قد يكون من المباغت أن يركض شخص لعدة ساعات متصلة، تلك حكاية رئيسية، وبارزة في حياة صحابي رياضي البنية، ورجل من أهل البادية اختار الإيمان، وسار في ركابه، وأفنى فيه حياته. سلمة بن عمرو بن الأكوع بن سنان الأسلمي رضي الله عنه، رجل من شباب قبيلة أسلم، وقد شهد بيعة الرضوان، والذي كان اعترافا بقوة الإسلام، وكيانه الناشئ، وفي الوقت ذاته، كان فرصة لإيقاف الحروب، والسماح بالدعوة، لكن مما جعل الموازين تميل لصالح المسلمين، إسلام قبائل بكاملها، فقد أقبل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه بأسلم، وغفار بعد غزوة الخندق، فقال ﷺ: “أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها” (صحيح البخاري)، تفاؤلا بهذين الاسمين، واندمجت القبيلتان في الحياة الجديدة، لقد تتابعت القبائل كتلا بشرية نحو المدينة، مؤذنة بانتقال المجتمع من حالة لآخرى، ولذلك نهى ﷺ عن الأعرابية بعد الهجرة، لئلا يعود الناس اجتماعيا لمألوفاتهم، ولتتوطن في نفوسهم المعارف الدينية، والسلوكيات الجديدة.
كان سلمة قوي البنية، لقيه أحد التابعين، فطلب منه مصافحته، فأخرج لهم يده، فإذا هي تشبه خف البعير ضخامة، كان إسلام ابن الأكوع وهو ابن ستة عشر عاما بالتقريب، تزيد قليلا أو تنقص قليلا عن ذلك..
لكن لم يطل المقام كثيرا بسلمة بن الأكوع، فوقعت غزوة ذي قرد، كانت غارة مفاجئة، سبقت غزوة خيبر بثلاثة أيام كما في صحيح البخاري، ولقدر الله كان سلمة بن الأكوع، وغلامه رباح معا يتابعان الماشية التي تخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبوغتا بغارة قبيل الفجر، تفتق ذهن سلمة عن تصرف سريع، فهو فرد وحده، والمنطق يقتضي جلب المدد بسرعة، فطلب من رباح ركوب الفرس، والذهاب بها لصاحبها طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وإخباره بالحدث، وهتف بدوره بصوت عال: يا صباحاه، فقد كان معتادا أن تقع الغارات صباحا، ولكن هذا النداء غدا شعارا للإنذار بوقوع الغارة.. في أي وقت..
بقي عليه تنفيذ خطة طوارئ، استغل مهارته الأساسية، والمهارات الفرعية، نسج خطة هجوم كامل مبنية على الموارد المتاحة: الركض، والرمي، بهدف تحرير الإبل والماشية، وظل يركض، ويرمي بالنبال، والسهام التي معه، وظل يتابعهم بالركض، والمناورة، والاختباء وراء الكتل الصخرية، ورجمهم بالحجارة، وظل يوجه كل الماشية التي يفلتها المغيرون باتجاه المدينة، ومع الظلام تصور المهاجمون، أن ثمة عددا من الفرسان، ومع الفجر اكتشفوا أنه شخص واحد..
ويبدو أن عددا من الفرسان عاد لغطفان خائفا من الهجوم المعاكس الذي قاده فرد، فجاء عيينة بن حصن كبير غطفان مددا، فأخبره المغيرون المرهقون من فرد واحد، فأجابهم بأنه من المحتمل أن يكون له مدد كامن، ينتظرهم، والأفضل لهم أن ينسحبوا.
استمرت المطاردة لعدة ساعات حتى امتد الضحى، ويمكن تقدير هذه المسافة بأنها أربع ساعات كاملة، ويبدو أن اليوم كان شاتيا، إذ لم يشر ابن الأكوع في روايته إلى حر الشمس، وهو أمر مألوف في الجزيرة العربية خاصة في أوقات الصيف، فعدم إشارته لحر الشمس، دال على كون الوقت كان بداية الشتاء، حيث يعتدل الليل، والنهار، علاوة على ذلك أن الضحى وقت يبدأ من بعد شروق الشمس بربع ساعة إلى ساعة بالتقريب، وحتى قبيل الظهر، فامتداده دال على توسط ذلك الوقت، فيمكن القول أن الركض استمر لأربع ساعات متصلة.
