في إطلالة بسيطة على تاريخ غزوة بدر، نكتشف أن هذه الغزوة بنت التصور الإسلامي لعوامل النصر والهزيمة بطريقة عملية واقعية، وقررت أن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة، وإنما بمقدار الاتصال بالله الذي لا يقف أمامه قوة العباد، ليوقن المسلمون في عصورهم المختلفة أنهم يملكون في كل زمان ومكان القدرة للتغلب على أعدائهم مهما كانوا هم من القلة وعدوهم من الكثرة، شريطة أن تتحقق فيهم عوامل النصر الحقيقية.

وإذا كانت الهجرة هي الميلاد الأول للدولة الإسلامية فإن هذه الغزوة تعد ميلادا ثانيا لقوة ناهضة ودولة ناشئة للمسلمين، ظنتها قريش لا تقوى على مطاولة أو مجاولة، لكن نصر الله للمسلمين في هذه الغزوة مكن للدين في النفوس، وللإسلام في جزيرة العرب، بل العالم كله.

الإعداد قبل المواجهة

في تاريخ غزوة بدر سبق القتال في الغزوة مرحلة من الإعداد النفسي والتدريب الشاق للمسلمين حتى يكونوا مؤهلين لخوض هذه المعركة الفاصلة التي سماها القرآن يوم الفرقان، وكان هذا الإعداد بتدبير من السماء حتى ينكسر الخوف من المشركين في نفوس المسلمين، وتقوى حميتهم على القتال ويعتادوا على منازلة قوات تفوقهم عددا وعدة، وكانت أول تهيئة نفسية للمسلمين لتقبل الأمر بالقتال هي حملة الاستفزازات التي قامت بها قريش ضد المسلمين في المدينة؛ حيث اتصلت بزعيم المنافقين عبد الله بن أبي سلول ودعته إلى طرد المسلمين أو الاستعداد للقتال واستباحة النساء في المدينة؛ فأثار هذا التهديد السافر الحمية في قلوب الأنصار على وجه الخصوص، ثم تعمق هذا الاستفزاز عندما تعرض أحد سادات الأنصار وهو سعد بن معاذ لتهديد وقح من أبي جهل أثناء تأديته للعمرة، فقال سعد أمام قريش في مكة: “والله لئن منعتني هذا (يعني الطواف بالبيت) لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة”، وكان هذا تهديدا إستراتيجيا لمكة في طريق تجارتها.

كان إحساس الكيان المهدد يملأ قلوب المسلمين جميعا في المدينة بما فيهم النبي الذي تشير رواية في صحيح مسلم إلى أنه نام بعدما قام سعد بن أبي وقاص بحراسته مدججا بالسلاح. وذكر أبي بن كعب أنه لما قدم النبي إلى المدينة هو وأصحابه رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، وهو ما يجعل التحفز للجهاد والقتال حاضرا دائما في النفوس.

وفي هذه الأثناء أمر النبي بإجراء تعداد سكاني للمدينة المنورة في السنة الأولى من الهجرة؛ فبلغ عدد المحاربين 1500 مقاتل، فشعر المسلمون بشيء من الطمأنينة وأنهم ليسوا قلة، ولذلك لما نزلت آية الإذن بالقتال في نهاية السنة الأولى أو بداية السنة الثانية من الهجرة كانت تجد في النفوس شوقا لهذا الإذن بالدفاع عن الإسلام، قال تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ} (الحج: 39 – 40).

وبعد هذه التهيئة للنفوس بدأت عملية التدريب الشاق للمسلمين قبل “بدر” حتى تُبنى التصورات الاعتقادية للمسلمين على أسس عملية تجريبية وليس نظريات فلسفية؛ لذا خاض المسلمون عددا من السرايا والغزوات الصغيرة المتتابعة، كان أولها سرية “سيف البحر” في رمضان من السنة الأولى للهجرة لاعتراض عير لقريش قادمة من الشام؛ فجاء “أبو جهل” في 300 مقاتل واصطف الفريقان للقتال وكان عدد المسلمين 30 مقاتلا فقط، إلا أن وساطة “مجدي بن عمرو الجهني” حالت دون حدوث القتال.

