إن الإفتاء مقام عظيم، ومنصب خطير، حرصت الشريعة الإسلامية على العناية به، والتوجيه له، والتأصيل فيه، من حيث بيان شروطه، وآدابه، وقواعده التي يستنبط بها الحكم الشرعي، ذلك أن الإفتاء هو: بيان الحكم الشرعي للسائل والمستفتي، وهذا الحكم الشرعي إنما هو بمثابة توقيع عن الله تعالى، وعن رسوله محمد ﷺ، وأمانة يسأل عنها الفقيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
“وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} (ص: 86)، فكانت فتاويه ﷺ جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنهما ما وجد إليهما سبيلا، وقد أمر الله عباده بالرد إليهما حيث يقول : {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } (النساء: 59).
الآثار السلبية من الجرأة على الفتوى
وقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تنهى أشد النهي، عن القول على الله عز وجل دون علم، وجاءت أقاويل السلف الصالح متكاثرة ومتوافرة، في النهي عن التصدي للفتوى دون علم، والتجرؤ عليها، وكان الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح يتدافعون الفتوى، في روايات كثيرة محفوظة معروفة عنهم.
فقد حرم الله تعالى التساهل في أمر الفتوى، فلا يجوز أن يتولاها إلا عالم بكتاب الله، وسنة رسوله ﷺ، قال تعالى موجها ومخاطبا المستفتين والسائلين: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ( النحل:43 ).
يعني: اسألوا أهل العلم بالكتاب والسنة لا غيرهم.
كما قال تعالى مخاطبا المفتين وعامة المسلمين: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } ( النحل:116)
فسؤال أهل الذكر واجب، كما أرشدنا الله، فقال: (فاسألوا أهل الذكر) أي ارجعوا إلى أهل المعرفة والاختصاص، وأهل الخبرة بالشرع، وهذه قاعدة في الحياة كلها، كما أن الإنسان إذا مرض أو مرض ولده، يرجع إلى أهل الاختصاص في الطب، وكذلك في كل أمر من الأمور، يرجع للمختصين فيها، كذلك أمور الدين والشرع يرجع فيه إلى أهله.
ومن ثم قرر العلماء: أن من أفتى وليس بأهل للفتوى، فهو آثم عاص لله تعالى، وهو بمنزلة من يدل الركب والمسافر وليس له علم بالطريق؟! وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم.
فالفتوى لا تكون إلا من أهلها، وكان السلف رضوان الله عليهم ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى، ولم يتأهل لها، ويعتبرون ذلك ثلمة في الإسلام، ومنكرا عظيما يجب أن يمنع.
وإذا كان يتعين على ولي الأمر منع من لم يحسن الطب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين؟! ذلك أن التحليل والتحريم حق خالص لله تعالى ورسوله، وليس لأحد أن ينسب إلى الشريعة ما لم يأذن به الله تعالى، وأن من فعل ذلك فإن الله سائله ومحاسبه عليه، قال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } (الإسراء:36 ).
وقال ﷺ: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا”. رواه البخاري وغيره.
وهذا كله بكلمة من هذا المفتي، وبالتالي يترتب على الفتوى إما الهداية وإما الضلال.
ضوابط الفتوى للمفتي
يمكن حصر أهم ضوابط الفتوى فيما يلي:
الضابط الأول: أهلية المفتي: لأن الإفتاء إخبار عن حكم الله تعالى، والفتوى توقيع عن الله، فلا بد للمتصدر للفتوى أن تتحقق فيه الأهلية الشرعية، من حفظ القرآن الكريم، والعلم بالأحاديث النبوية، وأقوال السلف فمن بعدهم من العلماء وأئمة الدين.
الضابط الثاني: الاعتماد على الأدلة الشرعية في الفتوى: فأول ما يجب توافره في الفتوى لتكون محلا للاعتبار: اعتمادها على الأدلة الشرعية الصحيحة المعتبرة عند أهل العلم، وأول هذه الأدلة: كتاب الله تعالى، وثانيها: سنة رسول الله ﷺ، فلا يجوز للمفتي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتماد عليهما، كما لا يجوز مخالفتهما اعتمادا على غيرهما.
والأدلة على وجوب ذلك من كتاب الله تعالى كثيرة، منها قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } (الأحزاب: 36).
وقوله تعالى أيضا: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } (الحجرات: 1) أي: لا تقولوا حتى يقول الله ورسوله، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: “لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة”.
وثالث هذه الأدلة: الإجماع: وهو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسولﷺ على حكم شرعي في واقعة.
والإجماع حجة شرعية يجب اتباعها، ولا تجوز مخالفتها، والحكم الثابت بالإجماع، حكم شرعي قطعي، لا مجال لمخالفته ولا نسخه، وليس للمجتهدين في عصر تال أن يجعلوا هذه القضية موضع اجتهاد؛ فما بالك بمخالفته ببعض الأقوال، وآراء الرجال، والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله تعالى: { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } (النساء: 83).
وقوله سبحانه: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } (النساء: 115).
ورابع هذه الأدلة: القياس: وهو إلحاق واقعة لا نص على حكمها؛ بواقعة ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص؛ لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.
