اعلم- فهمني الله وإياك- أن: ” الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارث الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم – وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ ; ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله تعالى. وقد ورد عن ابن المُنكدر أنه قال: “العالم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم”. ([1]).
واعلم – علمك الله – أن الفتوى سابقة للفقه، فمعرفة الأحكام الشرعية بدأت بالفتوى، حيث كان الصحابة – رضوان الله عليهم- يسألون الرسول – ﷺ- فيفتيهم، فالنبي – ﷺ أول من قام بالفتوى، كما قال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، بل تولى الله تعالى الإفتاء بذاته العلية، كما قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ } [النساء: 176]، ثم اشتهر عدد من الصحابة بالفتوى، بلغ عددهم مئة ونيفا وثلاثين نفسا، المكثرون منهم سبعة، هم: عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن عَبَّاس، وعبد اللَّه بن عمر([2])، ثم انتشرت الفتوى في التابعين واتسعت في الأمصار، وقام بها تلامذة الصحابة.
ففي مكة تلامذة ابن عباس؛ كمجاهد وعطاء وطاووس، وفي المدينة تلامذة زيد بن ثابت وعبد الله عمر من الفقهاء السبعة، وفي الكوفة: تلامذة علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود؛ كعلقمة والأسود ومسروق وشريح والشعبي والنخعي وابن جبير، وفي البصرة تلامذة أبي موسى الأشعري وأنس بن مالك؛ كالحسن البصري وابن سيرين، وفي الشام تلامذة معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء؛ كأبي إدريس الخولاني، ومحكول وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وفي مصر: تلامذة عبد الله بن عمرو؛ كيزيد بن حبيب. ثم انتشر المفتون في عهد تابعي التابعين، وهو العهد الذي ظهرت فيه المذاهب، ثم من بعدهم من أتباع المذاهب الفقهية.
ومع المذاهب ظهرت كتب الفتوى، ففي المذهب الحنفي: الفتاوى الولوالجية، والفتاوى السراجية، والفتاوى الخانية، والفتاوى البرازية، والفتاوى الهندية. وفي المذهب المالكي: المدونة، وتبصرة الحكام، ونوازل البرزلي، والمعيار المعرب. وفي المذهب الشافعي: الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيثمي، وفتاوى الإمام الرملي. وفي المذهب الحنبلي: غالب مانقل عن الإمام أحمد، ككتب المسائل؛ مثل: مسائل إسحاق الكوسج، ومسائل صالح بن أحمد، ومسائل إسحاق بن هائي، ومسائل أبي داود، ومسائل حرب الكرماني.
ثم مازالت العناية بالفتوى وتنصيف المفتين منذ الزمن الأول إلى يومنا هذا، حتى أضحى للفتوى هيئات ودور خاصة، وتنوعت بين الفتوى الجماعية والفتوى الفردية.
والفتوى جواب عن سؤال، وتبيين للمشكل من الأحكام، والاستفتاء طلب الجواب عن الأمر المشكل، وهي عند الفقهاء: بيان الحكم الشرعي في المسألة عن دليل لمن سأل عنه. والمفتي هو القائم بالفتوى، العالم بالأحكام.
الفرق بين الفتوى والحكم والقضاء:
وتتشابه الفتوى مع القضاء في كونهما إخبار عن الحكم الشرعي في المسألة، لكن في القضاء يكون حكما بين خصمين، وليس بلازم في الفتوى، والفتوى معلمة، والقضاء ملزم، والفتوى تكون بالديانة، والقضاء يكون بالظاهر، ومنها: أن الفتوى شريعة عامة، والقضاء خاص، ومنها: أن الفتيا تكون بالكتابة والفعل والإشارة، والقضاء لا يكون إلا بلفظ منطوق.
المفتي والفقيه والمجتهد
الفقيه من يستنبط الأحكام من الأدلة التفصيلية، والمفتي يدرس الواقع ، وينزل الحكم عليه، والمجتهد من توافرت فيه أهلية النظر والاجتهاد في المسائل لاكتشاف الحكم الشرعي.
حكم الإفتاء
وحكم الفتوى في حق الأمة فرض كفاية، وتكون فرض عين على المفتي إذا لم يوجد غيره، وتكون مستحبة إن تعدد المفتون، ويجب أن يكون في كل بلد مفت أو أكثر للقيام بالواجب الشرعي.
مجالات الفتوى
والفتوى تكون في الأحكام الاعتقادية والأحكام العملية في جميع شؤون الحياة من العبادة إلى السياسة وما بينهما.
ويستلزم في الإفتاء معرفة المفتي بالحكم الشرعي، ومعرفته بالواقعة تفصيلا، ومعرفة إسقاط الحكم الشرعي على الواقعة.
شروط المفتي
وللمفتي شروط متعددة حسب الجهة المنظور إليها، أما من حيث الصفات الشخصية، فتصح الفتيا من كل أحد، ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا، مبصرا كان أو أعمى.
ويشترط فيه أن يكون مسلما غير كافر، عاقلا غير مجنون، بالغا غير صغير، عادلا غير فاسق، وأن يكون عالما؛ مجتهدا كان أو مقلدا، والمجتهد أولى، ولا تصح الفتيا من العامي، وأن يكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح النظر والاستنباط.([3]) وأن يكون فطنا، وله أن يفتي نفسه أو غيره من الأقارب أو غيرهم، وأن تكون له نية حسنة في الإفتاء، وأن يتحلى بالأخلاق الفاضلة.