لماذا أحلل هذا التحليل؟ قد يبدو مستبعدا قيام شخص بالركض لأربع ساعات متصلة، وبدون تناوله الطعام أو أي مصدر من مصادر الطاقة، ما قد يجعل الرواية برمتها عرضة للشك، وعلى أي حال فإن المتأمل جيدا في متن الرواية، يلاحظ أن ابن الأكوع نفسه لم يكن يركض باتصال، بل كان يستعيد نفسه، وهذا ما ورد في ذيل الرواية، ففي اليوم التالي، تحدى رجل من الأنصار كان لا يسبقه أحد عدوا، أن يسابق، فقبل سلمة تحديه، وركض، ثم هدأ سرعته “شرفا أو شرفين” ثم واصل الركض، فسبقه، ما يدل على أن سلمة كان سريع الركض، متقنا لفنون التحمل.
لكن المعركة لم تتوقف، بل أكملها الصحابة لاحقا، وبعد أن استعاد سلمة أنفاسه، أكمل ركضه بعيد العصر، وهنا ثغرة زمنية طويلة لا يذكر سلمة فيها أحداثا عدا استشهاد الأخرم الأنصاري رضي الله عنه، وتقدم أبي قتادة بفرسه لاحقا وراء المغيرين، وهذه عادة عربية في إيجاز الكلام، بإغفال الأوقات التي لم تحدث فيها أحداث ذات بال، فلا يعتقدن أحد أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ركض لما يتجاوز اثتني عشرة ساعة متصلة، فالرواية لا تصرح بذلك، بل تترك مسافة لا تقل عن ثماني ساعات متصلة كان سلمة فيها شاهدا فيها على عدد من الأحداث.
عدا مجددا قبيل الغروب، وعاد مجددا، ليجد النبي ﷺ جالسا مع الصحابة رضي الله عنهم، وقد استعاد سلمة والمسلمون ما نهب منهم، وقد رغب سلمة في أن يهاجم المغيرين، فقال له ﷺ: “ملكت فاسجح” أي ترفق، ربما كان ذلك حماية لسلمة من غرور النصر، فالإنجاز قد يدفع صاحبه لمسار غير محسوب، ينتهي بخسارة، ويكون معها إحراز نصر حاسم ذا تكلفة عالية.
قال ﷺ: “خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة” (صحيح مسلم)، وقسم له من المغنم نصيب الراجل، والفارس معا، تقديرا لجهده، وبذله، فقد قام بمهمة الفرسان، والمشاة في وقت واحد.
وفي اليوم التالي، تحدى رجل من الأنصار كان بطل المدينة في العدو، طالبا أن يسابقه أحدهم، فقبل سلمة التحدي، واستأذن النبي ﷺ في ذلك، فترك الخيار له، فاختار سلمة المسابقة، وانطلق، وبعد مسافة، توقف قليلا ليستبقي نفسه، ثم ركض بسرعة شديدة، حتى أمسك الأنصاري بين كتفيه، ففاز سلمة.
لكن بعد أيام قليلة، فجع سلمة بعمه عامر ابن الأكوع المنشد ندي الصوت، وقاتل فيها، وأصابته ضربة في ساقه بقي أثرها فيه، لكن رسول الله ﷺ نفث فيها، فبرئت، ربما ساور سلمة القلق على ساقه حينها، لكن شفاءها بلا شك أراح نفسه، كما شهد نموذجا للفروسية المتشبعة بالإيمان حينما دعا رسول الله ﷺ عليا رضي الله عنه، ووصفه بأنه يحب الله ورسوله ﷺ، ويحبه الله ورسوله ﷺ، ولا شك أن هذا الأمر، غرس في نفس سلمة الارتباط الوثيق بين القوة البدنية، وتشبعها بالقوة الروحية، حيث يتملك الإيمان قوى الإنسان، ويتحكم فيها، ويرتقي بها.
