الكسب باليد أو العمل في الإسلم له حكم وضوابط فلا يحل للمسلم أن يكسل عن طلب رزقه، باسم التفرغ للعبادة، أو التوكل على الله، فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.
كما لا يحل له أن يعتمد على صدقة يمنحها، وهو يملك من أسباب القوة ما يسعى به على نفسه، ويغني به أهله ومن يعول. وفي ذلك يقول نبي الإسلام ﷺ: “لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة (أي قوة) سوي.
ومن أشد ما قاومه النبي عليه الصلاة والسلام، وحرمه على المسلم، أن يلجأ إلى سؤال الناس، فيريق ماء وجهه، ويخدش مروءته وكرامته من غير ضرورة تلجئه إلى السؤال. قال عليه السلام: “الذي يسأل من غير حاجة كمثل الذي يلتقط الجمر”. وقال: “من سأل الناس ليثري به مال كان خموشا في وجهه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقلل، ومن شاء فليكثر”. والرضف هو: الحجارة المحماة.
وقال: “لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليست في وجهه مزعة لحم”. بمثل هذه القوارع الشديدة صان النبي ﷺ للمسلم كرامته، وعوده التعفف، والاعتماد على النفس، والبعد عن تكفف الناس.
وينفي النبي ﷺ فكرة احتقار بعض الناس لبعض المهن والأعمال، ويعلم أصحابه أن الكرامة كل الكرامة في العمل أي عمل، وأن الهوان والضعة في الاعتماد على معونة الناس يقول: “لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها. فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه”.
فللمسلم أن يكتسب عن طريق الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو في أي حرفة من الحرف أو وظيفة من الوظائف، ما دامت لا تقوم على حرام، أو تعين على حرام، أو تقترن بحرام.
وللمسلم أن يكسب رزقه عن طريق الوظيفة، سواء أكان تابعا للحكومة أم لهيئة أم لشخص، ما دام قادرا على تحمل تبعات عمله، وأداء واجباته. ولا يجوز لمسلم أن يرشح نفسه لعمل ليس أهلا له، وخاصة إذا كان من مناصب الحكم، أو القضاء.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “ويل للأمراء. ويل للعرفاء (الرؤساء) ويل للأمناء (الحفظة على الأموال) ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا، يدلون بين السماء والأرض، وأنهم لم يلوا عملا.
وعن أبي ذر: قلت: يا رسول الله. ألا تستعملني؟ (أي في منصب) قال فضرب بيده على منكبي، ثم قال: “يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.
وقال عليه السلام: “القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار”.
والأولى بالمسلم ألا يحرص على تلك المناصب الكبيرة، ويسعى وراءها ولو كان لها كفءا فإن من اتخذ المنصب ربا اتخذه المنصب عبدا، ومن وجه كل همه إلى مظاهر الأرض حرم توفيق السماء.
وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله ﷺ: “يا عبد الرحمن. لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها”.
وعن أنس أنه عليه السلام قال: “من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده”.
وهذا ما لم يعلم من نفسه أنه لا يسد الفراغ غيره، وإذا لم يقدم نفسه تعطلت المصالح، واضطرب حبل الأمور. وقد قص علينا القرآن قصة يوسف الصديق وفيها أنه قال للملك: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) سورة يوسف:55.
وما قلناه من إباحة الاشتغال بالوظيفة إنما مقيد بألا يكون في وظيفته ضرر للمسلمين، فلا يحل لمسلم أن يعمل ضابطا أو جنديا في جيش يحارب المسلمين، ولا يحل له أن يعمل في مؤسسة أو مصنع ينتج أسلحة لحرب المسلمين، ولا يجوز له أن يشتغل موظفا في هيئة تناوئ الإسلام وتحارب أهله.
وكذلك من اشتغل بوظيفة من شأنها الإعانة على ظلم أو حرام فهي حرام كمن يشتغل في عمل ربوي أو في محل للخمر، أو مرقص، أو في ملهى أو نحو ذلك. ولا يعفى هؤلاء جميعا من الإثم أنهم لا يباشرون الحرام ولا يقترفونه، فقد قدمنا أن من مبادئ الإسلام أن الإعانة على الإثم إثم، ومن أجل ذلك لعن النبي ﷺ كاتب الربا وشاهديه كما لعن آكله، ولعن عصر الخمر وساقيها كما لعن شاربها.
وكل هذا ما لم تكن هناك ضرورة قاهرة تلجئ المسلم إلى طلب قوته من مثل هذه الأعمال، فإن وجدت فإنها تقدر بقدرها مع كراهيته للعمل، ودوام بحثه عن غيره حتى ييسر الله له كسبا حلالا بعيدا عن أوزار الحرام.
والمسلم ينأى بنفسه دائما عن مواطن الشبهات التي يرق فيها الدين ويضعف فيها اليقين، مهما كان فيها من كسب ثمين، ومال وفير.
قال عليه السلام: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك”.
وقال: “لا يبلغ عبد درجة المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس”.
يوسف عبد الله القرضاوي