مستند الفتوى
وعلى المفتي أن يفتي بالكتاب ثم بالسنة ثم بالإجماع ثم بالقياس ثم بالأدلة المختلف فيها من الاستحسان والاستصلاح وقول الصحابي ومراعاة العرف والذرائع والاستصحاب.
ولا يفتي المجتهد إلا بقوله، وللمقلد أن يفتي بآراء غيره من المجتهدين، وعليه الترجيح بين الأقوال، ولا يجوز له التخير بمجرد الاختلاف، ولا يفتي بمجرد الرأي، ولكن يعمل عقله في فهم النصوص ومآخذ العلماء، وقد قال معاذ: ” أجتهد رأيي ولا آلو”.
أحكام المفتي
وهناك أحكام تتعلق بالمفتي، من أهمها:
- أنه يجوز له الرجوع في فتواه، إن ظهر أنه قد أخطأ، وعليه أن يخبر المستفتي بها ، ويوجب عليه العمل بها إن لم يكن قد عمل بالسابقة،وذلك فيما بان فيه الخطأ، ولم يكن محلا للاجتهاد.
- ويضمن المفتي إن ترتب على فتواه الخطأ إتلاف، بشرط أن يكون أهلا للفتوى، فإن لم يكن أهلا للفتوى، فلا ضمان عليه؛ لأن المستفتي قصر في معرفة من يجب عليه أن يسأله.
- ويحرم على المفتي التساهل بالفتوى، كأن يسرع في الفتوى، أو لا يعطيها حقها من النظر والبحث.
- ولا يجوز له الإفتاء في الحال التي تؤثر سلبا على فتواه، كالجوع والعطش وغلبة النوم ومدافعة الأخبثين وغيرها.
- وليس للمفتي أن يأخذ أجرة على فتواه من الناس، لكن يأخذ من بيت مال المسلمين، أو الوقف، والأولى أن يتعفف عن ذلك إن لم يكن محتاجا، فإن كان محتاجا؛ أخذ من غير المستفتين.
- ويجب على المفتي أن يكون عالما بحال من يفتيهم، كأن يكون من أهل بلدهم، أو عارفا بأحوالهم، ولو بالوصف.
- ويجب عليه التثبت من الفتوى إن كان مقلدا، وناقلا عن المذهب، فيتأكد من مصدر فتواه في الكتب المعتمدة.
- وإن تكررت المسألة فيجب عليه أن ينظر فيها، هل هي مطابقة لسابقتها، فيفتي بالسابقة إن تذكر سندها، وإن اختلفت أو لم يتذكر سندها وجب عليه فيها اجتهاد جديد.
- ويحرم عليه الإفتاء بخلاف النص إن كان قطعي الدلالة قطعي الثبوت، وليس هناك ما يصرف النظر عن العمل بالنص، ولا يتعصب لمذهبه، معرضا عن النصوص، فإنه لا اجتهاد في مورد النص.
- وليس له أن يخالف مذهبه إن سئل عن رأي إمام المذهب، وإن سئل عن حكم الله في المسألة، فإن كان مجتهدا؛ أفتى باجتهاده ولو خالف المذهب، وإن كان غير مجتهد؛ أفتى وفق مذهبه.
- وإن كان في المسألة رأيان أو أكثر؛ وجب عليه معرفة الراجح بناء على قواعد المذهب، أو يرجح إن كان أهلا للترجيح.
- وليس للمفتي أن يذكر الخلاف في المسألة ويترك المستفتي يختار لنفسه، فإن حكاية الخلاف ليست بفتوى.
- وليس له أن يقلد فيما يطلب الجزم كأصول الاعتقاد، وله أن يقلد فيما يطلب بالظن؛ كالخلافيات في الأحكام العملية.
- ويجوز للمفتي أن يفتي من لا تجوز له شهادته له أو القضاء، باتفاق، لأن الإفتاء يجري مجرى الرواية ولكن لا يجوز له أن أقاربه؛ لأن هذا طاعن في عدالته.
- ويجب على المفتي أن يتجرد في الفتوى، ويحرم عليه أن يفتي بالتشهي أو التخير ، بل يفتي باجتهاده. ولا يجوز للمفتي أن يخرج النصوص عن ظواهرها لتوافق مذهبه؛ فإن ذلك من الهوى.
- ويحرم على المفتي إذا جاءته مسألة فيها تحيل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها
- ويحرم على المفتي أن يتتبع الحيل المحرمة والمكروهة ، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه فإن تتبع ذلك؛ فسق وحرم استفتاؤه وإن حسن قصده، لكن يجوز الإفتاء بالحيل المشروعة القائمة على الدليل.
- والأولى ألا ينشغل بالمسائل الافتراضية، ولكن له أن يجتهد فيما يظن أنه يقع مما يعرف بـ( فقه التوقع)، وهو بخلاف الفقه الافتراضي.
- ولا ينسب الفتوى لله ورسوله ﷺ، إذا كانت محل اجتهاد، أما ما ينقله من الأحكام القطعية، فلا بأس بنسبتها لله ورسوله.
- لا يجوز للمفتي أن يقتصر في الفتوى على غرض السائل والتوقف إن لم يوافق ما عند السائل، ولا أن يلفق بين المذاهب بقصد تحقيق غرض السائل.
- فإن علم المفتي أن المستفتي يدور على المفتين لينال غرضه ، فلا يجب مساعدته ، ولا إفتاء مثل هذا الصنف من الناس.
([1])المجموع للإمام النووي شرح المهذب للإمام الشيرازي، ج1/72، المطبعة المنيرية.
([2])إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (2/ 18)
([3]) المجموع شرح المهذب 1 / 41.