يحاول البعض تصوير العلاقة بين الإسلام والعقل أنها علاقة تصادم وتنافر، وكأن الإيمان ضد العقل، رغم أن القرآن يحرض على التفكير، وتاريخ الحضارة الإسلامية يؤكد أن للعقل مكانته ودوره، لكن الرؤية الإسلامية تنظر إلى العقل على أنه أداة، وليس جوهرا مستقلا، فالعقل ليس قيدا علي الوحي ولا النص، والنص لا يفهم إلا من خلال العقل.

الرؤية الإسلامية للعقل مركبة ومتوازنة وموضوعية، فإذا كان هناك ما ضد العقل من أساطير وخرافات، فهناك ما فوق العقل من وحي وغيبيات، وما ضد العقل يفقده توهجه وقدراته، أما فوق العقل فيمنحه آفاقا واسعة من المعرفة، وارتقاء لا يمكن أن يصل إليه العقل بأدواته ومناهجه وطرائقه في التفكير، ولعل هذا ما لخصه العلامة “ابن خلدون” باقتدار في قوله:” العقل ميزان صحيح ، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره ، فإن ذلك طمع فى محال.. ومثال ذلك مثال: رجل رأي الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال”.

ولذلك كان يقول “أبو حامد الغزالي” عن استحالة تعارض النورين: “قد خاب بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات، فمثال العقل: البصر السليم عن الآفات والآذاء، ومثال القرآن: الشمس المنتشرة الضياء…فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضا للأجفان! فلا فرق بينه وبين العميان! فالعقل مع الشرع نور على نور”.

ويسعى كتاب “الله والمنطق في الإسلام: خلافة العقل”[1] تأليف البروفيسور “جون والبريدج” John Walbridge[2] ، إلى اثبات الدور المركزي للعقل في الحياة الفكرية الإسلامية، وأن المناهج العقلية تميزت بها الشريعة والفلسفة، وعلم الكلام والتعليم، بل إن الإسلام مرتبط بمسقبل العقل.

يتكون كتاب “الله والمنطق في الإسلام” من عشر فصول موزعة على ثلاثة أقسام، هي : بنية التراث الإسلامي العقلي  ،المنطق والتعليم والشك، عثرة العقلانية الإسلامية ومستقبلها.

العقل كان حاضرا

التراث العقلي الإسلامي جدير بالتأمل، فالإسلام مبني على الوحي، والعقل كان أداة اتخذها المسلمون بدأب لتفسير الوحي، والفرضية التي سعى “والبريدج” لاثباتها خلال الكتاب، هي: أن الحياة العقلية الإسلامية امتازت بكون العقل في خدمة الوحي، وأن تراث الإسلام المعرفي والفكري إنما هو تراث عقلي على نحو عميق، على الرغم من أنه مؤسس على الوحي، فالعقل عضد للوحي، وظهير له، ومنطق الأفكار الرئيسية في الحياة الإسلامية أدى باستمرار إلى وضع المعرفة الدينية في سياق عقلاني، بواسطة العقل المانح للمباديء المنظمة للمكونات الرئيسية للمعرفة التي لم تكن في أصل نشأتها أو أصلها عقلية، يقصد أن مصدرها كان الوحي، ولم تكن حقائق توصل لها العقل عبر رحلة من البحث والتفكير.

كانت العلوم الإسلامية الإسلامية إلى العام 1500م هي الأكثر تقدما في العالم، وعندما نُقلت إلى أوروبا في العصور الوسطى، قامت بدور نقدي هيأ الأرضية لقيام الثورة العلمية، فالعلماء المسلمون وظفوا العقلَ لتحليل النصوص الدينية تحليلا منطقيا، وهو ما جعل العقلانية أساسا للحياة العقلية الإسلامية، ورغم أن الحضارة الإسلامية لم تقبل الفلسفة الإغريقية بوصفها سيدة العلوم، إلا أن تلك الفلسفة حظيت باحترام وتقدير بوصفها الخادمة للجدل الفقهي والتأمل الصوفي، فقد كان للأفكار التي شكلت الحياة  الفكريةالإسلامية منطقها الداخلي الذي حدد الخيارات المتاحة للمفكرين المسلمين، وجاء العقل لينصر الإيمان وليس ليكون بديلا له، إذ لم تكن القضية هي الافتقار إلى الحرية اللازمة للإبداع الفردي أو البدائل.

