الإمام النووي هو شيخ الإسلام العالم المُحدث والحافظ والفقيه واللغوي، أحد أبرز علماء الإسلام وفقهاء الشافعية، اشتهر بكتبه وتصانيفه العديدة في الفقه والحديث واللغة والتراجم، وهصاحب أشهر ثلاثة كتب لا يكاد بيت مسلم يخلو منها، وهي: الأربعون النووية، والأذكار، ورياض الصالحين. فكيف نشأ النووي؟ وما هو تاريخه وتراثه العلمي؟

كنيته محيي الدين، وأبو زكريا، ولقب بـ “شيخ الشافعية” و”قطب الأولياء” و”شيخ الإسلام والمسلمين”، و”عمدة الفقهاء والمُحدّثين”، و”صفوة الأولياء والصالحين”. كان لا يضيع وقتًا في ليل أو نهار إلا في الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه كان يشتغل في تكرار أو مطالعة.

مولده نسبه ونشأته

هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الحزامي الشافعي، المشهور باسم “النووي” نسبة إلى نَوَى، وهي قرية من قرى حَوْران في سورية. ولد الإمام النووي (رحمه الله) في محرم عام 631هـ في قرية نَوَى من أبوين صالحين، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ القرآن وقراءة الفقه على بعض أهل العلم هناك. وصادف أن مرَّ بتلك القرية الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى الصبيانَ يُكرِهونه على اللعب، وهو يهربُ منهم ويبكي لإِكراههم، ويقرأ القرآن، فذهب إلى والده ونصحَه أن يفرِّغه لطلب العلم، فاستجاب له.

وفي سنة 649هـ قَدِمَ مع أبيه إلى دمشق لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكنَ المدرسة الرَّواحِيَّة، وهي ملاصقة للمسجد الأموي. وفي عام 651هـ حجَّ مع أبيه، ثم رجع إلى دمشق، وهناك أكبَّ على علمائها ينهل منهم.

أخلاق الإمام النووي وصفاته

أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أن الإمام النووي كان رأسًا في الزهد، وقدوة في الورع، وعديم النظير في مناصحة الحكام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أهمِّ صفاته الزهد والورع، فيُروى أنه سُئلَ: لِمَ لمْ تتزوَّج؟ فقال: “نَسيتُ”؛ وذلك لاشتغاله العظيم بتحصيل العلم ونشره.

وفي حياة الإمام النووي أمثلة كثيرة تدلُّ على ورعٍ شديد، فكان لا يقبل من أحدٍ هديةً ولا عطيَّةً، وكان لا يقبل إلا من والديه وأقاربه، فكانت أُمُّه ترسل إليه القميص ونحوه ليلبسه، وكان أبوه يُرسل إليه ما يأكله، وكان ينام في غرفته التي سكن فيها يوم نزل دمشق في المدرسة الرَّواحية، ولم يكن يبتغي وراء ذلك شيئًا.

وكان الإمام النووي لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، وكان لا يشرب الماء المُبرَّد.

شيوخه وتلامذته

سمع أبا الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر، ومحمد بن أحمد المقدسي، وهو أجلُّ شيوخه، وأبا إسماعيل بن أبي إسحاق إبراهيم بن أبي اليسر، وأبا العباس أحمد بن عبد الدائم، وأبا البقاء خالد النابلسي، وأبا محمد عبد العزيز بن عبد الله محمد بن عبد المحسن الأنصاري، والضياء بن تمام الحيصي، والحافظ أبا الفضل محمد بن محمد البكري، وأبا الفضائل عبد الكريم بن عبد الصمد خطيب دمشق، وأبا محمد عبد الرحمن بن سالم بن يحيى الأنباري، وأبا زكريا يحيى بن الفتح الصيرفي الحراني، وأبا إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فاضل الواسطي، وغيرهم.

كما كان للإمام النووي تلاميذ كثر، قال ابن العطار: “وسمع منه خلق كثير، من العلماء والحفاظ والصدور الرؤساء، وتخرج به خلق كثير من الفقهاء، وسار علمُه وفتاويه في الآفاق، ووقع على دينه وعلمه وزهده وورعه ومعرفته وكرامته الوِفاق”،  وقال الإمام الذهبي: “وحدّث عنه ابن أبي الفتح، والمزي وابن العطار”، كما أخذ عنه المحدث أبو العباس أحمد بن فرح الإشبيلي، كان له ميعاد عليه يوم الثلاثاء والسبت، شرح في أحدهما صحيح البخاري وفي الآخر صحيح مسلم. ومنهم أيضاً: الرشيد إسماعيل بن المعلم الحنفي، وأبو عبد الله محمد بن أبي الفتح الحنبلي، وأبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله المصري ثم الدمشقي، وغيرهم كثير.