وعن علاقته بالنبي ﷺ، يقول عن نفسه أن رسول الله ﷺ مسح وجهه مرارا، واستغفر له مرارا، ودعا له مرارا، أثمر ذلك تعلق سلمة بالنبي ﷺ، حتى أنه كان يصلي صلاة الضحى في موضع معين من المسجد، ولما سئل عن ذلك، ذكر أنه رأى النبي ﷺ يتحرى هذا الموضع لصلاة الضحى عنده، فاستجلاب الاقتداء يكون بإظهار الرحمة والسمو الخلقي من المقتدى به.
والمطالع لسيرة سلمة يجد أنه عاد للبادية، واستوطنها، وهو أمر لافت للنظر، لكن لماذا أذن النبي ﷺ لسلمة وقومه في العود للبادية، والعيش فيها؟
كان الإذن عاما من النبي ﷺ لقبيلة أسلم، فقد أمرهم بذلك، وقال لهم: “تنسموا الرياح، واسكنوا الشعاب”، وربما كان ذلك حفاظا على صحتهم في أبدانهم، فبعض الأعراب كانت لا تناسبه بيئة المدينة الزراعية، وقد وقع مثل ذلك لبعض الأعراب قبل ذلك، وهم العرنيون أصحاب القصة المشهورة، وعلى هذا يدل أمره ﷺ للقوم، بأن يحصلوا على متنفسات واسعة، وأن يسكنوا أماكن يستطيعون الحركة فيها، وبالنسبة لسلمة، فإنه سيحتاج لمكان فيه مساحات للعدو، والتريض، وربما لإظهار جواز البقاء في البادية لأهلها، ويبقى هذا الأمر في علم العزيز العليم.
وأقدر أن هذا الأمر جرى بعد فتح مكة ، حيث لا هجرة بعد الفتح، وإنما عمل صالح، ونية، فقد زالت عوامل القلق، والتوتر عن المجتمع المسلم، وصار بإمكان أهل البادية العودة إليها إن شاؤوا، خاصة إن كانوا قد تشربوا العلم، وحملوه، وتهذبت روحهم بخلق الإسلام، وقيمه العالية.
لكن سلمة ظل ينزل المدينة، ويعود للبادية بين فترة، وأخرى، وثبت أنه كان من بين من يفتي من الصحابة، وروى عنه ابنه، وعدد من التابعين الحديث النبوي، حتى توفي في المدينة عام أربع وسبعين للهجرة عن تسعين عاما أو أقل قليلا.
الدروس المستفادة من سيرة الصحابي سلمة بن الأكوع
القيام بالواجب قدر الإمكان، فسلمة المحارب، والعداء، هو سلمة المفتي، والذي يعيش مجتمعه، ويستجيب لاحتياجاته، فيذهب للبادية معلما، ويعود للمدينة معلما، كما أن الواجب يؤدى قدر المستطاع، مع الأخذ بزمام المبادرة، والتخطيط الحسن، الذي يراعي الظرف، والوسائل، مع الاستجابة للطوارئ، والعمل تحت الضغط، بدون إذهاب للموارد هدرا، والالتزام بالأهداف المخطط لها، مع عدم التشتت، إضافة إلى التعاون في إنجاز المهمة بين الأفراد، وإدراك القدرات والتميز، مع الحرص على تقليل الخسائر.
علاوة على ذلك، يستوقفنا أمر هام، وهو ثمن النصر، فالنبي ﷺ خرج في غزوة دفاعية، وتأديبية، فرد المغيرين، ومنع المفسدين، لكنه أوقف القتال، فلم يستعد هو والمسلمون لغارة تامة على غطفان، والغزو، والغارة عادة عربية، فتحويلها لحرب بعيد صلح الحديبية، وقبيل خيبر، ليس أمرا مفيدا، فالرد على هجوم عابر، أو ذي طابع تكتيكي برد ذي بعد استراتيجي مجازفة، قد تضيع الخطط بعيدة المدى.
من المهم كذلك، الإشارة لتحفيز الأفراد المبادرين، وتعضيد مواهبهم، وتنميتها، فقد كافأ النبي ﷺ سلمة على جهده بضعف المعتاد، وذلك بناء على الدور الذي قام به، وحمايتها من عوارض الغرور، فالنبي ﷺ أنصف سلمة بالإشادة به، لكنه في اليوم التالي حينما تحداه الأنصاري في السباق، واستأذن سلمة النبي ﷺ في مسابقته ترك الخيار له، ولم يفرط في الثناء عليه، ولم يقم بتشجيعه حفاظا على نفس الأنصاري، وقومه، واكتفى سلمة بتسجيل فوزه على الطرف الآخر مسجلا احترافيته في العدو، كان هذا نهجا نبويا قويما، سجل في تشجيع الشباب على إبراز قدراتهم البدنية، والعقلية، فالنبي ﷺ أجاز رافع بن خديج، وسمرة بن جندب رضي الله عنهما رغم صغر سنهما في أحد لبراعتهما، وقوتهما الجسمية.
