هو الإِمام الحافظ، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود الكناني العسقلاني المصري، ثم القاهري الشّافعي الشّهير بابن حجر.ولد في شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة.نشأ يتيمَ الأبوين في غاية من العفة والصيانة، راهق ولم يكن له صبوة، ودخل في الكُتَّاب ولم يتجاوز عامه الخامس، وبدت عليه علامات الذكاء والنَّجابة، وقوة الحفظ، فحفظ في مبدأ الطلب جملة وافرةً من المتون في شتّى الفنون، وكان رحمه الله رُزق في صغره سرعةَ الحفظ بحيث يحفظ كلّ يوم نصفَ حزبٍ، وبلغ من أمره في ذلك أنّه حَفِظَ سورة مريم في يومٍ واحدِ، وأنّه كان في أكثر الأيّام يصحَّح الصّفحة من “الحاوي الصغير” ثمّ يقرأها تأملاً مرّة أخرى، ثم يعرضها في الثَّالثة حفظاً، ولم يكن -رحمه الله تعالى- حفظُه الدَّرسَ على طريقة الأطفال، بل كان حفظه تأملا.
حبَّب الله تعالى إليه فَنَّ الحديث النبوي روايةً ودرايةً، وكان أوّل شيخ له في ذلك القاضي الحافظ جمال الدّين أبي حامد محمّد بن عبد الله بن ظهيرة المكِّي، باحثَ معه في كتاب “عمدة الأحكام” بمكّة عندما جاور بها سنة 785هـ هو ابن ثنتي عشرة سنة ، فأقبل على الحديث بكلَّيته إقبالَ النَّهِم وصمّم العزم على التّحصيل، ووفِّق للهداية إلى سواء السبيل، واجتمع بكبار الحفّاظ في ذلك الوقت، حتى تخرَّج في هذا الفنّ سنداً، ومتناً، وعللاً، واصطلاحاً، وفقهاً، حتّى استحق لقب إمرة المؤمنين في الحديث، بل قالوا: به خُتِموا، فلم يأت أحدٌ بعده بلغ فيه مبلغه. ورحل في هذا السبيل رحلاتٍ كثيرةً إلى أقطار متعدِّدة، فرحل إلى الحرمين ، واليمن ، والشام وغيرها.
شيوخ ابن حجر العسقلاني
للحافظ ابن حَجر شيوخٌ كثيرون جدًّا، جَمعهم في كتابٍ له جليل سَمّاه:”المجمَع المؤسَّس للمعجَم المفهرَس” رتّبهم على حروف المعجم،
جملتهم نحو (450) شيخًا بالسّماع والإجازة الخاصّة دون العامَّة. وقد عَدّهم الحافظ السّخاوي فبلغ خالصُ عِدَّتهم (630) شيخًا دون المكرر فمن أشهرهم:
1 – إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد التنوخي (ت 800هـ): لازمه الحافظ ابن حجر ثلاث سنين، ووصَلَ فيها عليه كثيرًا من مسموعاته الّتي تفرّد بها، وأذن له التّنوخي بالإقراء سنة (796هـ). ومِمّا قرأ عليه الحافظُ أو سمعه منه: “صحيح البخاري” و”سنن الترمذي” و”سنن النّسائي” و”موطّأ الإِمام مالك “رواية يحيى اللّيثي، و”سنن الدّارمي” و”صحيح ابن حبّان”، و” مساوئ الأخلاق” للخرائطي، وغير ذلك.
2 – الإِمام الحافظ أبو الفضل العراقي زين الدّين عبد الرّحيم بن الحسين (ت 806 ص).وقد لازمه عشرةَ أعوام، وانتفع به، وتخرّج على يديه، وهو أوّل من أذن له بالتّدريس في علوم الحديث ، ولقبه بالحافظ.
3 – الحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807 هـ).قرأ عليه قرينًا للعراقي ومنفردًا، وقد قال في هذا: “قرأت عليه الكثير قرينًا للشّيخ، ومما قرأت عليه بانفراد: نحو النّصف من “مجمع الزّوائد” له، ونحو الربع من “زوائد مسند أحمد” و”مسند جابر” من “مسند أحمد” وغير ذلك، وسمعت من لفظه المسلسل.