مؤلفاته

صنَّف الإمام النووي كتبًا في الحديث والفقه عمَّ النفع بها، وانتشر في أقطار الأرض ذكرها؛ منها:

  • المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج.
  • روضة الطالبين وعمدة المفتين (في الفقه).
  • منهاج الطالبين وعمدة المفتين (في الفقه).
  • رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين (في الحديث).
  • الأذكار المنتخب من كلام سيد الأبرار.
  • التبيان في آداب حملة القرآن.
  • التحرير في ألفاظ التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي (في اللغة).
  • العمدة في تصحيح التنبيه.
  • الإيضاح في المناسك (في الفقه).
  • إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق (في مصطلح الحديث).
  • التقريب والتيسير في معرفة سنن البشير النذير (في مصطلح الحديث).
  • الأربعون النووية (في الحديث).
  • بستان العارفين (في الرقائق).
  • شرح صحيح مسلم (يعد أحد أشهر الكتب التي شرحت الصحيحين).
  • مناقب الشافعي.
  • مختصر أسد الغابة (في التراجم).
  • الفتاوى أو المسائل المنثورة.
  • أدب المفتي والمستفتي
  • مسائل تخميس الغنائم.
  • مختصر التذنيب للرافعي.
  • دقائق الروضة.
  • دقائق المنهاج.
  • تحفة طلاب الفضائل (في التفسير والحديث والفقه واللغة).
  • الترخيص في الإكرام والقيام (في الفقه).
  • مختصر آداب الاستسقاء.
  • رؤوس المسائل.
  • مسألة نية الاغتراف.

هذه مؤلفات أتمها، وهناك عدة مؤلفات لم يتمها منها: المجموع شرح المهذب لأبي إسحاق الشيرازي (في الفقه)، تهذيب الأسماء واللغات (في اللغة والتراجم)، قطعة من شرح الوسيط لأبي حامد الغزالي، قطعة من شرح صحيح البخاري، قطعة يسيرة من شرح سنن أبي داود، منشورة باسم: الإيجاز في شرح سنن أبي داود، قطعة في الإملاء على حديث الأعمال بالنيات. كتاب الأمالي (في الحديث)، الخلاصة في أحاديث الأحكام، مسوّدة من طبقات الفقهاء: وقد بيّضه الحافظ المزي..وغيرها من الكتب.

رياض الصالحين

يعد كتاب رياض الصالحين للنووي واحداً من أشهر كتب الحديث النبوي الشريف. وقد تميّز النووي عن غيره من المُحَدّثين بأنه فقيه الأمة، وقلما اجتمع لعالم تبحُّرٌ في الفقه وإتقانٌ لعلوم الحديث، يقول ابن العطار: “سمع البخاري ومسلماً وسنن أبي داود والترمذي، وسمع النسائي بقراءته، وموطأ مالك، ومسند الشافعي، ومسند أحمد بن حنبل، والدارمي وأبي عوانة الأسفراييني وأبي يعلى الموصلي، وسنن ابن ماجة والدارقطني والبيهقي، وشرح السنة للبغوي، ومعالم التنزيل له في التفسير، وكتاب الأنساب للزبير بن بكار، والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم والليلة لابن السني، وكتاب آداب السامع والراوي للخطيب، وأجزاء كثيرة غير ذلك”، يقول ابن العطار: “نقلت ذلك جميعه من خط الشيخ رحمه الله.

وقد روى النووي أشهر هذه الكتب بالسند العالي إلى الأئمة المؤلفين، وقد شهد له بالعلم في الحديث كثير من العلماء، يقول الذهبي: “وهو (أي النووي) سيد هذه الطبقة”، ويقول ابن العطار: “… حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارفاً بأنواعه كلها، من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه وصحيح معانيه واستنباط فقهه”،  ويقول الذهبي أيضاً: “مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة، وتصفية النفس من الشوائب، ومحقها من أغراضها، كان حافظاً للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليله، رأساً في معرفة المذهب”.

شرح صحيح مسلم

يعد كتاب شرح صحيح مسلم للنووي واحداً من أشهر الكتب الإسلامية، حتى قيل: “ما عرف الناس شرحاً لكتاب في الحديث أتقن وأوفى وأبرع – مع اختصار – من كتاب شرح صحيح مسلم للنووي، فإنه لم يدع لقارئه مهما يبلغ علمه سؤالاً في سره أو في علنه إلا ووجد جوابه فيه، من بحث السند إذا كان فيه ما يبحث، ومن لغة وما يتعلق بها، ومن تسمية لما يجهل اسمه، ومن شرح المعنى، ومما يستنبط من الحديث، ومن قال بظاهر الحديث ومن خالف وما حجته، مع فوائد كثيرة وعلوم غزيرة لا تستقصى”.

ويقول علي الطنطاوي: “وأما شرح مسلم فهو كتاب جليل، لا أعرف في الشروح أجلّ منه إلا شرح ابن حجر على البخاري”، وقال ابن كثير: “إنه جمع فيه شروح من سبقه من المغاربة وغيرهم. وقال السخاوي: “وقد استدرك شيخنا (يعني ابن حجر العسقلاني) على الشيخ مواضع كان غرضُه إقرارَها بالتأليف فما اتفق له، وكان شديد الأدب معه حتى سمعته مراراً يقول: لا أعرف نظيره”.