و نكتشف أيضا في تاريخ غزوة بدر أهمية هذه السرية وكيف كسرت هيبة المشركين، وهيبة مواجهة أعداد ضخمة تفوق المسلمين عشرة أضعاف، وتكرر ذلك في عدة سرايا أخرى مثل “سرية رابغ” في شوال من نفس العام، وكان عدد المهاجرين 60 والمشركين 200، وحدثت فيها بعض المناوشات بالنبل، بل إن النبي خرج في بعض هذه السرايا مثل “غزوة ذي العشيرة” في جمادى الأولى سنة 2هـ لاعتراض عير لقريش ذاهبة إلى الشام لكنها سبقت المسلمين فأفلتت منهم، وكانت هذه العير هي سبب خروج المسلمين في “بدر الكبرى” لاعتراضها في طريق عودتها.

ضرب المسلمون في هذه السرايا على وتر موجع لقريش وهو تجارتها ومصالحها الاقتصادية، وكان من الشيء اللافت للانتباه أن جميع العير أفلتت من المسلمين؛ وهو ما يقوي شوقهم وطموحهم لاعتراض العير التي كانت السبب في غزوة بدر التي كانت السماء تجهز لأحداثها لتكون قصة في العقيدة.

وأثناء هذا الجو من الإعداد النفسي والتدريب استعدادا لبدر، أمر الله تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وكان هذا دلالة رمزية على ضرورة أن يطهر المسلمون قبلتهم من الأوثان، ويحفز على قتال قريش وإنقاذ بيت الله الحرام من الكفر والشرك.

من العير إلى النفير

خرج المسلمون إلى بدر من أجل اعتراض قافلة تجارية كبيرة بها ألف بعير وثروة تقدر بـ 50 ألف دينار ذهبي، وليس معها سوى 40 حارسا تحت قيادة “أبي سفيان بن حرب”، ومن ثم كانت صيدا ثمينا للمسلمين لتعويض بعض ما أخذه المشركون منهم في مكة. وخرج النبي في 12 من رمضان سنة 2هـ، وانتدب الناس للخروج، ولم يكره أحدا على الخروج، إلا أن العير التي تحمل هذه الثروة الضخمة غيرت طريقها بعدما ترامت الأبناء إلى “أبي سفيان” بما يدبره المسلمون.

ولما علمت قريش بالأمر تجهزت للقتال وخرجت في جيش قوامه 1300 مقاتل ومعهم 600 درع و100 فرس، وأعداد ضخمة من الإبل، أما عدد المسلمين فكان حوالي 314 مقاتلا، منهم 83 من المهاجرين.

وقد استطاعت فرقة استكشاف واستطلاع المسلمين أن ترصد عملية هروب العير، وأرسل أبو سفيان إلى قريش أن القافلة قد نجت، ولا حاجة لهم في قتال أهل يثرب، لكن أبا جهل أبى إلا القتال، وقال قولته المشهورة: “لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا ننحر الجُزر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبدا”، لكنّ “بني زهرة” لم تستجب لهذه الدعوة فرجعت ولم تقاتل.

خرج المسلمون بنتيجة مهمة بعد أن أفلتت العير وبعد أن جمعوا معلوماتهم عن عدوهم، ألا وهي أن القتال أصبح حتميا؛ لأن الله وعدهم إحدى الطائفتين، العير أو النفير، وما دامت العير أفلتت فلا محيص عن القتال.

عقد النبي مجلسا استشاريا لبحث الموقف؛ فالشورى من مبادئ الإسلام الرئيسية في السلم والحرب، وكان هدف هذا المجلس معرفة موقف الأنصار من القتال؛ حيث كان متخوفا من أن يكون الأنصار غير مستعدين للقتال ونصرة النبي خارج المدينة، إلا أن “سعد بن معاذ” حسم الموقف، ومما قاله: “… فامض يا رسول الله لما أردت؛ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ في اللقاء”.