والعقل مفهوم نظري مجرد، أما العقلانية فهي إعمال لهذا العقل في الأفكار والأفعال، ويمكن صياغتهما في تعريف واحد بالقول أن تؤخذ الاعتقادات والدعاوى والأفكار مأخذا منهجيا حاكما، مؤسسا  على مقدمات منطقية معللة وحجج صحيحة مقنعة.

ويذهب الكتاب أن هناك تعددا لمفهوم العقل في الرؤية الغربية: ففي عصر التنوير الأوروبي كان مفهوم العقل يعني إحلال الفكر الفردي المستقل محل المرجعية الدينية، أما أنصار المذهب النفعي فيرون أن العقل إنما هو الغاية العملية للسعادة، فالأفكار الغربية حول العقل ليست هي المعيار الذي يجب أن يحكم العقل الإسلامي، فليس ثمة مفهوم غربي واحد للعقل حتى يكون معيارا، فعلاقة الغرب مع العقل معقدة، ولذا أنتجت مفاهيم ومدارس متعددة للعقل.

يذكر الكتاب أن الإسلام استقبل الفلسفة الإغريقية استقبالا لائقا في مرحلته المبكرة، رغم أصولها الوثنية، لكن ظل الوحي في الرؤية الإسلامية هو المصدر الأعلى للاحتجاج، فالمسلمون يوقنون أن الوحي ينطوي على الحقيقة كلها، أو على الأقل على النوع الأعلى منها.

ماهو وجه الاختلاف بين تاريخ الفلسفة في الإسلام والمسيحية؟

تاريخ الفسلفة في الإسلام مختلف عن تاريخها في المسيحية، ففلاسفة الإسلام العظام في القرون المبكرة للفلسفة  قدموا الفلسفة السياسية الأفلاطونية على أنها طريق إلى فهم الدين والوحي، لذا تم إدماج العقل دمجا منهجيا في العلوم الدينية الإسلامية، وفي الرؤية الإسلامية هناك اعتقاد بأن قسطا من مراد الله يمكن أن يُعلم بطريق النظر إلى الطبيعة، وفي التأمل في النوازع والأفكار، فهناك إضفاء دائم للعقل على الشريعة، وتجلى ذلك في علم أصول الفقه الذي وضع قواعده الإمام الشافعي، بعدما دمج الحديث الشريف في بنية الفقه الإسلامي، ومهد السبيل لظهور عقلانية فقهية جديدة.

ومع علم أصول الفقه أخذ يتلاشى تدريجيا مصطلح “الرأي” من العجم الفقهي، وهو المصطلح الذي كان محل خلاف بين المدارس القديمة، وأصبح علم أصول الفقه علما مستقلا، أما “علم الكلام” فكان حضور العقل فيه مميزا، وأخذ يثير قضايا  تحتاج إلى استخدام العقل، مثل: الحديث عن طبيعة وصفات الخالق سبحانه وتعالى، كما  ظهرت مدرسة الاعتزال في القرن الثامن الميلادي وحققت شهرتها في القرن التاسع، فأخذ العقل يأخذ مكانه في العلوم الإسلامية المختلفة، وصيغت تلك العلوم بنضج وعقلانية متصلة بالمنطق.

الفلسفة والعقل

تكاد الفلسفة الإغريقية القديمة أن تكون هي التفسير العقلاني الشامل والوحيد لأمم البحر المتوسط، قبل الأديان، وكان في الفسلفة القديمة فجوات مربكة ونواح مبهمة .

