ابتلى الله بعض أنبيائه بإعاقات مختلفة، لم تكن عائقًا لهم عن تبليغ الرسالة، وكانت تسرية للبشر؛ إذ إن عموم الناس ليسوا مختصين بصنوف الإعاقات، بل يشترك معهم أفضل الخلق -عليهم السلام.

وبتتبعنا للقرآن الكريم وقفنا على بعض النماذج من الأنبياء والمرسلين الذين ابتلاهم الله بإعاقات لهم تكن قادحة في النبوة والرسالة.

وهذه الإعاقات قد تكون عارضة، وقد تكون دائمة.

نبي الله يعقوب 

فنبي الله يعقوب  كفّ بصره، وهو كريم ابن كريم ابن كريم([1])، فلم يكن عماه قادحًا في نبوته، أو كرامته على الله.

فقال الله -تعالى- عنه: ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [يوسف: 84].

قال القرطبي: “قيل: لم يبصر بهما ست سنين، وأنه عمي.

وقيل: قد تبيض العين ويبقى شيء من الرؤية، والله أعلم بحال يعقوب.

وإنما ابيضت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن، فلهذا قال: ﴿مِنَ الْحُزْنِ﴾”([2]).

وقد علل الطاهر ابن عاشور حزن نبي الله يعقوب الشديد على ولده بقوله: “عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الْحُزْنِ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ فَلا يُسْتَغْرَبُ صدوره من نبيّ.

أَوْ أَنَّ التَّصَبُّرَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّةِ الشَّرِيعَةِ الإِسْرَائِيلِيَّةِ، بَلْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِمْ إِظْهَارُ الْحُزْنِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ.

وَقَدْ حَكَتِ التَّوْرَاةُ بُكَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُوسَى عليه السلام أَرْبَعِينَ يَوْمًا.

وَحَكَتْ تَمْزِيقَ بَعْضِ الأَنْبِيَاءِ ثِيَابَهُمْ مِنَ الْجَزَعِ.

وَإِنَّمَا التَّصَبُّرُ فِي الْمُصِيبَةِ كَمَالٌ بَلَغَتْ إِلَيْهِ الشَّرِيعَةُ الإِسْلامِيَّةُ”([3]).

ثم امتنّ الله عليه بأن ردّ عليه بصره؛ لكي تكتحل عيناه برؤية ابنه الذي افتقده سنين طويلة، ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 96].

وهنا بعض النكت العلمية ساقها الآلوسي عن عمى يعقوب عليه السلام فقال: “قال بعض العارفين: الحكمة في ذهاب بصر يعقوب وبقاء بصر آدم وداود -عليهما السلام- مع أنهما بكيا دهرًا طويلاً، أن بكاء يعقوب كان بكاء حزن معجون بألم الفراق؛ حيث تجلى جمال الحق من مرآة وجه يوسف ولا كذلك بكاء آدم وداود؛ فإنه كان بكاء الندم والتوبة، وأين ذلك المقام من مقام العشق؟

وقال أبو سعيد القرشي: إنما لم يذهب بصرهما؛ لأن بكاءهما كان من خوف الله -تعالى- فحفظا، وبكاء يعقوب كان لفقد لذة فعوتب.

وقيل: يمكن أن يكون ذهاب بصره من غيرة الله -تعالى- عليه حين بكى لغيره، وإن كان واسطة بينه وبينه”([4]).

نبي الله أيوب 

وقد ابتلي نبي الله أيوب ابتلاء عظيمًا في جسده، وقد لجأ إلى ربه بعد طول صبر ضُرب به المثل، ولم يزد على قوله: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾، وسجل ربنا ذلك في سورة الأنبياء فقال: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83].

يقول ابن كثير: “يذكر -تعالى- عن أيوب ما كان أصابه من البلاء في: ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثيرة، ومنازل مرضية.

فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره.

ثم ابتلي في جسده -يقال: بالجذام في سائر بدنه، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما الله، حتى عافه الجليس، وأفردَ في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت تقوم بأمره، ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله.

وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك”([5]).

ولما كان هذا صبره أمطر الله عليه جرادًا من ذهب مكافأة عاجلة على صبره، فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذه بيده ويجعله في ثوبه.

فقيل له: يا أيوب أما تشبع؟

قال: ومن يشبع من رحمتك؟([6]).

نبي الله موسى عليه السلام

وقد كان نبي الله موسى عنده مشكلة في الكلام؛ حيث كانت عنده عقدة في اللسان، والسبب حكاه السُّدِّي، ورواه عنه الطبري فقال: “لما تحرّك الغلام -يعني: موسى- أُرَتْه أمُّه آسية صبيًّا، فبينما هي ترقصه وتلعب به، إذ ناولته فرعون، وقالت: خذه.

فلما أخذه إليه أخذ موسى بلحيته فنتفها، فقال فرعون: عليّ بالذباحين.