سُرّ النبي ، ثم قال: “سيروا وأبشروا فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين”.

ورغم الشورى والبشارة فإن بعض قلوب المؤمنين كانت تكره اللقاء، والأخرى كانت تريد العير. وصور القرآن الكريم هذه الحالة النفسية للمؤمنين تصويرا دقيقا في قوله تعالى: “كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ” (الأنفال: 5 – 7).

ليلة الفرقان

نزل النبي أدنى بئر بدر عشاء ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان، فتقدم أحد مقاتلي الأنصار وهو “الحُباب بن المنذر” بمشورة إلى النبي حملت في طياتها الأدب الرفيع في تعامل الصحابة مع النبي ، والخبرة العسكرية الراقية، فقال: “يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟” فقال النبي : “بل هو الرأي والحرب والمكيدة.

في تاريخ غزوة بدر قال هذا الخبير العسكري: “يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغوّر ما ورائه من القُلُب (أي الآبار)، ثم نبني عليه حوضا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون”، فقال النبي : “لقد أشرت بالرأي”.. قمة الشورى والنزول على الأصوب، وقمة الإحساس بالمسئولية.

أما الرأي الثاني الذي أخذ به النبي ، فكان من “سعد بن معاذ”؛ إذ اقترح على النبي أن يبني المسلمون له مقرا لقيادته، يقوم على حراسته عدد من الشبان الأشداء ويكون مجهزا ببعض الركائب، وعلل سعد اقتراحه بقوله: “وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك، ويجاهدون معك”، وهو إدراك بأهمية الحفاظ على القيادة، فليس من الحكمة أن تكون القيادة المسلمة مكشوفة في الصراع مع أعدائها، ولذلك أثنى النبي على هذا الاقتراح، وأمر بتنفيذه، وكان سعد هو قائد الحرس لهذا المقر.

دعاء حار؟!

مضى النبي يعبئ الجيش للقتال، ويشحذ معنوياته، وكان من روعة هذه التهيئة النفسية الإيمانية أن النبي مشى في ميدان المعركة وأشار إلى مصارع بعض كبار المشركين، فبدأت النفوس القلقة تهدأ وتستقر، ثم وقف يناجي ربه أن ينزل النصر على المسلمين، وأخذ يهتف بربه قائلا: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض” حتى سقط الرداء عن كتفيه وهو مادٌّ يديه إلى السماء، فأشفق عليه أبو بكر الصديق، وأعاد الرداء إلى كتفيه والتزمه (احتضنه) وهو يقول: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك” فخرج النبي ، وهو يقول: “سيهزم الجمع ويولون الدبر”.

وأثار خوف النبي في هذا الدعاء، وطمأنينة أبي بكر الصديق استشكالا عند العلماء فتعددت الآراء في تفسير هذا الموقف، فقيل: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي في تلك الحال، بل الحامل للنبي على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم؛ لأنه كان أول مشهد شهدوه، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك، وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقب بقوله “سيهزم الجمع”، غير أن بعضهم لم يرض بهذا التفسير، وذهب إلى أن النبي كان في مقام الخوف، لأن الوعد بالنصر لم يكن معيّنا على وجه التحديد في تلك الغزوة.

وذهب الشيخ “رشيد رضا” في تفسير “المنار” أنه “لا يصح أن يكون النبي علم باستجابة الله له لما وجد في نفس أبي بكر قوة وطمأنينة؛ لأن علم النبي بربه سبحانه وتعالى واستجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه من حال أبي بكر، وأشار أن المقام في بدر كان مقام خوف ولم يكن مقام توكل محض، وذلك أن التوكل الشرعي بالاستسلام لعناية الرب تعالى وحده إنما يصح بعد اتخاذ الأسباب المعلومة من شرع الله، ومن سنته في خلقه. ومن المعلوم بالقطع أن أسباب النصر والغلبة في الحرب لم تكن تامة عند المسلمين في ذلك الوقت لا من الجهة المادية كالعدد والغذاء والعتاد والخيل والإبل، ولا من الجهة المعنوية لكراهة بعضهم القتال وجدالهم النبي فيه، ولهذا خشي أن يصيب أصحابه تهلكة على قلتهم لتقصيرهم في بعض الأسباب المعنوية، فوق تقصيرهم غير الاختياري في الأسباب المادية، فكان يدعو ألا يؤاخذهم الله تعالى بتقصير بعضهم في إقامة سننه عقابا لهم”.

