قال تعالى : { وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ } (هود: 84).

خطيب الأنبياء، النبي العربي الكريم، شعيب عليه السلام استغرب فساد قومه فقال لهم {إني أراكم بخير} تعقيباً على ما كان سائداً بينهم من أمراض اقتصادية بلغت من العمق والقبح والسوء، أن يرسل الله رسولاً إليهم لهذا الأمر، ينير لهم ما أظلم وأشكل عليهم. لكن حدث ما حدث، إذ لم يختلف قوم مدين أو أصحاب الأيكة عن الأقوام البائدة من عرب الجزيرة، قوم عاد وثمود، فدخلوا معهم قائمة البائدين.

ما أتى رسول إلى قومه إلا ليعالج مرضاً فكرياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غيرها من أمراض. كانت مهمة الرسول تتركز في معالجة المرض، باعتبار أن عواقب انتشاره واستفحاله غير حميدة، لا في دنيا الناس ولا في آخرتهم.. فكانت مهمة النبي الكريم شعيب عليه السلام وقد أعطاه الله بلاغة وفصاحة وحجة، أن ينشر وعياً مجتمعياً يُخرج شعب مدين مما هم فيه من رداءة أخلاق تجارية، وسوء إدارة اقتصادية، ويواجه في الوقت ذاته منظومة فاسدة من تجار ورجال أعمال، ومشتغلين في قطاع اقتصادي كبير، ستكون بعد حين من الدهر لا يطول، ثغرة ينفذ منها عذاب من الله غير مسبوق.

منظومة فساد

اشتهرت مدين بين الأمم السابقة بفساد اقتصادي معروف مكشوف ذكره القرآن الكريم، إضافة إلى ما كانت عليه من فساد في الفكر والعقيدة، وكان أساساً في ظهور شبكات ومنظومات اقتصادية فاسدة بعد ذلك، التي لم تكن تدخر جهداً في كسب المال بكل الطرق، لاسيما تلك غير المتوافقة، لا مع شرع إلهي ولا عُرف إنساني ولا قانون تجاري.

غاية تلك المنظومات الفاسدة هي الربح السريع الوفير، والتحكم في حركة المال والتجارة، ولو كان على حساب حقوق الآخرين. الغش التجاري كان واقعاً متغلغلاً في النظام الاقتصادي في مدين. التاجر المدْيَني – نسبة إلى مدين – لم يكن يتردد في بيعك بضاعة أغلى من ثمنها المستحق، ولم يكن يتردد كذلك في أن يشتري منك بضاعة بثمن أقل من ثمنها بكثير. أي أن التاجر المديني كان يكسب في البيع والشراء ! إضافة إلى فسادهم في تعاملات أخرى متعلقة بالقوافل التجارية العابرة لبلدهم، والضرائب الباهظة التي كانت تُفرض عليهم دون وجه حق، بل أحياناً كثيرة كان يتم قطع طرق تلك القوافل ونهبها والاستيلاء عليها بقوة الساعد والسلاح، وهدفهم – كما أسلفنا – جمع مال وفير سريع، وإن تعددت وتنوعت الوسائل !

التعامل مع الفاسدين

منظومة الفساد التي قرر النبي شعيب مواجهتها برموزها وشخوصها، قدم لهم بادئ ذي بدء توضيحات وطلبات عدة، منها:

{أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين} (الشعراء: 181)

{ولا تبخسوا الناس أشياءهم} (الأعراف: 85)

{ولا تعثوا في الأرض مفسدين} (هود:85 ).

نهاهم عن الغش في البيع والشراء، أو الكيل المحرم وهو التطفيف في الميزان. ودعاهم إلى ترك تلك العادة كما يقول الرازي في تفسيره: ” {ولا تنقصُوا المكيال والميزان} والنقصُ فيه كان على وجهين: أحدهما أن يكون الإيفاءُ من قبلهم، فينقصُون من قَدْرِه. والآخر أن يكون لهم الاستيفاءُ فيأْخذون أزْيد من الواجب، وذلك يوجبُ نقصان حَق الغيرِ، وفي القسمين حصل النقصان في حق الغيرِ “.