قالت آسية: ﴿لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ [القصص: 9] إنما هو صبيّ لا يعقل، وإنما صنع هذا من صباه، وقد علمتَ أنه ليس في أهل مصر أحلى مني، أنا أضع له حليًّا من الياقوت، وأضع له جمرًا، فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه، وإن أخذ الجمر فإنه هو صبيّ.

فأخرجت له ياقوتها ووضعت له طستًا من جمر، فجاء جبرائيل، فطرح في يده جمرة، فطرحها موسى في فيه، فأحرقت لسانه”([7]).

لذلك عندما خوطب بالرسالة ناجى ربه قائلاً: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي﴾ [طه: 25-29]

فقيل: “فزالت عن موسى من أجل ذلك.

وقوله: ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ يقول: يفقهوا عني ما أخاطبهم وأراجعهم به من الكلام”([8]).

“قال ابن عباس: شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءًا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه”([9]).

وفي موضع آخر من القرآن يذكر ربنا هذه العقدة في اللسان، وطلب نبي الله موسى من ربه أن يشرِك معه أخاه هارون في تبليغ الرسالة؛ لفصاحة أخيه عنه، فقال: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ [القصص: 34-35].

قال ابن كثير: “كان في لسانه لثغة، بسبب ما كان تناول تلك الجمرة، حين خُيّر بينها وبين التمرة أو الدرّة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه، فحصل فيه شدة في التعبير”([10]).

ويبدو أن هذه القضية كانت مؤرقة لنبي الله موسى؛ حيث ورد الحديث عنها في أماكن مختلفة بألفاظ مختلفة، وقد حكى موسى تخوفه لربه فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ [الشعراء: 12-14].

وقد قيل: “إن خوفه ليس من مجرد التكذيب، ولكن من حصوله في وقت يضيق فيه صدره ولا ينطلق لسانه فلا يملك أن يبين، وأن يناقش هذا التكذيب ويفنده؛ إذ كانت بلسانه حبسة، ومن شأن هذه الحبسة أن تنشئ حالة من ضيق الصدر، تنشأ من عدم القدرة على تصريف الانفعال بالكلام، وتزداد كلما زاد الانفعال، فيزداد الصدر ضيقًا.. وهكذا.. وهي حالة معروفة.

فمن هنا خشي موسى أن تقع له هذه الحالة وهو في موقف المواجهة بالرسالة لظالم جبار كفرعون، فشكا إلى ربه ضعفه، وما يخشاه على تبليغ رسالته، وطلب إليه أن يوحي إلى هارون أخيه، ويشركه معه في الرسالة اتقاء للتقصير في أداء التكليف، لا نكوصًا ولا اعتذارًا عن التكليف، فهارون أفصح لسانًا، ومن ثم هو أهدأ انفعالاً؛ فإذا أدركت موسى حبسة أو ضيق نهض هارون بالجدل والمحاجة والبيان.

ولقد دعا موسى ربه كما ورد في سورة طه ليحل هذه العقدة من لسانه، ولكنه زيادة في الاحتياط للنهوض بالتكليف طلب معه أخاه هارون وزيرًا ومعينًا…”([11]).

وكان فرعون يعير نبي الله موسى بهذا العيب، وكان يشنّع عليه بها أمام الناس، قال ربنا -جلّ جلاله: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ [الزخرف: 51-53].

وقد ذكر القرطبي اختلاف العلماء في موضوع العقدة واللثغة هل زالت بدعائه ربه أم لا فقال: “اختلف هل زالت تلك الرتّة؟

فقيل: زالت بدليل قوله: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ [طه: 36].

وقيل: لم تزل كلها، بدليل قوله حكاية عن فرعون: ﴿وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: 52].

ولأنه لم يقل: احلل كل لساني، فدل على أنه بقي في لسانه شيء من الاستمساك.

وقيل: زالت بالكلية بدليل قوله: ﴿أُوتِيتَ سُؤْلَكَ﴾، وإنما قال فرعون: ﴿وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾؛ لأنه عرف منه تلك العقدة في التربية، وما ثبت عنده أن الآفة زالت.

قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنه لو كان ذلك لما قال فرعون: ﴿وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾ حين كلمه موسى بلسان ذلق فصيح.

والله أعلم.

وقيل: إن تلك العقدة حدثت بلسانه عند مناجاة ربه، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه”([12]).


([1]) أخرج البخاري في “أحاديث الأنبياء”، باب: “﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾”، ح(3382) عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ r أَنَّهُ قَالَ: “الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ“.

([2]) تفسير القرطبي، (9/248).

([3]) التحرير والتنوير، (13/43).

([4]) روح المعاني، (13/80).

([5]) تفسير القرآن العظيم، (5/360) باختصار.

([6]) أخرجه الحاكم في “المستدرك”، (2/636)، وقال: “هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه”، ووافقه الذهبي.

([7]) تفسير الطبري، (18/300).

([8]) السابق، نفس الصفحة.

([9]) تفسير ابن كثير، (5/282).

([10]) السابق، (6/236).

([11]) في ظلال القرآن، (5/2589).

([12]) تفسير القرطبي، (11/193).