مطر وملائكة

وفي ليلة بدر أنزل الله مطرا خفيفا على المسلمين ثبت به الأرض من تحتهم، بينما كان المطر شديدا على معسكر المشركين، وغشي المسلمين في هذه الليلة نعاسٌ، ملأ النفوس طمأنينة، والأجساد راحة واسترخاء، وكانت حالة نفسية عجيبة وهي في حقيقتها مدد من الله تعالى لهم، ثم أوحى الله تعالى إلى الملائكة أن يثبتوا الذين آمنوا، وألقى الله الرعب في قلوب الذين كفروا، ثم قلل الله تعالى عدد المشركين في أعين المسلمين، وقلل عدد المسلمين في أعين المشركين، فقد رأى النبي المشركين في منامه قلة لا قيمة لهم، ولا وزن.

وأثارت مسألة اشتراك الملائكة في بدر، أسئلة كثيرة، اختلفت حولها الآراء حول اشتراك الملائكة في القتال، غير أن ما تطمئن إليه النفس المسلمة أن مهمة الملائكة كما يشير صريح القرآن أنها كانت لتثبيت المسلمين في القتال، وليس لقتال المشركين، وذكر “ابن جرير الطبري” في تفسيره أن الروايات التي وردت في قتال الملائكة في بدر حريةٌ بألا تنقل، كما أن “ابن كثير” لم يذكر إلا رواية واحدة فقط رغم كثرة المرويات في هذا الشأن، كما أن عدد من قتلتهم الملائكة غير معروف ولا محدد، وإذا تتبعنا أسماء المقتولين في بدر لوجدنا أن غالبية من قتلهم أسماؤهم معروفة.

نصر وتمكين

“لئن كنا نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد فما بالله من طاقة”.. كلمة حق قالتها “قريش” وصدقتها أحداث بدر، فعندما أصبح يوم 17 رمضان رحلت قريش إلى أرض المعركة، أما النبي فوظف الظروف الطبيعية في أرض المعركة لصالحه، فسبق قريش إلى الميدان، وجعل الشمس في ظهره، أما قريش فكانت الشمس في أعينها.

حفز النبي أصحابه على القتال بعبارة قوية لا تحمل أي تردد أو خوف فقال: “قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض”، “والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة”، فقال “عمير بن الحمام”: “بخٍ بخٍ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟!”، ثم سأل “عوف بن الحارث” النبي سؤالا عجيبا فقال: “يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ فقال : “غمسه يده في العدو حاسرا”؛ فنزع “عوف” درعا كانت عليه فقذفها ثم قاتل حتى استشهد.. كانت كلمات النبي تسري في نفوس المسلمين بطريقة عجيبة، تفوق في تأثيرها من يمتلكه الكفار من عدد وعدة.

وعلى الطرف الآخر حاول أبو جهل أن يبث روحا في جنوده بالتوجه إلى الله بالدعاء!! فقال: “اللهم أقطعنا الرحم، وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم” فاستجاب الله ونصر المسلمين!!

كانت نصيحة الاستخبارات المكية التي قام بها “عمير بن وهب” ألا تقاتل قريش المسلمين، وقال لهم: “البلايا تحمل المنايا، نواضح (إبل) يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم”.. ولكن إرادة الله سبقت.

بدأ القتال بمبارزة كان النصر فيها حليف المسلمين، فحمي القتال، وقتل 70 من المشركين، وأسر مثلهم، وكان من بين القتلى أئمة الكفر: “أبو جهل” و”عتبة وشيبة ابنا ربيعة” و”أمية بن خلف”، و”العاص بن هشام بن المغيرة”. أما المسلمون فاستشهد منهم 14 رجلا، 6 من المهاجرين، و8 من الأنصار.

