارتفاعه فهو “حَصِينٌ”، أي منيع.
وقد ورد الإحصان في القرآن بمعان عدة معظمها مرتبط بالنساء :
- أولها الزواج كما في قوله تعالى {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (النساء:24)،
- وثانيها العفة كما في قوله سبحانه {والذين يرمون المحصنات} (النور:23)،
- وثالثها الحرية كما في قوله تعالى {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (النساء:24)،
وهي معان يفضي بعضها إلى بعض؛ فالإحصان يعني العفة، والزواج والحرية من وسائلها ومظانها فالعفة تتولد عن الزواج، والحرية كانت سببا لامتناع الحرائر قديمًا عن الرذيلة ولذا وصفن بأنهن محصنات غير مسافحات.
وفي الشريعة أحكام كثيرة جاءت لتحقق “مقصد الإحصان”، منها: الحض على الزواج، وإباحة التعدد بشروطه، واجتناب العلاقات خارج الزواج من زنا وشذوذ، وسد طرق الإغراء بالعفة والحجاب ومنع الخلوة وغيرها، وأما بعد تحققه فعليا بالزواج، فقد أوجبت الشريعة منع القذف والإساءة إلى العرض وإقامة حد القذف على القاذف {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} (النور:23) [5].
ثالثا: السكن
السكن وهو أحد المقاصد الأساسية التي أشار إليها القرآن في قوله {وهو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها} (الأعراف: 189)، والسكن مضاد التحرك، ويطلق في الاستخدام القرآني على معنيين، السكن المادي ومنه قوله تعالى {والله جعل لكم من بيوتكم سكنا} (النحل: 80)، والسكن المعنوي كما في قوله {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} (التوبة: 103).
ولأجل تحقيق مقصد السكن خلق الله الزوجين من نفس واحدة لأن ذلك أدعى للتآلف وأبعد عن التنافر، ولأجله أيضا شرع الزواج على التأبيد لا التأقيت، ومن ثم اعتبر الإسلام أن أي صورة من صور الزواج المحددة سلفا بإطار زمني باطلة ولا تصح شرعا كنكاح المتعة وغيره [6]، ولأجله أيضا شرعت أحكام وآداب المعاشرة بالمعروف بين الزوجين ووصفها الله بالخيرية إذ يقول سبحانه {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراَ} (النساء:19) وهو ما يعني أن ما عدا المعاملة بالمعروف ليس سوى الشر أو الإثم.
رابعا: التراحم
تنشأ الأسر وتنمو المجتمعات على علاقات الأرحام، فالرحم هو المحدد البيولوجي الذي تتأسس عليه الأسرة، أما الرحمة فهي المحدد القيمي الذي تتأسس عليه الأسرة أخلاقيا ومعنويا وهي الضمانة لاستمرار أدائها مهامها الأسرية والاجتماعية، والرحم في الشريعة ليس عضوا بيولوجيا وإنما هو جملة العلاقات والتشريعات التي تنشأ عن الزواج مثل علاقات الأبوة والبنوة والمصاهرة وأحكام الرضاع والمواريث وغيرها.
والتراحم مقصد قرآني أشار إليه القرآن في مواضع عدة من مثل قوله تعالى {ووهبنا له أهله ومثلهم معنا رحمة منا}، وقوله {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم: 21)، وهو يتخلل مجمل العلاقات الأسرية ويتجلى من خلالها فهنالك تراحم بين الأزواج بعضهم البعض، وتراحم بين الآباء والأبناء كما هو الحال بين نوح وابنه، وتراحم بين الأخوة كما هو الحال بين موسى وهارون، وتعدد مستويات التراحم يؤكد أنه الحافظ للاجتماع الأسري وأساس التراحم الاجتماعي [7].
خامسا: التماسك الاجتماعي
وهو مقصد يفترض الدكتور عبد المجيد النجار أنه أحد المقاصد الرئيسة من وراء إنشاء الأسرة، ويدلل على ذلك بأن الشرع اعتبر الأسرة شأنا اجتماعيا وليس شأنا شخصيا بين الزوجين، وأوكل شطرا من شئونها إلى المجتمع ولذلك ورد الخطاب القرآني بشأنها في صيغة الجمع من مثل قوله تعالى {وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} (النور :32) وقوله { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } (النساء:35)، وهو ما يدل على أن الأسرة شأن اجتماعي.
والناظر في أحكام الأسرة ابتداء من الخطبة إلى الطلاق يجد أن الناظم لها هو العمل على تقوية العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع والعمل على نزع أسباب البغض والتنافر، ولهذا ورد النهي النبوي عن زواج الأقارب ورغب في الزواج ممن ليسوا في دائرة القربى، وكذلك منح أهل الزوجين صلاحيات الإشراف على العقد من خلال الولاية، وإذا ما شابت العوارض الحياة الأسرية صاروا حكمين في النزاع والشقاق، وما ذلك إلا المقصد الاجتماعي للأسرة[8].
الخلاصة، أن القرآن الكريم أفاض في الحديث عن المقاصد الأسرية ولم يقصر حديثه على التشريعات التي تنظم عمل الأسرة وتضبط علاقات أفرادها.