ما أحوجنا في هذا العصر إلى زاد إيماني يعيننا على العواصف والشدائد التي تجتاحنا ، وما أحوجنا كذلك إلى أخلاقنا الإسلامية الرفيعة؛ كي نواجه بها شتى المصاعب والمشكلات، ومن ذلك خلق الصبر ، الذي وردت فيه آيات قرآنية كثيرة.

وفي الصبر اقتداء بأشرف خلق الله ورسلِه الكرام الذين سماهم الله عز وجل أولي العزم، حيث خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ونحن معنيون بالخطاب معه بقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ…} [سورة الأحقاف: 35].

معنى  الصبر

والصبر في اللغة: هو الحبس. وفي الاصطلاح: هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع أو ما يقتضيان حبسها عنه أو هو حبس النفس على ما تكره ابتغاء مرضاة الله كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [سورة الكهف: 28].

والصبر خلق عظيم، وله فضائل كثيرة منها أن الله يضاعف أجر الصابرين على غيرهم، ويوفيهم أجرهم بغير حساب، فكل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر، قال تعالى: {إنَمَا يُوَفَى الصَابِرُونَ أجْرَهُم بِغَيرٍ حِسابٍ} [سورة الزمر: 10].

مكانة الصابرين

الصابرون في معية الله، فهو معهم بهدايته ونصره وفتحه، قال تعالى: {إنّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ} [سورة البقرة: 153]، وكذلك هم أهل محبته قال تعالى: {وَاللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ} [سورة آل عمران: 146]، وفي هذا أعظم ترغيب للراغبين. وأخبر الله سبحانه وتعالى أن الصبر خير لأهله فقال سبحانه: {وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِريِنَ} [سورة النحل: 126].

ولقد خص الله تعالى الصابرين بأمور ثلاثة لم يخص بها غيرهم وهي:

أ  – الصلاة من الله عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم، قال تعالى: {وَبَشّرِ الصّابِرينَ * الّذِينَ إذا أصَابَتَهُم مُصِيَبَةٌ قَالُوا إنّا للهِ وَإنّا إلَيهِ راجِعُونَ * أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رّبِهِم وَرَحمَةٌ وَأولئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ} [سورة البقرة: 155 – 157].

ب- علَّق الله سبحانه وتعالى الفلاح في الدنيا والآخرة بالصبر، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران: 200]، فعلّق الفلاح بكل هذه الأمور.

جـ- ربط الله تعالى خصال الخير والحظوظ العظيمة بأهل الصبر في قوله تعالى: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ} [سورة القصص: 80]، وقوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [سورة فصلت: 35].

قال تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [سورة هود: 11]

قال تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [سورة هود: 49]

قال تعالى : { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [سورة هود: 115]

ولقد وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان فضل الصبر والحث عليه، وما أعد الله للصابرين من الثواب والأجر في الدنيا والآخرة، منها:

عن أنس رضي الله عنه قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: “اتقي الله واصبري”، فقالت: إليك عني فإنك لم تُصب بمصيبتي -ولم تعرفه-، فقيل لها: إنه النبي، فأخذها مثل الموت، فأتت باب النبي فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك. فقال: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”، فإن مفاجأة المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمها، فإن من صبر عند الصدمة الأولى انكسرت حدة المصيبة وضعفت قوتها فهان عليه استدامة الصبر.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “… ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر” [رواه البخاري ومسلم].

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسّم مالاً فقال بعض الناس: هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله، فأُخبر بذلك رسول الله فقال: “رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر”.

ماهي أنواع الصبر ؟


للصبر أنواع كثيرة:

أولها: الصبر عن المعصية، وهذا صبر الصدّيقين؛ لأن المعصية من شهوات النفس وقد تتلذذ بها، قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12].

ثانيًا: الصبر على الطاعة، وهذا صبر المثابرين، كصبر المؤمن على الصلاة في وقتها بتمام سجودها وركوعها، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِه} [سورة مريم: 65]، وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [سورة طه: 132].

ثالثًا: الصبر عند الغضب، وهذا هو صبر الأقوياء، فبالغضب نفقد أنفسنا، ولا نستردها إلا بالحلم، وأفضل علاج للغضب التشبث بالصمت، وتأجيل الرد حتى تهدأ النفس، وذكر الله فبذكر الله تطمئن النفوس. قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِين} [سورة آل عمران: 134].

رابعًا: الصبر عند المصيبة، وهذا هو صبر الأتقياء، فهو نور في الظلام، وثبات عند الصدمة، فمن لم يصبر على البلاء، لم يرض بالقضاء، قـال تعالـى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} [سورة آل عمران: 186]، وقال تعالى: {الّذِينَ إذا أصَابَتَهُم مُصِيَبَةٌ قَالُوا إنّا للهِ وَإنّا إلَيهِ راجِعُونَ * أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رّبِهِم وَرَحمَةٌ وَأولئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ} [ سورة البقرة: 156، 157].