وفي الخبرة الإسلامية، كان ” أبو يوسف يعقوب الكندي” (801-866م)  هو أول من دعا إلى الفلسفة الإغريقية؛ إذ كانت في ذلك العصر تسود أسئلة حول العلم وحدوده بين الخالق سبحانه وتعالى وبين الإنسان، وحقيقة النبوة، والاختلاف بين النبي وبين البشر، والطريق إلى فهم الوحي، وعلاقة الخالق سبحانه بالعالم والكون.

وفي زمن “الكندي” كان “علم الكلام” قد شرع للتصدي لمثل هذه القضايا، وأول جدل كلامي عنيف ثارت  عليه الخلافات كان حول صفات الله تعالى، خاصة صفاته التي توهم مشابهة بالمخلوقات في نصوص صريح، مثل الحديث عن اليد، والعين، كما وقع خلاف بين المعتزلة والمحدثين فيما عرف بفتنة خلق القرآن.

ويلاحظ أن “الكندي” وضع مقاربة فلسفية إسلامية متميزة للدين، يرى فيها الحقائق التي توصل إليها العقل من خلال الفلسفة، وتلك التي جاءت من طريق الوحي متطابفة تطابقا جوهريا، وتأسيسا على ذك يمكن تفسير القرآن في ضوء المباديء الفلسفية، وكان يرى أن الفلسفة والوحي منهجان مختلفان يفضيان إلى الحقائق ذاتها.

أما أبو نصر الفارابي (المتوفى :950) والذي كان فيلسوفا متعمقا مهتما بالقضية السياسية، ويتمتع بأسلوب مقنع ومنطقي، خاصة كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة”، فسعى  لجعل فلسفة الدين جزءا من الفلسفة السياسية، وهو ما يعني ضرورة أن يُفهم مضمون الدين: عقيدة وشريعة، على أنه ثمرة العقل، وأن الخالق سبحانه وتعالى ينبغي أن يفهم بلغة العقل، وأن تبحث ظاهرة النبوة في مباحث النفس.

وعلى هذا فالدين هو عبارة عن الحقيقة الفلسفية على نحو يلائم المدارك والأوضاع في مجتمع معين، وبذلك تتحول فلسفة الدين إلى أسئلة سياسية، فالقوانين والعقائد المشرعة إنما يجب أن ينظر إليها من حيث دورها في تعزيز أهداف المجتمع وغاياته، لا من حيث حقانيتها وزيفها الأصليان، ويرى البعض أن فكرة الدين الفاضل تم استبدالها بفكرة المدينة الفاضلة، باعتبار التعامل معها أيسر.

وقد تعرض هذا الاتجاه للانتقادات ومقاومة كبيرة داخل العقلية الإسلامية، لأن هذا الاتجاه اعتبر الدين جزءا من الفلسفة السياسية، إذ لم يعد الدين هو النافذة الشاملة التي يستطيع منها الإنسان أن يطالع المطلق والغيب، كما أن تصوير الفارابي للنبي بأنه ما هو إلى فيلسوف، لم تقبله الرؤية الإسلامية عقلا وتاريخا، فالنبوة قائمة على الاصطفاء، كما أن جعل النبي فيلسوفا هو انتقاص من قدر النبي، إضافة إلى ذلك فإن النظر إلى القرآن الكريم باعتباره وثيقة مرموزة تُفهم على وجهها في ضوء الدليل الفلسفي فحسب، هو رأي ينتقص من قدر من القرآن الكريم.

ماذا جاء في الكتاب عن فلسفة الفارابي ؟

ويرى الكتاب أن فلسفة الفارابي تعد مثالا للفلسفة السياسية التي قامت على نظر عقلي خالص، لكنها أخفقت ليس بسبب أعدائها، ولكن لأنها لم تنصف الرؤية الإسلامية المتصلة بالله والوحي والدين والقرآن، ولم تقدرها حق قدرها.

وقد تابع الكتاب بطريقة عميقة وممتعة وشاملة حضور العقل في المعارف الإسلامية المختلفة، ومنها: التصوف الذي كانت له ظلاله الاجتماعية والأدبية والعقلية، ويرجع الفضل إلى “ابو حامد الغزالي” من خلال كتابه “إحياء علوم الدين” في دمج التصوف في الحياة العقلية الإسلامية.