لغة بلا حروف في عالمٍ يضجّ بالصوت والصخب، تبقى الدموع اللغة الأكثر صدقًا، تلك التي لا تحتاج إلى ترجمة، ولا تحتاج إلى تبرير. هي أول ما ينطق به الإنسان عند ولادته، وأحيانًا آخر ما يعبر به قبل الرحيل. بين تركيبها الكيميائي، ووظيفتها البيولوجية، وقيمتها العاطفية، تكمن فلسفة كاملة، تستحق التأمل والفهم والاحترام. في هذا الموضوع، نحاول أن نستعرض الدموع من جوانبها المختلفة، لنفهمها أكثر… وربما نسمح لها أن تسكن عيوننا دون خجل، حين تكون هي الصوت الوحيد الذي نملك.
الدموع وسيلة اتصال قوية، وما من لغة تضارعها في عكس مكنوناتنا، من ألم، وفرح، وحزن، وخوف، وإعجاب، ودهشة… الدموع هي متنفسنا و ملاذنا مهما كان وقعها علينا، تظل هي من تطهر أنفسنا و تروح عن خلجاتنا، هي نعمة من عند الله سبحانه وتعالى ، تعكس صحة الجسم و سلامة النفس، وتعيد الحياة إلى القلب و تريح النفس مما يشوبها .
إن الذي لا يبكي فهو عديم القلب، أما من لا يتأثر لدموع غيره فهو منزوع الاحساس وذلك أشد و أبشع، إنها بللورات صافية وندية، رقيقة ومؤثرة، انها أصدق التعابير … من منا لا يعرفها؟ من منا لا يعشقها أو يخافها؟ …
أجل هي و بدون منازع ، رفيقات دربنا وكاشفة خبايا صدورنا، قد تُشعرُنا بالراحة والطمأنينة، وقد تشعرنا بالسعادة أحيانًا، تعطينا إحساسًا هادئًا يخفِّف من لوعاتنا، أرجوك دَعْهَا تنزل… فكم من دموعٍ حُبِست، وعن أوطانها شُرِّدت، ومن عالَمِها نُفِيت، اذرف الدمع، وأَمطِر على قلوبٍ قاحلة، اسقِ بجفنِك مشاعر يابسة، اروِ برمشِك عواطف لاهبة، أَغِثْ قلبَك الحزين، بدمعك الرهين.
وللدموعِ حكايات، فدمعةٌ تَروِي رواية عابدٍ متنسِّك، ودمعةٌ تحكي لمتَّقٍ ورَعًا، فزَّ من مرقدِه و سارع مناجاةً لربه وأفاض الدمع، ودمعة تقصُّ قصة قاسية، لرجالٍ سيقوا للهاوية، فغدت عقولهم بالية، اسكب الدمع وخل عنك أثقالاً مثقلة.
دموعك تحت المجهر
لا يعرف الكثير من الناس معلومات كافية عن كيمياء وتركيب الدموع، فقد أجرى الباحثون أبحاث ورسائل عديدة فى محاولة لفهم تركيب السائل الدمعي ومعرفة محتوياته فالدموع تركيبة معقدة، المكون الرئيسي لها هو الماء، كما تحتوي الدمعة على البروتينات والإنزيمات والمواد التي تحتوي على النيتروجين. أما الملح فيكون نحو 9% من الدمعة، وهذا هو سر طعمها المالح أيضا. لكن هذه التركيبة تختلف باختلاف السبب الذي ذُرفت من أجله هذه الدموع: الحزن أو آلام الحب وما يرافقه من وجع في الفؤاد، أو السعادة.
تحتوي الدموع على ماء للرطوبة وزيوت للتشحيم ولمنع تبخر السائل المسيل للدموع ، كما تحتوي الدموع أيضاً على مخاط، يتيح اانتشار الدموع على سطح العين بالإضافة إلى الأجسام المضادة والبروتينات الخاصة لمقاومة العدوى. كما تنقل الدموع الأكسجين والمغذيات إلى الخلايا السطحية للعين ، حيث لا توجد أوعية دموية في العين. و تحتوي دموع الإنسان التي يذرفها نتيجة شعور أو عاطفة ما، على مجموعة من العناصر الكيميائية، التي تختلف تماماً عن تلك المواد التي نعرفها، مثل هرمون “برولاكتين أدرينوكورتيكوتروبيك”، وهرمون ليوسين إنكيفالين “وهو مسكن طبيعي للألم”، وهما ما يجعلان الدموع التي تذرف بسبب مشاعر ما، تختلف عن الدموع الأساسية، أو تلك التي تنتج كرد فعل من العين تجاه مسبب آخر، كدخول ذرات من الرماد فيها.