4- الإِمام عمر بن رسلان البُلْقِيني (ت 805ص): لازمه الحافظ ابن حجر مدّة، وقرأ عليه عدّة أجزاء حديثيّة، وسمع عليه أشياء وحضر دروسه الفقهيّة، وقرأ عليه الكتب من “الرّوضة”، ومن كلامه في حواشيها، و”دلائل النّبوة” للبيهقي، وقرأ عليه المسلسل بالأوليّة، كما قرأ عليه جزءًا من “الحلية” والجزء الثّاني والعشرين من “آمالي الضّبّي” وسمع عليه الكثير من “صحيح البخاري” و”صحيح مسلم“، والكثيرَ من “سنن أبي داود” و”مختصر المزني”.
5 – الإِمام ابن الملقن عمر بن علي بن أحمد (723 – 804ص). قرأ عليه الحافظ ابن حجر قطعةً كبيرةً من شرحه على “المنهاج “.
6 – الإِمام محمّد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمّد ابن جماعة (749 – 819 ص).لازمه الحافظ ابن حجر في غالب العلوم الّتي كان يُقرئها من سنة (790 هـ) إلى أن مات سنة (819 هـ) في “شرح منهاج البيضاوي” وفي “جمع الجوامع” و”شرحه” للشّيخ، وفي “المختصر الأصلي” لابن الحاجب، والنّصف الأوّل من “شرحه” للقاضي عضد الدّين، وفي “المطوّل” للشّيخ سعد الدّين، وغير ذلك.
وقد اجتمع للحافظ ابن حجر “من الشيوخ الّذين يُشار إليهم وُيعوَّل في حلِّ المشكلات عليهم ما لم يجتمع لأحدٍ من أهل عصره؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم كان متبحِّرًا ورأسًا في فنَّه الذي اشتهر به، لا يُلحَق فيه، فالبُلْقيني في سَعة الحفظ وكثرة الاطّلاع، وابن الملقَّن في كثرة التّصانيف، والعرَاقي في معرفة علم الحديث ومتعلّقاته، والهيثمي في حفظ المتون واستحضارها، والمجد الشِّيرازي في حفظ اللُّغة واطِّلاعه عليها، والغُماري في معرفة العربيّة ومتعلّقاتها وكذا المحبّ ابن هشام، كان حسنَ التَّصرُّف فيها لِوُفور ذَكائه، وكان الغُماري فائقًا في حفظها والأبناسي في حُسْن تعليمه وجَوْدة تفهيمه، والعزّ ابن جماعة في تفنّنه في علوم كثيرة،. . . والتّنوخي في معرفته القراءات وعلوّ سنده فيها” .
تلاميذ ابن حجر العسقلاني
أخذ الناس عن الحافظ ابن حجر طبقةً بعد طبقة، وألحق الأبناءَ بالآباء، والأحفادَ بالأجداد، وأكبّ النّاس على التردّد إليه والاستفادة من علمه، حتىأصبحوا لا يُحصون كثرةً وانتشروا في أرجاء الأقطار.وقد سرد الحافظُ السَّخاوي جماعةً ممن أخذوا عنه درايةً وروايةً مرْتبًا
إيَّاهم على حروف المعجم، أوصل بهم إلى (626) تلميذًا، وأشار إلى أنّ هذا العدد قد أوردهم من غير التزامٍ لاستيفاء ما علمه من ذلك، فضلًا عن الجميع الّذي لا يمكن الإحاطةُ به
ومن أشهر تلاميذه:
1 – الحافظ أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري الشّافعي (ت 840هـ):لازمه في حياة شيخهما العراقي، وكتب عنه “اللِّسان”، و”النّكت على الكاشف” و”زوائد البزّار على الستّة وأحمد”، والكثيرَ من تصانفيه وغيرها، وسمع عليه الكثيرَ وقرأ عليه أشياءَ، واستمرّ يستفيد منه حتى مات.
