قال ابن كثير: “اشتملت هذه السورة الكريمة  (..) على حمد الله وتمجيده والثناء عليه، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد، وهو يوم الدين، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه، والتبرؤ مِن حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيدِه بالألوهية تبارك وتعالى، وتنزيهِه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم، وتثبيتِهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المُفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل، لئلا يُحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون”.

وقال ابن عاشور :

” تشتمل محتويات هذه السورة على أنواع مقاصد القرآن، وهي ثلاثة أنواع:

1- الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه عن جميع النقائص،

2- ولإثبات تفرده بالإلهية

3- وإثبات البعث والجزاء،

وذلك من قوله: (الحمد لله) إلى قوله: (ملك يوم الدين)، والأوامر والنواهي من قوله: (إياك نعبد)، والوعد والوعيد من قوله: (صراط الذين أنعمت) إلى آخرها، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله، وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد.

والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله: الحمد لله إلى قوله: (يوم الدين) حمد وثناء، وقوله: (إياك نعبد) إلى قوله: (المستقيم) من نوع الأوامر والنواهي، وقوله: (صراط الذين) إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن، وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في: قل هو الله أحد [الإخلاص: 1] أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها أثناء على الله تعالى.

وتشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية، فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها، وإما أحكام يقصد منها العمل بها، فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص، والأحكام إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام ف (الحمد لله) يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة الحمد لله من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص .

و(رب العالمين) يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها.

و(الرحمن الرحيم) يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين.

و(مالك يوم الدين) يشمل أحوال القيامة.

و(إياك نعبد) يجمع معنى الديانة والشريعة.

و(إياك نستعين) يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال.

و(اهدنا الصراط المستقيم) يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب.

و(صراط الذين أنعمت عليهم) يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة.

وقوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالالتهم المحكية عنهم في القرآن، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة- تصريحا وتضمنا- علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض. وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية. ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكر لما في مطاويها[1].


[1]  مِن نُكتِ القرآن.. مناقشة ونقد وإضافة، رفيق المصري (18)