وهو حجة شرعية على الأحكام العملية عند جمهور الفقهاء، كما أنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو إجماع، وثبت أنها تساوي واقعة نص على حكمها في علة هذا الحكم، فإنها تقاس بها، ويحكم فيها بحكمها، ويكون هذا حكمها شرعا، ويسع المكلف اتباعه والعمل به.
والأدلة على حجية القياس كثيرة، منها: قول الله تعالى: { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ( النساء : 83 ).
فأمرهم أن يردوا ما أشكل عليهم إلى الرسول ﷺ، فإن لم يكن موجودا فإلى أولي الأمر منهم، وهم العلماء، وخص المجتهدين وهم أهل الاستنباط، وأول باب في الاستنباط وأعلاها هو: القياس.
وقال الإمام الشافعي: لا يجوز لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلاف العلماء، ولسان العرب.
ومنها: حديث عمر بن الخطاب: هششت فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمرا عظيما؛ قبلت وأنا صائم؟ قال: “أرأيت لو مضمضت من الماء، وأنت صائم” قلت: لا بأس به، قال: “فمه؟”. رواه أبو داود.
وقد اجتهد الصحابة في الوقائع التي لا يوجد فيها نص من القرآن والسنة، وقاسوا ما لا نص فيه على ما فيه نص، واعتبروا النظير بنظيره.
الضابط الثالث: التحلي بصفات الإفتاء: فبما أن وظيفة المفتي وظيفة جليلة، ومهمته عظيمة، كان لا بد أن تتوافر فيه الأهلية للقيام بهذه المهمة، ولا بد له أن يتحلى بمجموعة من الصفات، حتى يكون أهلا للقيام بعمله على أكمل وجه، فمن الصفات التي لا بد أن يتحلى بها من يتصدر للإفتاء، ما روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: “لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا، حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية؛ لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
والثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه، وعلى معرفته.
والرابعة: الكفاية، وإلا مقته الناس. والخامسة: معرفة الناس”. (انظر: إعلام الموقعين (4/199)).
الضابط الرابع: تعلق الفتوى بموضوع الاستفتاء بجميع جوانبه: فالفتوى إذا تعلقت بموضوع الاستفتاء بلغت بالمستفتي حاجته، وحصل منها على مراده، فإذا خرجت عن ذلك فإنها لا تسد له حاجة، ولا تحل له مشكلة، ولا تنقذه من معضلة، ولم يشرع الإفتاء إلا للإجابة على التساؤلات، وحل ما يعرض للإنسان من مشكلات.
ويجوز أن تكون الفتوى أشمل من موضوع الاستفتاء، بحيث يجيب السائل بأكثر مما سأل عنه لفائدة يرى أنها تفيد السائل؛ فقد سأل الصحابة رسول الله ﷺ عن ماء البحر، فقالوا له: “إنا نركب البحر، وليس معنا ما نتوضأ به، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال: “هو الطهور ماؤه، الحل ميتته”. أخرجه أحمد، وأصحاب السنن.
فقد أجابهم رسول الله ﷺ عن ميتة البحر، رغم أنهم لم يسألوا عنها؛ لما في ذلك من فائدة لهم في هذا البيان.
وقد بوب البخاري لذلك في صحيحه، فقال: “باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه” ثم ساق من الحديث ما يدل على ذلك.
كما يجوز العدول عن موضوع الاستفتاء إلى موضوع آخر، يكون أنفع للسائل مما سأل عنه، أو يكون موضوع الاستفتاء لا يترتب عليه عمل، أو لكون السائل لا علم له، يدل على ذلك قول الله تعالى: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} (البقرة: 189).
فقد سألوه عن سبب ظهور الهلال خفيا، ثم لا يزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان، فأجابهم عن الحكمة من ذلك: هو ظهور مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم، ومواقيت أكبر عبادتهم وهو الحج.
كما يجوز العدول عن موضوع السؤال أو الإمساك عن الجواب؛ إذا ترتب على الجواب فتنة للسائل؛ فقد قال ابن عباس رضي الله عنه لرجل سأله عن تفسير آية: وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها؛ كفرت به. أي: أنكرت هذا الحكم.
الضابط الخامس: تيسير الفتوى: فقد فطر الله سبحانه وتعالى الإنسان على حب التيسير والسعة، وكراهة العسر والحرج، ولا شك أن من خصائص الشريعة الإسلامية السماحة واليسر، ورفع الحرج؛ والأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع.
ومن يتتبع أحكام الشريعة يجد ذلك واضحا جليا، ومن ذلك: قوله تعالى: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } (المائدة: 6 )، وقوله تعالى في آية الصيام: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: 185).
ومن ذلك قول النبي ﷺ: “يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا”. أخرجه البخاري ومسلم.
والتيسير مأخوذ من اليسر الذي هو بمعنى السهولة، والتيسير: التسهيل والتوسعة والتخفيف، والبعد عن التصعيب والتضييق والإحراج والإعنات الذي هو مضمون كلمة التعسير.