أمر النبي بجثث المشركين فجمعت في بئر. ومن روائع ما فعله النبي مراعاته لمشاعر أصحابه، والرفق بهم، وتقدير بعض ظروفهم الخاصة، فيروى أن المسلمين كانوا يسحبون جثة عتبة بن ربيعة لرميها في القليب (البئر)، فرأى النبي تغيرا في وجه ابنه “حذيفة” فسأله عن سبب حزنه، فقال حذيفة: “يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه وما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك”، فدعا له النبي بالخير.

يسألونك عن الأنفال لا الأسرى

مكث النبي في أرض المعركة في بدر 3 أيام، لتحقيق عدة أهداف عسكرية ونفسية، منها مواجهة أي محاولة من المشركين لإعادة تجميع الصفوف والثأر للهزيمة، وهو ما يفرض استمرار بقاء الجيش المسلم في حالة تأهب واستعداد لأي معركة محتملة؛ لأن من الأسباب التي تصيب الجيوش المنتصرة بانتكاسات هو أن يسري بين الجنود أن العمليات العسكرية والحرب قد توقفت، فتهبط الروح المعنوية إلى أدنى مستوياتها، ولذلك كان النبي يتجنب المخاطرة بانتصاره، إضافة إلى أن البقاء في أرض المعركة هذه الفترة يتيح للجيش المسلم القيام بإحصاءات دقيقة عن خسائره وخسائر عدوه، وبعث رسالة نفسية إلى الجيش المهزوم أن النصر لم يكن وليد المصادفة.

كان من أهم الأمور التي أثيرت بعد بدر قضيتان مهمتان، هما “الأنفال” و”الأسرى”، وقد سأل الصحابة النبي في الأنفال التي ساءت فيها أخلاقهم كما يقول “عبادة بن الصامت”، إذ تنازع الناس في الغنائم من يكون أحق بها؟! فنزعها الله تعالى منهم وجعلها له تعالى ولرسوله ، ثم عاتبهم بغير عتاب كما جاء في بدايات سورة الأنفال بأن ذكرهم بضرورة إصلاح ذات بينهم، وذكّرهم بصفات المؤمن الحق التي يجب أن يتحلوا بها وينشغلوا بتحقيقها في أنفسهم قبل السؤال عن الغنائم، ثم مضت 40 آية من الأنفال، قبل أن يبين الله حكم تقسيمها، والمشهور أن النبي قسمها بالتساوي بين الصحابة، وأعطى بعض الذين لم يشهدوا القتال لبعض الأعذار مثل عثمان بن عفان الذي كان مع زوجته رقية في مرضها الذي ماتت فيه، وأعطى أسر الشهداء نصيبهم من الغنائم.

أما الأسرى، فلم يسأل الصحابة فيهم النبي ؛ لأن الغالبية العظمى كانت تميل إلى أخذ الفداء باستثناء “عمر بن الخطاب” و”سعد بن معاذ” اللذين كانا يحبذان الإثخان في القتل، لكسر شوكة الكفر فلا يقوى على محاربة الإيمان.

استشار النبي الصحابة في أمر الأسرى، فأيدوا الفداء، إلا أن القرآن الكريم أيد الإثخان في القتل، لكن روعة الإسلام أن القرآن لم يأمر النبي بالرجوع عن القرار الذي اتخذ بعد الشورى حتى لا يصير الإعراض عن الشورى سنة في الإسلام، وأن يكون من قواعد التشريع الإسلامي أن ما نفذه الإمام من الأعمال السياسية والحربية بعد الشورى لا يُنقض، وإن ظهر أنه كان خطأ.

ومن روعة الإسلام أيضا أن النبي جعل فداء بعض الأسرى أن يقوموا بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وهو إدراك لأهمية العلم الذي يساوي الحرية والحياة.