قالوا في الإمام النووي

قال عنه الإمام الذهبي: “الشيخ الإمام القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الفقيه، المجتهد الرباني، شيخ الإسلام، حسنة الأنام”. وقال الإمام ابن كثير: “الشيخ الإمام، العلامة الحافظ، الفقيه النبيل، محرر المذهب ومذهبه، وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، كان على جانب كبير من العلم والعمل والزهد والتقشف، والاقتصاد في العيش والصبر على خشونته، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله بدهر طويل”. وقال في حقِّه الإمام العلامة محمد بن علاَّن الصديقي: “شيخ الإسلام، علم الأئمة الأعلام، أوحد العلماء العاملين، والأولياء الصالحين، عين المحققين، وملاذ الفقهاء والمحدثين، وشيخ الحفاظ، وإمام الحفاظ، وإمام أرباب الضبط المتقنين”.

النووي والظاهر بيبرس

من أشهر قضايا النووي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقوفه في وجه الملك الظاهر بيبرس البندقداري في قضية الحوطة على الغوطة، قال القطب اليونيني: “إنه واقف الظاهر غير مرة بدار العدل بسبب الحوطة على بساتين دمشق وغير ذلك”،  وقال ابن كثير: “إنه قام على الظاهر في دار العدل في قضية الغوطة لما أرادوا وضع الأملاك على بساتينها، فرد عليهم ذلك، ووقى الله شرها بعد أن غضب السلطان، وأراد البطش به، ثم بعد ذلك أحبه وعظمه، حتى كان يقول: أنا أفزع منه”.

عندما خرج الظاهر بيبرس لقتال التتار بالشام طلب فتاوى العلماء بأنه يجوز أخذ مال من الرعية ليستنصر به على قتال العدو، فكتب له فقهاء الشام بذلك، وقتل خلقاً كثيراً من العلماء بسبب إفتائهم له بعدم الجواز، فقال: “هل بقي أحد؟” فقالوا: “نعم، بقي الشيخ محيي الدين النووي”، فطلبه فقال: “اكتب خطك مع الفقهاء”، فامتنع وقال: “لاط، فقال: “ما سبب امتناعك؟” فقال: “أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال، ثم مَنّ الله عليك وجعلك ملكاً، وسمعت أن عندك ألف مملوك كلهم عنده حياصة من ذهب، وعندك مئتا جارية، لكل جارية حق من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليكك بالبنود الصوف بدلاً عن الحياصات الذهب وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، ولم يبق في بيت المال شيء من نقد أو متاع أو أرض، أفتيتك بأخذ المال من الرعية، وإنما يُستعان على الجهاد وغيره بالافتقار إلى الله تعالى، واتباع آثار نبيه صلى الله عليه وسلم“، فغضب السلطان من كلامه وقال: “اخرج من بلدي” يعني دمشق، فقال: “السمع والطاعة”، وخرج إلى نوى، فقيل للملك: “ما سبب عدم قتلك له؟” فقال: “كلما أردت قتله أرى على عاتقه سَبْعَين يريدان افتراسي فأمتنع من ذلك”، أي إن خوفه منه كان بهذه المثابة، وكثيراً ما صرح أنه يخافه. ولما رأى النووي أن المواجهة لم تُجدِ نفعاً عمد إلى الكتابة إليه بأسلوب فيه ترغيب وترهيب، فكتب إليه ووقع معه بعض العلماء.

وفاته وردّه للكتب المستعارة

توفي الإمام النووي في الثلث الأخير من ليلة الأربعاء 25 رجب 676 هـ الموافق 22 (كانون الأول/ديسمبر) 1277. يقول التاج السبكي: “لما مات النووي بنوى ارتجت دمشق وما حولها بالبكاء، وتأسف عليه المسلمون أسفاً شديداً، وأحيوا ليالي كثيرة لسنته”. وقال ابن العطار: “… فسار إلى نوى وزار القدس والخليل عليه السلام، ثم عاد إلى نوى، ومرض عقب زيارته لها في بيت والده، فبلغني مرضه فذهبت من دمشق لعيادته، ففرح رحمه الله بذلك، ثم قال لي: “ارجع إلى أهلك”، وودعته وقد أشرف على العافية يوم السبت العشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة، ثم توفي في ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من رجب، فبينا أنا نائم تلك الليلة إذا منادٍ ينادي على سدة جامع دمشق في يوم جمعة: “الصلاة على الشيخ ركن الدين الموقع”، فصاح الناس لذلك النداء، فاستيقظت فقلت: “إنا لله وإنا إليه راجعون“، فلم يكن إلا ليلة الجمعة عشية الخميس إذ جاء الخبر بموته رحمه الله، فنودي يوم الجمعة عقب الصلاة بموته، وصلي عليه بجامع دمشق، فتأسف المسلمون عليه تأسفاً بليغاً، الخاص والعام، والمادح والذام”.

ودُفن الإمام النووي في قريته نوى، وقبره ظاهر يُزار. ومما أُثر من خبره أنه لما دنا أجله ردّ الكتب المستعارة عنده من الأوقاف جميعها. قال قطب الدين اليونيني: “ولما وصل الخبر بوفاته لدمشق، توجه قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة على قبره”، قال: “وكان يسأل أن يموت بأرض فلسطين، فاستجاب الله تعالى منه”.