لما كان التوحيد أساس الكون والوجود، وحوله بقاء الدنيا، لأن بحمد الله يسبح كل ما في الكون ويخضع، ويمجده ويعظمه ملكوت السماوات والأرض،  يقول الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ‌وَإِنْ ‌مِنْ ‌شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } (الإسراء: 44)، وبالتوحيد الخالص نيط الرجوع في النهاية، وعليه يفصل بين الخلائق يوم الآخرة، كان أوجب الأمور وأعظمها معرفة وعقيدة وعملا، فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوحيد في مقام الاستغفار لنفسه وللمؤمنين من أمته  يقول الله تعالى: {‌فَاعْلَمْ ‌أَنَّهُ ‌لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: 19)، وأتى ذكر طلب العلم في هذا المقام للتنبيه على طلب الدوام على المعلوم وهو التوحيد، والعمل بمقتضاه. واستعمل القرآن الكريم أساليب بديعة ومقنعة في الحديث عن التوحيد وتقرير معانيه وأصوله ومقاصده.  

فقد جاءت أساليب القرآن في هذا الباب على غاية التفنن والإبداع، تلطفًا في استدعاء الناس إلى التوحيد، وتأليفًا لقلوبهم، ولفتًا لأسماعهم وأبصارهم، وإقامة للحجة عليهم بكل الأساليب، ومن ذلك(1):

1 – أسلوب الخبر المجرد بيانًا للحق وإعلامًا للخلق، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) وكما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (البقرة: 163).

2 – أسلوب الخبر المؤكد، والمؤكدات التي جاء بها القرآن الكريم في شأن الوحدانية والتوحيد كثيرة ومتنوعة؛ ومنها:

أولًا: التأكيد بإن.

ثانيًا: التأكيد باللام

ثالثًا: التأكيد بالقسم.

ومثالها جميعًا قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * الزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * التَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} (الصافات: 1 – 5).

رابعًا: التأكيد بأساليب القصر، كأسلوب النفي والاستثناء في قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (طه: 14). وأسلوب القصر بإنما: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 19).

وأسلوب القصر بالتقديم والتأخير. مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) فتقديم المفعول إياك أفاد قصر العبادة على الله وحده، وأصل الجملة: نعبدك.

وكذلك أيضًا أسلوب القصر بتعريف طرفي الجملة: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (الشورى: 10) فتعريف الخبر ربي أفاد أنه مقصور على المبتدأ، أي: الربوبية مقصورة على الله تعالى.

3- أسلوب الطلب كالاستفهام التقريري أو الإنكاري. قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل: 63).

ومن هذا النوع الطلبي فعل الأمر. مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) فإن نظرت إلى أول الجملة كانت إنشائية طلبية لصدارة فعل الأمر قل، وإن نظرت إلى مضمون الجملة أو مقول القول كانت خبرية، وفي الحالين هي إثبات للوحدانية، وأمر بالتوحيد على أبلغ الوجوه وأوفاها. ولذلك كانت السورة المُصدَّرة بهذه الآية الكريمة تعدل ثلث القرآن، كما جاء في الحديث الصحيح.

4 – أسلوب الأمثال، وهو باب واسع في القرآن الكريم، يقصد به تقرير المعاني في نفس السامع، وتصويرها في صورة محسوسة ملموسة، عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو غيرهما من أساليب البيان

ومن ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:41 – 43).

فقد ضرب الله تعالى مثلًا للذين يستنصرون بآلهة غير الله، صورهم فيه بأنهم يستنصرون بأضعف شيء، وكأنهم العنكبوت في بيتها الهش الذي تمزقه الريح، وتقتحمه الحشرات، ويعبث به الصبيان، فلا يغني عن أهله شيئًا.

وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29) فهذان مثلان للمشرك في تخبطه وحيرته، وللموحد في راحته وسلامته، ولا يستويان أبدًا، كما لا يستوي عبد مملوك يسومه سادته لسوء أخلاقهم سوء العذاب، وعبد مملوك لمالك واحد لطيف لا يشق عليه بكثرة الأوامر، واختلاف المذاهب والمشارب.

5 – أسلوب المحاورة، وهو الذي يورد فيه الحديث عن التوحيد، من خلال حوار يجري بين طرفين أو أكثر، فيتقرر في النفس أكثر من الخبر المجرد. قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مريم: 42).

فالآيات الكريمة لم تأت على طريق الخبر المجرد، وإنما جاءت على سبيل المناقشة بين طرفين، وهي تورد حوارًا بين إبراهيم -عليه السلام- وبين أبيه المشرك، فيسأل إبراهيم أباه: لِم تعبد آلهة صماء عمياء لا تغني عنك شيئًا؟! هو سؤال يبين حقيقة هذه الآلهة الباطلة، ويتضمن صفات الله وحده بالعبادة، فهو السميع البصير الغني المغني عز وجل

6 – أسلوب القصة، وهو أسلوب من أوسع أساليب القرآن في التوحيد وغيره، وقد عُني القرآن بهذا الأسلوب وأكثرَ منه؛ لما في القصة من تأثير في النفوس، وسهولة في الحفظ، وانتشار وذيوع بين الناس.

وأوضح مثال لذلك قصة إبراهيم -عليه السلام- مع قومه وأصنامهم وتحطيمه لها، وتقريره للتوحيد من خلال المشاهد المتتابعة، التي جرت بينه وبين قومه، كما قصَّ الله علينا ذلك في عديد من سور القرآن، كالشعراء والصافات والأنبياء، ومنها أنه بعد أن حطم الأصنام سألوه عليه السلام، فسخر منهم وأحالهم إلى الأصنام، فرجعوا إلى أنفسهم يتلاومون.

ثم كان ما قصه القرآن الكريم: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: 65 – 67).

وفي هذا تقرير للتوحيد بأبلغ أسلوب وأقواه، ونفي للشرك على أتم وجه وأوفاه، فضلًا عما فيه من تحقير للأصنام، وسخرية بالغة بعُبّادها الذين ألغوا عقولهم، وخروا عليها صمًّا وعميانًا.


(1) استخلصنا هذه الفوائد حول أساليب القرآن في تقرير معنى التوحيد من كتاب التفسير الموضوعي، مناهج جامعة المدينة العالمية ماليزيا في التفسير.