دموعنا أنواع .. ولكل نوع حكاية”
ما بكت عين إلا ووراءها قلب” : يقول الإمام علي (رضي الله عنه) كل شيء يبدأ من القلب، فهو مفتاح الجسد، والعين إبصاره، وهي طاسة الدموع، وينسب للامام علي كرم الله وجهه: ما بكت عينٌ إلا ووراءها قلب، والقلب صمام الفرح والألم معاً، فالإحساس بالحالتين، يتطلب سكب الدموع لإراحة الصدر والقلب من هموم كثيرة. وعلميا يقال إن الدموع ما هي إلا رسالة موجهة من المخ إلى الغدة الدمعية، نتيجة انفعالات داخلية، فالدموع الأساسية هي التي تفيض من عيون جميع البشر، وتفرزها الغدة الدمعية بانتظام وتصرف من العين، أيضا، عن طريق مجرى الدموع.
ونستطيع تسمية الدموع بمسميات كثيرة، فدموع الفرح تنتج عن موقف مفاجئ، أو عن نجاح غير منتظر، وهي دموع متلألئة قصيرة ومبتسمة، تخلف مسحة جمالية علي الوجه الباكي. وعلى نقيضها دموع الحزن التي تسوّد الوجه وتظهره بمظهر التصلب والكآبة، فهذا النوع من الدموع مدرار كالمطر، لا ينقطع، ساخن، مؤلم، يحفر في الوجه ملامح الكارثة، تلك الدموع التي تجتاحنا عندما يكون الصمت هو العنوان ، تعجز النفس حينها عن أي كلام فعنوانها الهوان.
ولا ننسى دموع الفراق تلك التي تباهتنا فجاه فتأخذ منا الضحكات والابتسامات فلا نلتقيهم بعدها الا في عالم الذكريات، ودموع الخيانة هي دموع قاسية حارقة طعمها لايمحيه الزمان، دموع تبكي الاخلاص والوفاء والعرفان.
أما دموع الندم فنذرفها ولحرقتها طعم لايشبه حتى الخيالات، هي دموع الضمير ودموع الحسرة على ماقد فات، وهي أكثر إيلاماً من الدموع كلها، وهي لا تخرج من العين، إنما من القلب ومن مسارب الروح ، وهي دموع عاصفة حارّة تقلع الأوردة والشرايين وتعبث في ملفات الماضي والحاضر والمستقبل، وتحيل المرء إلى كائن عشوائي خارج عن جاذبية الحياة، هذه الدموع لها أسنان وأنياب وفكوك، تأكل الجسد والروح معاً وتزحف على الذاكرة فتبعثر ملامحها وتترك فيها ندوبًا لا تُمحى. وعن دموع الخشوع فحدث ولاحرج هي بكل فخر لرب الاكوان اجلالا وتعظيما وخوفا وامتنانا.
إن دمعة فى عين طفل تعتبر شهادة صدق على أوجاع أو جوع أو حرمان من حنان، كما أن دمعة فى عين امرأة ترفض أن تنزل إلى خدها تعبير صامت ونام عن شعور بالندم أو الحب أو الظلم، ودمعة في عين رجل لا يخفيها عن الآخرين تعتبر علامة يأس أو دليل «فلتان» مشاعر.
تفرز الدموع في الحزن والفرح بآلية واحدة، حيث تومض العين ست عشرة مرة في الدقيقة، ومع كل ومضة لجفن العين فإنها تسحب قليلاً من سائل الغدد.
وعندما يشعر الإنسان ببعض الانفعال، مثل الحزن أو الغضب أو السعادة البالغة، تضيق العضلات التي حول الغدد الدمعية وتعصر السائل الدمعي.
ويحدث الشيء نفسه إذا ضحك الإنسان من أعماقه، وعلي الرغم من أن الكيميائي الحيوي و”خبير الدموع” ويليام فري ، قد اكتشف بعد دراسة تركيبة الدموع أن الدموع اللا إرادية تحتوي على 98% من المياه ، كما وجد أن دموع العاطفة تحتوي على هرمونات التوتر التي يفرزها الجسم عن طريق البكاء، وأن الدموع التي نذرفها عند مشاهدة أفلام حزينة أو قصص إنسانية مأساوية، تحتوي على نسبة أكبر من البروتين، مقارنة بالدموع التي نذرفها كاستجابة تلقائية لشرائح البصل التي تُقطع بجوارنا، الا أنه ليس هنالك فرق علمي بين دموع الفرح أو الحزن، وإنما الإحساس لدى الإنسان هو الذي يولد الشعور بالفرق.
فوائد الدموع
هناك أشكال وصور متعددة لمسببات البكاء، أشدها ألما “دموع قهر الرجال”، وأعلاها قدرا ومكانة البكاء من خشية الله ، للقرآن الكريم حديث حول فيض الأعين من الدمع فى مواضع كثيرة؛ كما في قوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) وإن كان ذرف الدموع نعمة للمرأة ، كما يقولون، فكتمها نقمة على الرجل. ما دفع بعض الفلاسفة إلى القول بأن المراة أطول عمرًا من الرجل؛ لأنها أكثر منه بكاء وأغزر دمعًا، ويؤكد العلم الحديث أن المرأة أكثر بكاء بسبب زيادة هرمون البرولاكتين المسئول عن افراز الدموع لديها .