خامسًا: الصبر على البلاء، وهذا صبر المجاهدين، وهو الصبر المذكور في القرآن الكريم عزاءً للقلوب المكلومة وشفـاء للنفوس الحزينة، قـال تعالـى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين} [سورة محمد: 31]، وقال تعالى: {إنَّمَا يُوَفَى الصَابِرُونَ أجْرَهُم بِغَيرٍ حِسابٍ} [سورة الزمر: 10].

وهناك أنواع عدة للصبر، منها: الصبر على كتمان الأسرار، كقول الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ}، وقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُون}، وقوله لابنه يوسف عليه السلام: {لا تَقْصُصْ رُؤيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [سورة يوسف: 18، 86، 5]. وأيضًا الصبر على سماع الأذى وتحمله ومعالجته بالهجر الجميل، قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} [سورة المزمل: 10].

ماذا قالوا عن الصبر ؟

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “وجدنا خير عيشنا بالصبر”، وقال أيضًا: “أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريمًا”.

وقال علي رضي الله عنه: “ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسد”، ثم رفع صوته فقال: “ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له”، وقال أيضًا: “والصبر مطية لا تكبو”.

وقال الحسن رضي الله عنه: “الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده”.

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعوضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه”.

الصابرين هم أهل الفضل

للصابرين عند ربهم منزلة عظيمة فهم يلقبون يوم القيامة بـ”أهل الفضل”؛ نظرًا لما يلاقون في دنياهم من ابتلاءات فيصبرون عليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم أهل الفضل، فيقومون وهم قليل، فيسيرون سِراعًا إلى الجنة، فتستوقفهم الملائكة وتقول: من أنتم؟ فيقولن: نحن أهل الفضل، فيقولون لهم وما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا، وإذا جُهِلَ علينا حلمنا؛ فتقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين”.

ومن هنا كان لأسلافنا الكرام -رحمهم الله- باع طويل في توضيح أهمية تلك الأسلحة الإيمانية التي هي بمثابة جهاز مناعة للإيمان والإنسان، ومن ذلك الكلام القيم للعلامة ابن القيم الذي أورد فيه كثيرًا من المواضع التي ورد بها الصبر في القرآن الكريم، ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: “ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعًا”، منها:

الأمر به كقوله تعالى: {وَاصبِر وَمَا صَبُركَ إلا بِاللّهِ} [النحل: 127]، وقوله تعالى: {وَاصبِر لِحُكِمِ رَبِكَ} [سورة الطور: 48].

النهي عن ضده وهو الاستعجال كقوله تعالى: {فَاصبِر كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزمِ مِنَ الرُسُلِ وَلاَ تَستَعجِل لَهُم} [سورة الأحقاف: 35]. وقوله: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحُوُتِ} [سورة القلم: 48].

الثناء على أهله، كقوله تعالى: {وَالصّابِرِينَ فِي البأساء وَالضّراء وَحِينَ البأسِ أُولَئِكَ الّّذَينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ} [سورة البقرة: 177].

تعليق النصر والمدد عليه وعلى التقوى، كقوله تعالى: {بَلَى إن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأتُوكُم مِن فَورِهِم هَذَا يُمدِدكُم بِخَمسَةٍ آلَافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [سورة آل عمران: 125]، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “واعلم أن النصر مع الصبر”.

الإخبار بأن الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب، ودخول الجنة وسلام الملائكة عليهم، إنما نالوه بالصبر، كما قال: {وَالملائكةُ يَدخُلُونَ عَلَيِهِم مِن كُلِ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيكُم بِمَا صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدّارِ} [سورة الرعد: 23، 24].

الإخبار أنه إنما ينتفع بآيات الله ويتعظ بها أهل الصبر، كقوله تعالى: {وَلَقَد أرسَلنَا مُوسَى بِآياتِنآ أن أخرِج قَومَكَ مِنَ الظُلُماتِ إلى النورِ وَذَكِّرْهُم بِأيامِ اللّهِ إنَ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِ صَبّارٍ شَكُورٍ} [سورة إبراهيم: 5].

الإخبار أن خصال الخير والحظوظ العظيمة لا يلقاها إلا أهل الصبر كقوله تعالى: {وَيلَكُم ثوابُ اللّهِ خَيرٌ لِمَن ءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً وَلاَ يُلَقاها إلا الصَابِرُونَ} [سورة القصص: 80]، وقوله تعالى: {وَمَا يُلَقاها إلا الذّينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَها إلا ذُو حَظٍ عَظِيمٍ} [سورة فصلت: 35]. وقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة النحل: 96]

تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، كقوله تعالى: {وَجَعَلنا مِنهُم أئِمّةً يَهدُون بِأمرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِئَاياتِنا يُوقِنُون} [ سورة السجدة : 24]، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

أن الله أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال: {إنّا وَجَدنَاهُ صَابِراً نِعمَ العَبدُ إنَهُ أوابٌ} [سورة ص: 44]، فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرًا، وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد.

أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان، فقرنه بالصلاة في قوله: {وَاستَعِينُوا بِالصّبرِ وَالصّلاةِ} [البقرة: 45]، وبالتقوى في قوله تعالى: {إنّهُ مَن يَتَقِ وَيَصبِر} [سورة يوسف: 90]، وبالشكر في قوله تعالى: {إن فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور} [سورة لقمان: 31]، وبالرحمة في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوا بِالصّبرِ وَتَوَاصَوا بِالمرحَمَةِ} [سورة البلد: 17]، وبالصدق في قوله: {وَالصَّادِقينَ وَالصَّادِقَات وَالصَّابِرين وَالصَّابِراتِ} [سورة الأحزاب: 35].

أعطى الله سبحانه وتعالى للصابرين دون غيرهم أجرهم بغير حساب كما قال تعالى: {إنَّمَا يُوَفَى الصَابِرُونَ أجْرَهُم بِغَيرٍ حِسابٍ} [سورة الزمر: 10].

أمور منافية للصبر

لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله، والقلب عن التسخط والجزع، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب وخمش الوجوه، ونحو ذلك، كان ما يقع من العبد منافيًا له، ومن هذه الأمور: 

مما ينافي الصبر الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه ويلطف به ويعافيه وبيده ضره ونفعه إلى من لا يرحمه وليس بيده نفعه ولا ضره. وهذا من عدم المعرفة وضعف الإيمان. وقد رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال: “يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟!”.

ثم أنشد:

وإذا عرتك بلية فاصـبر لها
صـبر الكـريم فـإنه بك أعلمُ
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ

بيد أن الصبر لا ينافي الشكوى إلى الله، فقد شكا يعقوب عليه السلام إلى ربه مع أنه وعد بالصبر فقال: {إِنَّما أشكُوا بَثِي وَحُزنِي إلى اللّهِ} [يوسف: 86].

ولا ينافي الصبر أيضًا إخبار المخلوق بحاله؛ كإخبار المريض الطبيب بحاله، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، إذا كان ذلك للاستعانة بإرشاده أو معاونته على زوال الضر.

ومما ينافي الصبر ما يفعله أكثر الناس في زماننا عند نزول المصيبة من شق الثياب، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، ونتف الشعر، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، والدعاء بالويل، ورفع الصوت عند المصيبة؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل ذلك.

بيد أنه لا ينافي الصبر البكاء والحزن من غير صوت ولا كلام محرم، قال تعالى عن يعقوب: {وَابيَّضَت عَينَاهُ مِنَ الحُزنِ فَهُوَ كَظِيم} [سورة يوسف: 84]. قال قتادة: “كظيم على الحزن، فلم يقل إلا خيرًا”.

ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها. وقد قيل: “من البرِّ كتمان المصائب والأمراض والصدقة”. وقيل أيضًا: “كتمان المصائب رأس الصبر”.

بيد أن الكلام عن المصيبة لمجرد أن يستشعر الإنسان وقوف إخوانه بجانبه وحاجته إليهم دون توسع فهذا لا ينافي الصبر.

ومما ينافي الصبر الهلع، وهو الجزع الشديد عند ورود المصيبة والمنع عند ورود النعمة، قال تعالى: {إِنْ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إذا مَسَّهُ الشَرُ جَزُوْعاً * وَإذا مَسَّهُ الخَيَرُ مَنُوْعاً} [سورة المعارج: 19 – 21].

يد أن الحزن والهلع الذي يتناسب مع حجم الموقف دون إفراط ودون معصية لا ينافي الصبر.

وأخيرًا..

للبحر مد وجزر، وللكلمة نفع وضر، ولكل جراح بلسم، وأفضل البلسم الصبر، فهو فضيلة المتقين، وسبيل إلى جنة النعيم، وهو في الحياة أليق بالأبي الكريم.

فإذا كان لديك الصبر فأبشر بقريب الفرج، فكلما طال بالإنسان صبره، نجح أمره. أما إذا كان جوابك النفي.. فما عليك سوى ترويض النفس على ما تكره، ومعاودة الكرَّة، وبذل الجهد والمسرة. ثم اشترِ من البضائع أجودها وأشدّها حمدًا للعاقبة، قال الشاعر:

يا بائع الصبر لا تشفق على الشاري
فدرهم الصبر يساوي ألف دينار