الإنصاف من الكلمات التي ينشرح لها القلب وتطمئن إليها النفس، وذلك لما تبعثه في مهج سامعيها من سكينة وثقة، بأن حقوقهم مرعية بقوة المبدأ ومصونة بروح العدل، وأنهم لم يغمطوا حقا ولن ينقصوا نصيبا.

 

يتساوى في الموقف من هذه الكلمة المذنب والبريء، فالمذنب يشعر معها أنه لن يعاقب بأكثر مما اقترفت يداه، والبريء تطمئن نفسه إلى أنه لن يتهم بباطل ولن يضيع حقه.

 

وإذا رجعنا إلى المعنى اللغوي لهذه الكلمة سنجده يدور حول إعطاء الحق وأخذ المستحق كاملين، يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجم العين، وهو أول معجم عربي:” اسْمُ الإِنصافِ، وتفسيرُه:أن تَعطِيَه من نفسِكَ النِّصْف، أي تُعطي من نَفْسِك ما يَسْتَحِقُّ من الحَقِّ كما تأخُذُه”

 

وتتداخل دلالة كلمة الإنصاف مع مفردات أخرى مثل العدل الذي يشملها وغيرها، وقد أكد القرآن على فضل العدل ووجوبه في أكثر من آية، بل وأمر به، فقال”إن الله يأمر بالعدل”، وقال”وإذا قلتم فاعدلوا”.

 

وفي العصر الحاضر انحرفت دلالة هذه الكلمة ـ في المجال السياسي خصوصا ـ انحرافا جعلها بمعنى المحاصصة، وأصبح الكاتب المنصف والموضوعي هو ذلك الذي يوزع العتاب والتبرئة بين المتنازعين بحصص متساوية، حتى ولو كان أحدهما يقترف جريمة لا غبار عليها، مما أدى في بعض الحالات إلى جعل الجلاد وضحيته بمنزلة واحدة.

 

وفي نظري أن هذا الخلل جاء من تطبيق نتائج العلوم البحتة على القضايا الإنسانية اجتماعية كانت أو سياسية، وخصوصا نظرية النسبية، وهو تطبيق نجمت عنه اختلالات كبيرة في الدراسات الاجتماعية والفلسفية والأدبية، بدأ بعض العلماء ينتبه لها.

 

إنه ليس من اللازم أن نلقي على البريء جزءا من المسؤولية بدعوى إنصاف المجرم، كأن نقول مثلا إن الضحية كان في المكان الخطإ حين وقعت عليه الجريمة، إن هذا القول إذا كان تفسيرا للواقعة فهو مسلم مقبول، لكنه لا يمكن أن يُقبلَ تبريرا لها، فهو ظلم صُراح، فالأصل أن للإنسان الحرية الكاملة في أن يسير في وقت إلى أي مكان.

 

وقد ازداد هذا النمط من الانحياز للظلم المقنّع بشعار الإنصاف والموضوعية عقب أحداث الربيع العربي، حيث وجدنا من يلوم الشعوب إذا هي خرجت تطالب بحقوقها في الحرية والأمن والعيش الكريم، ووجدنا من يحملها مسؤولية نهضتها ضد الظلمة والمستبدين، مع أن الإنصاف يقتضي أن يصب كل اللوم والمسؤولية على المستبد الذي يضحي بشعبه من أجل كرسي جلس عليه أصلا كي يخدم هذا الشعب.

 

ليس من اللازم أن يكون لكل واحد من المتنازعين قسط من الحق؛ فالحق قد يكون كله في طرف وليس للطرف الآخر منه حبة خردل، وهنا يكون من الظلم البين اجتراح حق لا أصل له، وتطفيف حقيقة صارخة، بدعوى الإنصاف والنسبية، إن ذلك لظلم عظيم.

 

ومن الأسباب الكامنة أيضا وراء هذه الظاهرة، هي عقدة الإيديولوجيا الإسلامية، فترى كثيرا منهم يسارعون إلى تبرير آراء ومواقف العلمانيين والشيوعيين وغيرهم بدعوى حرية الفكر ووسطية النظر، فهم معهم أصحاب روية وأناة وعدل، ولكن إذا كتب أحد الإسلاميين رأيا خرج به على مألوف أفكارهم وعاداتهم سمعت تهم التعصب والتقليد والتطرف تحاصره من كل جهة وتتهمه بتشويه صورة الإسلام، مع أن الأولين ـ في الأغلب ـ أكثر تشويها للإسلام فكرا وممارسة.

 

ويبدو أن أول شيء يتأثر بالتدافع السياسي هو اللغة، حيث يحاول كل طرف تعبئتها بما يناسبه، ولذلك انحرف مفهوم الفتنة في الفقه السياسي الإسلامي عن دلالته الأصلية الفعالة، ليصبح عصا في يد الظلمة وأعوانهم يرفعونها أمام كل مطالب بحق أو داع إلى عدل.

 

وكذلك تحول مفهوم الإنصاف في التحليل السياسي المعاصر إلى المساواة بين المذنب والبريء والجلاد والضحية، بدل أن كان يعني إعطاء الحق وأخذ المستحق كاملين غير منقوصين، بقوة العدل وروح القانون.

 

إن الإنصاف مبدأ في النظر ومنهج في التطبيق، وليس مذهبا يلزم صاحبه بأن يعطي لمن لا يستحق ويطفف حق المُحِق.