وفي المقابل، فإن الحفاظ على المنافسة في سياق جاد، وإبعادها عن إثارة التوتر، والنزعات من أي نوع كان أمر مطلوب للغاية، بحيث لا تخرج المنافسة عن غاياتها في تحفيز المواهب، وتعزيز الروح التنافسية، وتقوية حافز التميز.
وفي إذنه ﷺ لأسلم في الذهاب للبادية، أمر يلفت النظر فهي مراعاة للأحوال النفسية، والصحية، والاجتماعية، وإعادة توزيع للسكان بما يكفل لهم العيش وفقا لمألوفاتهم، وما اعتادوه في حياتهم، كما أن البادية كانت مهمة اقتصاديا للمدن العربية القليلة، فقد كانت توفر لها كثيرا من الاحتياجات، وتحافظ على الثروة الحيوانية عموما، كما توفر الخزان البشري للجزيرة العربية، وتحافظ على اللغة العربية على سليقتها، وقد أمر عمر رضي الله عنه الأعراب بمغادرة المدينة بعيد عام الرمادة.
كما أن رعايته ﷺ للمميزين تظهر في دعائه، واستغفاره، ومسحه على وجوههم، وإردافهم معه، بحيث يراهم الناس بمعيته ﷺ، فيعرفون قربه منه، ويحترمونه، ولهذا فإن النبي ﷺ أردف سلمة، ودعا له، واستغفر له، وهذا أمر محفز، يجعل الفرد يتعلق، ويرتبط بالقدوة العليا، ويحتذيه، هذا عدا عن بركة دعاء النبي ﷺ، واستغفاره لسلمة، وما يعنيه ذلك من بركات، ونفحات على روح ذلك العبد المؤمن.
وفي المقابل، فإن القيادة لا تعني الانفصال عن المجموع، بل الانتماء به، والالتصاق به، والتفاعل معه، وتقديم المثال الرفيع الذي يمكن احتذاؤه، فإن كان معصوما، فالاقتداء يتحقق بقدر الإمكان.
لقد كان إسلام سلمة بن الأكوع، وأسلم وغفار في لحظة هامة، استشرف فيها أبو ذر رضي الله عنه ثمار دعوته لعشرين عاما تقريبا، وانطلق بالقبيلتين، ودخل المدينة، ليكون ذلك مؤشرا على إنتاج لحظة تاريخية لاحقة صلح الحديبية، وما بعدها، ولما توثق النبي ﷺ من تحقق أهداف البقاء في المدينة في نفوس قبيلة أسلم ترك الخيار لهم، وأذن لهم في البادية، وبقي سلمة في دوره المنوط به، يتحرك بين البادية، والمدينة، محافظا على دوره، وعلاقته وصلته بالمدينة، وأثره فيها.
إن الاقتداء بالصحابة، يتحقق باتباعهم بإحسان، وهو ما يقتضي فهم الدروس، والعبر، والغايات، والانطلاق في تطبيق هذه الدروس مع إدراك الفوارق في الظروف، والوقائع، والاهتمام بتحقيق هذه الغايات، بأفضل الوسائل، إن إدراك النسبة والتناسب بين المثال، والواقع الراهن، والتعامل مع النموذج بالوعي اللازم، يضمن تحقق الفائدة الأقصى من هذا النموذج، وتفعيل جوانب التميز فيه، وفي المقابل، فإن مقام النبوة العالي يبقى هو الإطار الذي يحتوي الجوانب كافة، ويصوب بقية أفراد النموذج، في حين يتمكن الناس عبر النماذج الأخرى المصاحبة من الاستفادة من هذه النماذج، واتباعها بوعي، وبصيرة.
رضي الله عن سلمة بن الأكوع، ورفع درجته في عليين، وألحقنا به في الصالحين.