والحرمان من البكاء خسارة كبيرة، هذا ما أكدته دراسة علمية من أن المحرومين من ذرف الدموع يعانون من صعوبات شديدة في التعبير عن مشاعرهم، وأن الحرمان من البكاء يهدد بأمراض نفسية مثل القلق والاضطرابات العصبية، وهو يحرم الإنسان من إحدى أهم وسائل التعبير عن الرأي والعاطفة، كما يراه خبراء الطب النفسي.
وتشير الدراسات العلمية إلى أن البكاء يطهر الجسم من بعض السموم، ويخلصه من الاجهاد الهرموني المفرط، ويحفزه على إفراز هرمونات السعادة كالإندورفين والأكستوسين والتي تقلل الشعور بالألم الجسدي والنفسي، كما يسمح البكاء للجسم باستعادة توازنه والتخلص من الشعور بالعبء الثقيل، وهناك أطباء ينصحون بذرف الدموع كعلاج لانتكاسات نفسية وعصبية ولاستعادة صفاء الذهن واتزان السلوك.
توصلت دراسة شملت أكثر من 4 آلاف شخص من 30 دولة، إلى أن معظم هؤلاء الأشخاص حققوا تحسنًا في الحالة النفسية والبدنية لديهم بعد مرورهم بنوبة بكاء… حتي أن بعض العلماء يري أن الحيوانات قادرة مثلنا نحن البشر على إظهار عواطفها بالدموع أيضاً، ويعتقدون على سبيل المثال أن الأفيال الحزينة تذرف الدموع مثلنا خصوصاً عند وفاة حيوان من حيوانات القطيع . إن الذي لا يبكي هو كائن بلا عاطفة، فاقد للحس من تلافيفه الداخلية والخارجية، له عينان من حجر وقلب من قصب.
فلسفة الدموع
الدموع هي اللغة الأولى التي يجيدها الإنسان ويعلن بها عن حضوره للدنيا وهو خارج من أحشاء أمه، وهي اللغة التى يمارسها بدون معلم وتنتصر عليه حينما يعجز اللسان عن التعبير ، وهي اللغة العالمية والرسمية التى تتحدث بها جميع الشعوب ويطلق عليها في المجال الطبي أنها مرايات المخ والمشاعر؛ فالدموع حيلة المرأة وسلاح الضعيف وشفاعة التقى وألم العاشق وبلسم للجروح ومتنفس للألم وعودة للضمير ووسيلة للندم، والدموع وطن الغريب وشوق البعيد ووجع الغربة وراحة الضمير، ولذلك لو استطعتم البكاء فلا تترددوا أبداً ولا تقفوا حارساً بين الدموع وأعينكم.
واسمحوا لها أن تنساب كجداول المياه العذبة، لا تخفوها عن أعين الآخرين في لحظة الحزن ولا تعتقدوا أنها تضعفكم أمامهم، فهي المشاعر التى لا تخطئ في توقيتها أبداً.. فطوبى لمن بكت عيناه من خشية الله، وطوبى لمن بكت عيناه على مظلوم لم يستطع أن ينصره، وطوبى لمن بكت عيناه على مريض وقف عاجزاً أمام أوجاعه، فلم يقدر على تخفيف آلامه، وطوبى لمن بكت عيناه على ماضٍ لم يستطع إعادته ليصحح الكثير من أحداثه.
حين تبكي القلوب بصمت
الدموع ليست ضعفًا، بل شجاعة. ليست هروبًا، بل مواجهة. هي انعكاسٌ حيٌّ لإنسانيتنا، حين تعجز الكلمات عن التعبير، وتضيق الصدور بما فيها. الدموع هي صمت القلب حين يعجز اللسان عن البوح، لقد آن الأوان أن نعيد للدموع مكانتها، أن نرى فيها طهرًا وتنفيسًا، لا عيبًا أو هزيمة. ابكِ إن استطعت، فلعل بكاءك يشفي، ويحرر، ويضيء ظلمةً بداخلك لا يعلمها سواك. في زمنٍ يُخفي فيه الناس وجوههم وراء الأقنعة، كن أنت… بعين دامعة وقلبٍ لا يخجل من رقته.
لا تحبس دموعك… إنها قوتك
وفي الأخير
تستحق الدموع منا معاملة أفضل ، لأن هناك بالتأكيد من يسىء لها ولوظائفها ويشوه سمعتها، و هناك أيضا من يعتبرها اللغة الوحيدة التى يمكن أن يتعامل بها كل البشر، وهناك من لا يعرف أنها بلسم يشفى جروحا عاطفية، ويغسل بقايا الندم والشعور بالذنب أو الإثم، فيجدد طاقة الفرد على العطاء والتضحية والحب… والسؤال الآن هو : هل يأتي يوم تكون فيه النصيحة، لا تحبس دموعك واطلق عنانك للبكاء ولا تخجل، لقد ولت مقولة “الرجال لا يبكون”، وصار البكاء ميزة إنسانية بامتياز.