2 – الإِمام محمّد بن عبد الرّحمن السَّخَاوي (ت 902هـ):لازمه بأَخَرة أشدّ ملازمة، حتّى حمل عنه ما لم يُشاركه غيرُه من الموجودين، وأقبل عليه شيخُه ابن حَجر بكليّته، حتى صار يُرسل إليه قاصدَه يعلِّمه بوقت ظهوره من بيته ليقرأ عليه، وحمل عنه أكثرَ تصانيفه حتى قيل: إنّه أمثل جماعته في فنّ الحديث
3 – الإِمام محمَّد بن عبد الواحد ابن الهُمَام الحنفي (ت 861هـ):وصفه الحافظ ابن حجر بالعالم العلاّمة ابن الإِمام العلّامة همام الدِّين السيواسي الأصل، نزيل القاهرة. أذن له برواية جَميع ما تجوز روايته عنه من معقولٍ ومنقول.
4 – عمر بن محمّد بن محمّد المعروف بنجم الدّين ابن فهد المكّي ت 885 هـ.كان الحافظ ابن حجر كثيرَ المحبّة له، جريًا على عادته في الميل للمُكثرين من الحديث النّبوي.
5 – الحافظ قاسم بن قُطْلُوبُغا أبو العدل الحنفي (ت 879 ص).حلّاه شيخه الحافظُ ابن حجر بالشيخ الفاضل المحدِّث الكامل الأوحد.
6 – برهان الدِّين إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885 هـ). قرأ على الحافظ ابن حجر تصانيفَه وغيرها كثيرًا، ولازمه وسَافر معه، ولم ينفكّ عن التّتلمذ له حتى مات الحافظُ رحمه الله.
مصنّفات ابن حجر العسقلاني
وللحافظ ابن حجر رحمه الله من المؤلَّفات في فنون عِلْمٍ مختلفة ما سارت به الركبان، وتبارى في تحصيله الأقران، واشتهرت بجودة التّحرير، وعُرفت بقوة السَّبك، مع كثرة الفوائد، ووفرة العوائد الشّوارد.وقد سَرَدَ الحافظ السّخاوي جملةً كبيرة من مصنفاته بلغ بها (273) مصنّفًا .
وجمع الدّكتور شاكر محمود عبد المنعم أسماءَ كُتبه مع تمييز مطبوعها من مخطوطها، وبيان أماكن وجود المخطوطة منها في كتابه الماتع “ابن حجر العسقلاني مصنّفاته ودراسةٌ في منهجه وموارده في كتابه الإصابة”.وبلَغ عددها عنده (282) كتابًا، وأوصلها الأستاذ عبد الستّار الشّيخ إلى (289) كتابًا.
ومن أشهر كتبه: فتح الباري في شرح صحيح البخاري.- تهذيب التهذيب، وتقريبه.- بلوغ المرام من أدلة الأحكام.- إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة.- تغليق التّعليق.- التمييز في تلخيص تخريج أحاديث شرح الوجيز – الإصابة في تمييز الصحابة.- لسان الميزان.- نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، وشرحها نزهة النظر.
توفي – الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله – بعد حياةٍ حافلة بالعلم ومدارسته، وتأليفه ومذاكرته، مع اجتهاد في العمل، ومداومة على الخيرات، ومسارعةٍ في الصالحات – ليلةَ السبت الثّامن عشر من ذي الحجّة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، إِثْر مرضٍ دام أكثر من شهر، وكان لجنازته مشهد لم يُر في كثرة من حضره لمثله ، تغمّده الله بواسع رحمته، وأجزل مثوبته، وأدخله فسيح جنته، وبحبوحة رحمته، وجزاه عن أمّة الإِسلام خيرَ الجزاء وأوفاه.
المرجع :
كتاب التمييز في تلخيص تخريج أحاديث شرح الوجيز المشهور بـ التلخيص الحبير المؤلف: أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852هـ) المحقق: الدكتور محمد الثاني بن عمر بن موسى الناشر: دار أضواء السلف الطبعة: الأولى، 1428 هـ – 2007 م