كان لكل أمة من الأمم تأريخ تؤرخ به أيامها، وقد يستمر هذا التأريخ، وقد ينقطع بتأريخ آخر.
والتأريخ مرتبط بالأحداث العظيمة التي تمر بها الأمم، كأن يكون فيها “مبعث نبي بآيات وبرهان، أو قيام ملك مسلَّط عظيم الشأن، أو هلاك أمة بطوفان عامٍّ مخرب، أو زلزلة وخسف مبيد، أو وباء مهلك، أو قحط مستأصل، أو انتقال دولة، أو تبدل ملة، أو حادثة عظيمة من الآيات السماوية والعلامات المشهورة الأرضية التي لا تحدث إلا في دهور متطاولة وأزمنة متراخية تعرف بها الأوقات المحددة”([1]).
والعرب لم يكونوا بدعًا في ذلك؛ “فإنهم كانوا يؤرخون ببناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة حتى تفرقوا وخرجوا من تهامة، فكان الخارجون يؤرخون بخروجهم، والباقون بآخر الخارجين منهم حتى طال الأمد فأرخوا بعام رئاسة عمرو بن ربيعة المعروف بعمرو بن لحي، وهو الذي يقال: إنه بدّل دين إبراهيم.
ثم أرخوا بعام موت كعب بن لؤي إلى عام الغدر، وهو الذي نهب فيه بنو يربوع ما أنفذه بعض ملوك حمير إلى الكعبة من الكسوة، ووثب بعض الناس على بعض في الموسم.
ثم أرخوا بعام الغدر إلى عام الفيل.
ثم أرخوا به إلى تاريخ الهجرة.
وبعض العرب كانوا يؤرخون بالوقائع المشهورة والأيام المذكورة الكائنة بينهم، كالتي لقريش مثل يوم الفِجار وحلف الفضول.
وكذلك كانت حمير وبنو قحطان تؤرخ بتبابعتها([2])“([3]).
وقد أخرج ابن عساكر “أن رسول الله -ﷺ- أرّخ التاريخ حين قدم المدينة في شهر ربيع الأول”([4]).
وقال ابن حجر: “وهذا معضل، والمشهور خلافه”([5]).
وقد ورد أن المسلمين أطلقوا أسماء على السنوات التي عاشها المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- بالمدينة، فقال المطهر المقدسي: “وكانت سنو الهجرة عشر سنين: السنة الأولى سنة الهجرة، والثانية سنة الأمر بالقتال، والثالثة سنة التمحيص، والرابعة سنة الترفيه، والخامسة سنة الزلازل، والسادسة سنة الاستئناس، والسابعة سنة الاستغلاب، والثامنة سنة الاستواء، والتاسعة سنة البراءة، والعاشرة سنة حجة الوداع.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة من الهجرة مضى منها شهران واثنا عشر يومًا ولحق بربه -ﷺ”([6]).
ولما توسع المسلمون، ودوِّنت الدواوين، وتواصلت المراسلات والمكاتبات بين الخلفاء والولاة وقادة الجيوش، لم يكن معقولاً أن تكون المكاتبات غفلاً عن التاريخ لمنع اللبس، يقول البيروني: “وقد كان عمر دوّن الدواوين، ووضع الأخرجة والقوانين، واحتاج إلى تأريخ”([7]).
وسبب ذلك كما في إحدى الروايات أنه قد رُفع إلى أمير المؤمنين عمر”صك -أي: حجة- لرجل على آخر وفيه: إنه يحل عليه في شعبان.
فقال عمر: أي شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة الماضية، أو الآتية؟”([8]).
وقيل: بل “كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر: إنه تأتينا منك كتب ليس لها تأريخ”([9]).
وقد كان أبو موسى في ولايته على البصرة جارًا لإمبراطوريتين عظيمتين هما الإمبراطورية الفارسية شرقًا والرومانية غربًا، ولعله اطلع على أهمية أمر التأريخ في المراسلات، فلفت نظر أمير المؤمنين إلى ذلك.
ولعل تواتر المشاكل بسبب التأريخ دفع أمير المؤمنين عمر باتخاذ التدابير التي تمنع حدوث مثل هذه المشاكل، فجمع الصحابة فاستشارهم في وضع تأريخ للناس يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك.
فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس فكره ذلك.
وكانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحدًا بعد واحد؛ إذ كلما قام ملك طرح من كان قبله.
وقال قائل: أرخوا بتاريخ الروم.
وكانوا يؤرخون بملك إسكندر بن فلبس المقدوني، فكره ذلك؛ إذ رأى أن العهد طويل بينهم وبينه.
وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله -ﷺ.
وقال آخرون: بل بمبعثه.
وقال آخرون: بل بهجرته.
وقال آخرون: بل بوفاته -عليه السلام.
فمال عمر -رضي الله عنه- إلى التأريخ بالهجرة؛ لظهوره واشتهاره.
فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله -ﷺ- بالمدينة فوجدوه عشر سنين، فكتب التأريخ من هجرة رسول الله -ﷺ([10]).
وهذا يعني أن المسلمين كانوا على اطلاع بالتقاويم التي كانت تتخذها الدول المحيطة، وعلموا عيوبها.
ومن الجدير بالذكر أنه لم يكن معروفًا بعدُ التقويم الميلادي.
وقد توسعت الدولة الإسلامية على حساب إمبراطوريات وبلدان اختلفت تقاويمها، فلا يستقيم النظام الإداري للدولة إذا اختلفت تقاويم البلدان المفتوحة، فوحدة التقويم من وحدة البلاد.
وقد سارت بعض التقاويم جنبًا إلى جنب مع التقويم الهجري القائم على الحساب القمري، ففي مصر كان التقويم القبطي الذي يعتمد عليه الزراع؛ إذ إن التقويم القمري لا يمكن من خلاله معرفة الفصول.
فالتقويم الهجري كانت له الهيمنة والصدارة، وكان ولاة الأمر يستعينون بالتقاويم الأخرى التي يجري بها حساب الفصول وأوقات الزروع والحصاد… إلخ.
ولما فقد المسلمون دولتهم فقدوا وحدتهم وفقدوا صدارة تقويمهم، وجعلوا لغيره الصدارة والهيمنة.
([1]) الآثار الباقية عن القرون الخالية للبيروني، ص(13).
([2]) “التَّبابِعةُ: ملوك اليمن، واحدهم تُبَّع، سموا بذلك؛ لأَنه يَتْبَع بعضُهم بعضًا كلما هَلك واحد قام مَقامه آخر تابعًا له على مثل سِيرته” [لسان العرب، مادة (تبع)]، و”قيل: كان لا يسمى تُبعًا حتى يملك حضرموت وسبأ وحمير” [النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، (1/468)].
([3]) الآثار الباقية عن القرون الخالية للبيروني، ص(34-35) باختصار.
([4]) تاريخ دمشق، (1/37)، وقال: “هي مرسلة”.
([5]) فتح الباري، (7/268).
([6]) البدء والتاريخ للمقدسي، (4/180).
([7]) الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص(30).
([8]) البداية والنهاية لابن كثير، (3/251).
([9]) تاريخ الطبري، (2/3).
([10]) انظر: تاريخ الطبري، (2/3)، والبداية والنهاية، (3/251).