الضابط السادس: سلامة الفتوى من الغموض: لما كان مقصود الفتوى بيان الحكم الشرعي، وتحمل في طياتها تبليغه للسائل، وجب تقديمها بأسلوب مبين، وكلام واضح قويم؛ فقد أمر الله تعالى نبيه الكريم بالبلاغ المبين، فقال سبحانه: { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } (النور: 54 )
ومن وضوح الفتوى خلوها من المصطلحات التي يتعذر على المستفتي فهمها، وسلامتها من التردد في حسم القضية المسؤول عنها.
تقييد وتوحيد الفتوى
أقدم ما يعرف من وجود لفكرة توحيد القول والفتوى، ما يذكر في كتب التاريخ: أن الخليفة هارون الرشيد استشار الإمام مالكا في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فقال له: أما تعليق الموطأ، فإن الصحابة اختلفوا في الفروع وتفرقوا، وكل عند نفسه مصيب. وقال: لا تفعل فإن الناس وما هم عليه.
قال الشوكاني: التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم؛ وحدوث التمذهب بمذهب الأئمة الأربعة، إنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة. انتهى
ونجد هذا متمثلا في قول من أوجب التزام أحد المذاهب الأربعة، حتى لما أراد بعض أهل اليابان عام 1357ه الدخول في الإسلام قال لهم جمع من أهل الهند: ينبغي أن يختاروا مذهب أبي حنيفة، وقال جمع من أهل أندونيسيا: يلزم أن يكون مذهبهم شافعيا، فكان ذلك مانعا من إسلامهم.
– ولتبيين الحكم الشرعي لتوحيد الفتوى؛ نحتاج لذكر ثلاثة إجماعات، لمعرفة الحكم، وهذه الإجماعات هي:
1- إجماع المسلمين على أن من استبان له وجه الحق؛ فعليه أن يفتي به ولا يخالفه.
قال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ؛ فليس له أن يدعها لقول أحد سواه. وقد نقل غير واحد الإجماع عليه؛ فليس لأحد أن يفتي بغير ما يعتقده صوابا.
2- الإجماع على أنه لا تثريب على من قال بقول؛ قد سبق إليه في مسألة خلافية.
قال الخطيب البغدادي: “إذا اختلف الصحابة في مسألة على قولين، وانقرض العصر عليه، لم يجز للتابعين أن يتفقوا على أحد القولين؛ فإن فعلوا: لم يزل خلاف الصحابة، والدليل عليه: أن الصحابة أجمعت على جواز الأخذ بكل واحد من القولين، فإذا صار التابعون إلى القول بتحريم أحدهما، لم يجز ذلك، وكان خرقا للإجماع، وهذا بمثابة ما لو اختلفت الصحابة في مسألة على قولين، وانقرض العصر عليه، فإنه لا يجوز للتابعين إحداث قول ثالث، لأن اختلافهم على قولين إجماع على إبطال كل قول سواهما، كما أن إجماعهم على قول إجماع على إبطال كل قول سواه”. “الفقيه والمتفقه” .
– وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع؛ لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام، ولا على نائبه، من حاكم وغيره”. (مجموع الفتاوى (30/80،79)).
– وسئل رحمه الله: “عمن ولي أمرا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان؛ فهل يجوز له منع الناس؟ فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، ولهذا فإن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم بالحجج العلمية؛ فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه”.
صفات القائم بالإفتاء
وقد اشترط الأصوليون لتحقق هذه الأهلية شروطا معينة، وصفات محددة، نجملها فيما يلي: “أن يكون مكلفا، مسلما، ثقة، مأمونا، متنزها عن أسباب الفسق ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك؛ فقوله غير صالح للاعتماد، حتى وإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون مع ذلك متيقظا، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط”.
وقد سئل ابن المبارك فقيل له: “متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر، بصيرا بالرأي”، ونحوه عن يحيى بن أكثم.
وقد أجمل الإمام أحمد بن حنبل صفات من يفتي بقوله: “لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية؛ فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. والثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته. والرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس. والخامسة: معرفة الناس”. انظر: إعلام الموقعين (4/199).
ضبط الفوضى في مسألة الإفتاء
أولا: لا بد من الحجر على المفتي الجاهل والماجن: وهذا مقرر عند أهل العلم، وهو من واجبات الراعي وحقوق رعيته عليه؛ وذلك لأنه يحرم على المفتي الإفتاء فيما لا يعلم؛ لقوله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ( الأعراف: 33 ).
وقد كان الخلفاء يمنعون من لم يتأهل من الإفتاء؛ فروى إبراهيم بن عمر بن كيسان قال: أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج مناديا يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن عطاء؛ فعبد الله ابن أبي نجيح.
وقال ابن القيم: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمر على ذلك فهو آثم أيضا.
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى؛ فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
وقد ذكر الفقهاء تطبيقا لقاعدة: “دفع الضرر الأعلى بالأدنى” الحجر على المتطبب الجاهل، والمفتي الماجن- الذي لا يبالي بما صنع، أو يعلم الناس الحيل الباطلة، ولا يبالي بتحريم الحلال وتحليل الحرام؛ فهذا ضرره متعد إلى العامة.