يسعى البعض للحصول على متعه دون توقف كانت حلالا أو حراما يمكنه أن يحصل عليها أو يصعب، يسعى بكل جهده حتى لو كلفه ذلك جهدا مضاعفا وأعقب ذلك آلاما كبيرة، إنه ينظر إلى اللحظة الراهنة فحسب ولا ينظر إلى العواقب بعد كل هذا السعي، هل يمكنه أن يظلم نفسه، فقد حدثنا الله تعالى في كتابه عن صنف من الناس يظلم نفسه {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [آل عمران: 135]، وحذرنا من ظلم النفس فقال عن الأشهر الحرم: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]
هل يمكن أن يظلم الإنسان نفسه وكل سعيه وحركته لكي ترتاح هذه النفس وتأخذ أكثر من حقها؟؟ هناك أوجه متعددة لظلم الإنسان لنفسه:
أولها الغضب الزائد عن الحد، فالغضب جمرة تشتعل في جوف ابن آدم حتى تمرضه وتقتله وتجعله يخسر الدنيا والآخرة، هذا الغضب الذي بسبب الدنيا ومن أجلها، أما الغضب الذي من أجل الله ومن أجل انتهاك الحرمات فأمر يرفع درجة العبد في الدنيا والآخرة، لذلك نسأل أنفسنا عندما نغضب هل يستحق الأمر كل هذا الغضب، هل تسرعنا في الحكم على الكلمة أو الموقف، وهل نسينا الظن الحسن والعلاقة الطويلة بيننا وبين من غضبنا عليهم؟ إن التأثيرات الضارة للغضب على البدن وعلى الفكر وعلى العلاقات تجعلنا نتوقف قبل الحكم لكي يتضح لنا الأمر حتى لا نهلك أنفسنا وندمر علاقات بنيت على مدار السنين حتى لا نظلم أنفسنا ونظلم غيرنا.
لا تظلموا أنفسكم بالحسد، فالحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ويبقى الحسود يحترق من داخله كل ما رأى نعمة لله سبحانه وتعالى تنزل على الخلق، وسيبقى الحسود ظالما لنفسه لأن نعم الله لن تتوقف على الخلق ولن يتوقف هو عن الاحتراق، فليرحم نفسه باليقين بحكمة الله تعالى المطلقة التي تضع الشيء في موضعه، ويرحم نفسه بأن يطلب من الله تعالى ما يريد ولا يتمنى زوال النعمة عن الناس، فالحسد كما جاء عن جمع من صحابة رسول الله ﷺ يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب الحسود، يظلم نفسه أكثر من مرة حين تشتعل نار الغيرة في صدره وحين يفقد حسناته وحين يعلن بحسده عن سخطه على ربه تبارك وتعالى.
لا تظلموا أنفسكم بالشح فقد قال الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وقال نبينا ﷺ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» [صحيح مسلم]، والشح نوع من أنواع الظلم اختار النبي ﷺ الشح من بين أنواع الظلم المتنوعة لأنه من أعظم أنواع الظلم ولما يترتب عليه من مفاسد عظيمة وهو دليل واضح على حب الدنيا والاستعداد لفعل كل شيء وأي شيء في سبيل الحصول عليها.
لا تظلموا أنفسكم بالسرف فمن الحكم المتوارثة: “تلال الكحل تفنيها المراود” أي: لو أن جبلا من الكحل أخذ الناس منه مقادير تكفي للاكتحال لانتهى هذا التل مع ضخامته وصغر الكمية التي يأخذها المرود وتحتاجها العين ، ولو أن الإنسان ينفق دون حساب ولا تقدير فإنه تنفد أمواله ويمد يده بالسؤال لمن كان يعطيهم من قبل فأي مذلة يشعر بها، والموفق من أطاع الله تعالى في قوله {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]
لا تظلموا أنفسكم بالذنوب، فإن من أحد أسباب حرمان الرزق اقتارف الذنوب وعدم التوبة، قال ﷺ: وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ. [صحيح ابن ماجه] الرزق قريب والمعاصي تبعده وتمنع منه.
لا تظلموا أنفسكم بعقوق الوالدين فعقوبة العقوق من العقوبات المعجلة، فإنك أيها الإنسان المسلم ستقف مواقف تحتاج فيها إلى البر والإحسان والكلمة الطيبة فإن كنت بارا ستجد من يبر بك، وإن كانت الأخرى تكون قد ظلمت نفسك وحرمتها حق الرعاية في وقت هي أحوج ما تكون إليها العاق الظالم لنفسه؛ لأنه دخل في دعاء النبي ﷺ بالذل على أهل العقوق، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ» قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» [صحيح مسلم]
لا تظلموا أنفسكم بتتبع عورات الناس، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ] [سنن الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ] نحن جميعا أصحاب خطأ وخطايا ومستورون بستر الله تعالى، وإن الظالم لنفسه هو من يكشف عن نفسه هذا الستر حين يتتبع عورات الناس.
لا تظلموا أنفسكم بالإفلاس قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» [صحيح مسلم]، تخيل أن رجلا أمضى عمره في جمع ثروة ضخمة بكل اجتهاد وعرق ودم ودموع، ثم يفاجأ بأن هذه الثروة تؤخذ من بين يديه وهو ينظر إلى من يأخذونه لا يستطيع أن يمنعهم ولا يستطيع أن يمنع ألمه وحسرته.
لا تظلموا أنفسكم فتقسوا عليها في النقد فيما يعرف بجلد الذات، فإن محاسبة النفس واجب شرعي لكن المحاسبة الصحيحة هي التي تكتشف الخطأ وتسعى إلى إصلاحه.
لا تظلموا أنفسكم بتوقع السوء في المستقبل والرعب من الغد، فإن الله تعالى لطيف بعباده وتوقع السوء في المستقبل يحرم الانسان من الشعور بنعم الحاضر.
لا تظلموا أنفسكم بالحرمان من الجنة التي أعدها الله للمتقين، فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، والله سبحانه وتعالى في هذه الأشهر الحرم التي نحن في أحدها، وهو شهر الله المحرم يقول: ﴿ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36] وظلم النفس في كل وقت حرام لكنه في هذه الأيام أشد حرمة فاتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
لا تظلموا أنفسكم بترك الصلاة والسلام على النبي ﷺ، فقد جاء في الحديث: “رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي. فإن الصلاة على النبيﷺ تذكرنا بمكانته عند الله وعظيم فضله على الإنسانية ووجوب محبته وطاعته ونشر هدايته في العالمين، حتى يعلم الجاهل مضمون رسالته التي تحمل الحق والخير والجمال نعرف سنته ونعرفها للناس نطبقها ليروا نموذجا عمليا لهذه المبادئ السامية.
فإن أقواما قد أعماهم الجهل أو الحقد فصور لهم نبي الإسلام ﷺ بصورة سلبية فلم يكلفوا أنفسهم عناء التحقق فظلموا أنفسهم ظلما كبيرا. وآخرون رأوا أن يحقدوا على الإسلام فعادوه وقاموا بنشر هذه العداوة.
ومن ظلم النفس الشرك، فإن الله وصف الشرك بأنه ظلم عظيم، ولعل الظلم الذي يليه هو ظلم الإنسان لنفسه بالشرك أو بالمعاصي. وعندما سمع الصحابة قول الله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] قالوا وأينا لم يظلم نفسه، وفي هذا القول تصوير لحقيقة الإنسان وأن الظلم ممكن الوقوع ولكن الله تعالى تواب رحيم يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.