ثم نهاهم عن بخس الناس أشياءهم، وهذا يشمل أي حق أو ملكية للآخرين يتم التصرف فيها دون إذن مالكها أو الاستيلاء عليها دون وجه حق. ثم طالبهم أخيراً ألا يفسدوا في البلاد عبر تشجيع الناس على الفساد، أو ترهيب من لا يستجيب لهم، وأن يتركوا عادة قطع الطرق ونهب القوافل وترويعها.

لكن الإشكالية الكبيرة أن الفساد تغلغل في البلاد، حتى صارت منظومة متكاملة لها وسائلها وأدواتها وآلياتها ورموزها، بل بنفوذها صارت تؤثر على توجهات وقرارات الحكومة حينذاك. وبلغت المنظومة حداً لم يجرؤ أحد أن يقف في وجهها، أو التصادم معها، حتى جاء خطيب الأنبياء ويقوم بالمهمة الصعبة، حيث كان ظهوره مفاجأة للمنظومة. ووجه المفاجأة بدا في تلكم الجرأة التي كان عليها شعيب وبضع أشخاص على دينه وفكره. يكشفون أعمال وسوءات تلك المنظومة الأخطبوطية واسعة النفوذ والانتشار والتأثير، والمتغلغلة في عروق المجتمع وشرايينه!

الفساد وهو ينتفض

رغم علمهم بوجاهة شعيب، واحترامهم لعشيرته التي لم تكن على دينه، لم يمنعهم ذلك من البدء في تهديد متدرج له ومن معه، وضرورة التوقف عن دعوته وألا يقف في وجههم، أو إن صح التعبير، ليس من الحكمة أن يقف شعيب في وجه منظومة – الفساد – في البلاد، لأنها أقوى منه بكثير، أو هكذا تعتقد أي منظومة فاسدة في كل زمان ومكان. فلا هي تريد التوقف عن إفسادها في الأرض، ولا تريد في الوقت نفسه أحداً يتحدث عنها بسوء، أو يحاول إشغالها والتصدي لها !

شعيب عليه السلام استغرب من انغماس كثيرين في هذا الفساد الاقتصادي الذي لم يكن له ما يبرره، فكان يقول لهم {إني أراكم بخير} إذ أن وضع البلاد الاقتصادي مريح، وقد فتح الله عليكم من بركاته ورزقه، فلماذا هذا الفساد أو التطفيف والغش في تعاملاتكم وأكل أموال الناس بالباطل؟ ولماذا أصلاً تظهر منظومات فاسدة عندكم رغم أن الأوضاع لا تستدعي اللجوء لأساليب وطرق الغش والاحتيال والنصب وبقية مصطلحات الفساد؟ هكذا كان لسان حال النبي الكريم وهو في مواجهاته المتنوعة معهم.

إنه لولا خشيتي – أو هكذا قال شعيب – أن يُنزّل الله عذابه عليكم ويسلبكم ما أنتم عليه من الاستقرار وسعة الرزق وبحبوحة العيش، ما دعوتكم ونهيتكم عن هذا الذي أنتم عليه. لكن هل لانت قلوبهم وخشعت؟ بالطبع لا، بل ازدادت المنظومة فساداً وقسوة وتأثيراً على البلاد كلها، حتى لم تبق حجة تمنع نزول العذاب، فكان يوم الظلة، حيث احتباس الهواء وارتفاع الحراة، ثم غيمة عظيمة تأتي فيسرع إليها الفاسدون قبل غيرهم، فلعل ظلها يخفف عنهم بعض ما هم فيه وعليه، لتمطر ناراً أحرقتهم وأبادتهم جميعاً {كأن لم يغْـنوا فيها} (هود: 95).

فكم منظومة فاسدة في بلدان المسلمين قبل غيرها، تعتبر وتدّكر من هذه الأحداث والقصص؟

للأسف، لا أحد يعتبر ويتعظ !