قال تعالى ( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا . إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . فَأَتْبَعَ سَبَبًا) الكهف : 83 – 85

سخر الله لأمته في حقبة تاريخية قائدا فذا عظيما ، وفاتحا قويا مهيبا، نشر الصلاح وملأ الأرض عدلا .. هو : ذو القرنين . والذي ارتكزت صفاته القيادية على دعامتين  :

التمكين في الأرض : وتعني قوة التصرف في الملك والرسوخ فيه وتمام السلطة لكل ما يحقق الأهداف في المملكة.

ويفسر التمكين بإيتائه من كل شيء سببا : أي كل الوسائل والأسباب والعلوم الممكنة لتحقيق هذا التمكين والوصول إلى عمارة الأرض وبناء الحضارة . فهي تشمل ( العلم ، القدرة ، الأسباب ).

    فإذا ضممت العلم والقدرة إلى المعرفة الدقيقة والفهم العميق لأسباب التسخير في الأرض وللطبيعة – قانون السببية – وصلت لنتائج غائية هائلة وحاسمة وحازمة في التمكين بكل أشكاله وفق سنن القوة في الاجتماع البشري. ولكل ما يحتاج إليه القادة في المملكة لإدارة شؤون البلاد والعباد .

وقد عرض القرآن له ثلاثة مشاهد ورحلات كل منها تعبرعن علم وخبرة واسعة وفقه عميق لهذا القائد في شتى المجالات ..

 فالرحلة الأولى في المغرب .. قال تعالى (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا . قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا . وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) الكهف : 86 – 88

  ( الفتوحات  في منهج الله وشريعته ذات هدف نبيل وغاية أخلاقية  وليست لغاية القتل والتدمير )

فقد وصل أرضا تغرب فيها الشمس على مد البصر في تجمع لطين لزج ..( برك مياه وعيون مختلطة بالطين ) فأعلن دستوره كقائد في معاملة البلاد المفتوحة .. ما يشير إلى الرؤية الواضحة لديه في سلطانه و الرسالة  التي حملها كقائد والميزان الذي أرسى عليه دعائم الملك – ( الفتوحات ذات هدف نبيل وغاية أخلاقية في منهج الله وشريعته وليست لغاية القتل والتدمير ) – وكلها من صفات القيادة

وأما رحلته إلى المشرق ..فقد قال الله فيها  ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا . حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا . كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) الكهف : 89 – 91 . حيث جاء أرضا مكشوفة لا تحجبها مرتفعات ولا أشجار عن الشمس .. فعلّم الناس ما يحتجبون به من حدة شعاع الشمس أو ما يستر أجسامهم عن حرارتها – كله وارد –   المهم : الخبرة والعلم و الفهم الحاضر لدى القائد الفذ ( أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ).و قد حقق لهم بعض سبل التنمية ..والتي تعتبر من مهمات القادة والقيادة.

وكانت رحلته الثالثة في مكان سماه القرآن بين السدين .. قال    ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا . قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا . آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا . فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا . قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا  ).

 من مهمات القادة والقيادة تحقيق العدل وتوفير سبل التنمية للرعية

لقد طلب هؤلاء القوم منه سدا يمنعهم من يأجوج ومأجوج ويحول دون إفسادهم ، مقابل مالا أو مكافأة .. لكن رده كان ينم عن :

  • استعلاء على الدنيا وما فيها وما في أيدي أهلها ، بما آتاه الله من التمكين والملك ( ما مكني فيه ربي خير ) إنها عزة نفس المؤمن واستعلاء الزاهد عن الدنيا .
  • عمق النظر عنده والفهم السديد لديه ، وبان ذلك من أمرين :
  • الأول: لو رضي بأخذ المال لربما لن يندفع القوم للمساعدة والعون(أعينوني بقوة..) بحجة أنهم بذلوا ما يملكون مقابل القيام بالسد فلم إذاً يساعدون .
  • الثاني : أنه فضل الردم على السد ( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا )  والفرق : أن السد مجرد حاجز بين شيئين فحسب ..أما الردم : ففيه زيادة قوة و صلابة  ومنعة .

لقد قام – رحمه الله – بعمل أسطوري في إنجاز هذا الردم ، مسخرا معرفته بالأسباب والقوانين الطبيعية الكونية ، مستثمرا موارد الأرض المتاحة بشكل علمي دقيق ، ..حيث أمر بقِطع الحديد أن توضع حتى نهاية حافتي الجبلين ، وأشعلت عليها النيران حتى أصبحت هي كالنار ثم جيء بالنحاس المصهور فصب على الحديد شديد الحرارة .. ما أنتج  كتلة صلبة شديدة لا يُستطاع خرقها ولا إحداث خلل فيها ..

والأعجب أن يختم ذو القرنين عمله الضخم ومشروعه الهندسي المبهر، بتواضع المنكسر لله المستسلم له ( هذا رحمة من ربي ) .. وبإيمان عميق بقدرة الله المطلقة التي تفوق كل شيء   ( فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ) .