سلمت الأمة زمام قيادتها للفقهاء دون غيرهم من علماء الشريعة، وذلك لعظم مكانة الفقيه في نفوس الأمة، فهو كاشف الأحكام الشرعية في قضايا المسلمين في جميع شؤونهم، وهو حافظ بوصلة الإسلام في المجتمع، وهو مرجع المسلمين حكاما ومحكومين فيما يجد لهم من قضايا ونوازل، وهو قارئ سنن الله في الكون والحياة، وهو المصلح الاجتماعي في المنازعات والاختلافات، وهو أحد أعمدة بناء التنمية والحضارة في المجتمع، وهو الخادم لدين الله الذي لا يسعى إلى منصب، ولا ينازع سلطة، ولا ينظر إلى دنيا، فكل الناس في حاجة إليه، وهو مستغن بالله عن الخلق أجمعين، وهذا المنهج الذي استقر في عالم الفقهاء هو الذي أعطى الفقيه مكانته في الأمة عبر قرون من الزمن، ومازال الفقيه مرشحا لأن يقود الأمة إذا قام بتلك الوظائف، وحافظ على تلك الأدوار، وساهم في بناء الحضارة، وكان حاميا للأمة من الانحراف عن العقيدة والشريعة.
ورغم مئات النجاحات التي قام بها الفقهاء في قيادة الأمة منذ البواكير، إلا أن الفقهاء مثلهم مثل غيرهم من طبقات المجتمع، يعتريهم ما يعتري غيرهم من الخطوب والطمع وحب الدنيا والرئاسة والسعي نحو الشهرة والمال، وتلك ظواهر إنسانية سلبية، لا يخلو منها مجتمع، ولهذا وجدنا – قديما وحديثا- من يحرف من الفقهاء عن جادة الصواب لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، أو غيرهما من عوار الحياة، ومازال الأمر يتكرر ونحن نراه أمام أعيننا اليوم.
ولهذا كان من الواجب على الناس والمجتمع أن يتعاملوا مع مجتمع الفقهاء على أنه مجتمع بشري، لا مجتمع ملائكي، فالصواب والخطأ حق على كل إنسان، كما ورد في الحديث:” كل بني آدم خطاء”، مع اعتبار أن خطأ الفقهاء في حق أمتهم أعظم جرما من غيرهم، لأنه من الواجب أن يمثل الفقهاء قادة المجتمع نحو الفضيلة والحق.
والمتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية منذ بواكيرها ليلحظ أن من الفقهاء هم من قاد الأمة ، فقد كان كبار الصحابة الذين قادوا الأمة سياسيا واجتماعيا من الفقهاء، أمثال أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وطلحة والزبير، وغيرهم من فقهاء الصحابة، وفي مجتمع الصحابة برز من النساء الفقيهات، وعلى رأسهن عائشة – رضي الله عنها- فقيهة الأمة، ولهذا وجدنا لها أدوارا كبيرة في الإصلاح، وذلك انطلاقا من كونها فقيهة تدرك أدوار الفقيه في المجتمع، بل امتازت عائشة بحصافتها وذكائها واجتهادها، حتى إنها انفردت عن جمهور الصحابة ببعض الاجتهادات الفقهية الخاصة بها، خالفت جمهور الصحابة فيها، ورأت لنفسها رأيا مغايرا عنهم.
ولعل من أهم أدوارها محاولة الإصلاح بين فريقي علي ومعاوية – رضي الله عن الجميع- واجتهدت في خروجها من بيتها وهي المأمورة ألا تخرج بنص القرآن، ورأت أن مصلحة خروجها أعظم من التزامها بيتها، من باب تقديم المصلحة الأعظم على المصلحة الأقل.
وكان الشأن كذلك في زمن التابعين وتابعي التابعين، حتى ظهرت المذاهب الفقهية بتنوعها، وقاد أئمة المذاهب المجتمعات الإسلامية، وسلموا لتلامذتهم زمام قيادة المجتمع من بعدهم، بل إن أشهر المحدثين من علماء المسلمين كانوا في الوقت ذاته فقهاء، فالبخاري بلغ رتبة الاجتهاد المطلق – كما يرى علماء ذلك الرأي-، وأسس مذهبا خاصا به، كان يعرف بمذهب البخاريين، وأبو داود كان من كبار الفقهاء، وكتابه السنن مزيج بين الحديث والفقه، بل لعظم الفقه نشأت مدرسة جمعت بين الفقهاء والحديث، يمكن أن نسميها ( مدرسة الفقهاء المحدثين)، من أمثال الإمام أحمد، والبخاري وأبي داود وابن حجر والشوكاني والصنعاني وغيرهم عشرات على مر تاريخ الإسلام، وهذا يعني عناية الأمة بالفقه وإدراكها مكانة الفقه والفقهاء في قيادة المجتمع.
وقد كان الفقهاء يقومون بأدوار متعددة في المجتمع، فهم أئمة الناس في المساجد، وواعظيهم بالحكم والمواعظ، وهم خطباء الجمعة، وهم القائمون بتدريس علوم الشريعة، وهم الذين يفتون الناس في مسائلهم، والمجتهدون في النوازل والقضايا المستجدة، وهم المصلحون بين الأزواج والزوجات، وهم من يقومون بالإصلاح الاجتماعي بين الناس، وهم من يقضون في الخصومات خارج دائرة القضاء، وهم من يقومون بدور التربية والتزكية، وهم كذلك من يقومون بالنصح لكل المجتمع وعلى رأسهم الحكام دون أن ينازعوا الحكام في حكمهم، بل كان كل غرضهم استقامة الحكام على أمر الله تعالى، ولهذا تبوأ الفقهاء مكانة كبرى عند حكام المسلمين، بل التاريخ يشهد أن الحكام كانوا يسعون لتقريب الفقهاء منهم، وكان غالب الفقهاء ينأى بنفسه أن يكون قريبا من الحكام، حفاظا على استقلاليته، وأن يكون عنده فسحة في أداء أدواره في المجتمع، وخوفا على نفسه من الشهرة والسلطة، وإن لم يعدم أن نجد بعض الفقهاء استطاعوا أن يقوموا بدور المستشارين للحكام، ونجحوا في إيجاد نموذج يجمع بين استقلال الفقيه ومشورته ونصحه للحكام، وهو نموذج فريد بحاجة إلى دراسة التجارب فيه، ومعرفة تفاصيل ومعالم المنهج الذي سلكه الفقهاء في نصح الحكام وتقديم الاستشارة لهم على مر التاريخ.
إننا اليوم في أمس الحاجة إلى إحياء دور الفقيه في المجتمع المسلم وإعادة دور القيادة الاجتماعية من قبل الفقهاء ، وليس مثلي وحده ولا لأي أحد أن يبين تلك الأدوار قاطبة، وإنما الأمر يحتاج إلى دراسات معمقة، وناقشات جادة وحوارات صادقة من فقهاء اليوم، وأن نجمع شتات تلك الأفكار لنخرج برؤية موحدة وميثاق شرف ليمكن للفقهاء الاستفادة منه، كل حسب دوره وقدرته، ولا بأس بتعدد المدراس والاتجاهات في ذلك الصدد، فالمهم هو التفكير في إحياء دور الفقيه في المجتمع.
ومن الأفكار التي يمكن أن تسهم في ذلك، ولو بشيء قليل، ما يلي:
قراءة تاريخ الفقهاء الاجتماعي: فصلة الأمة بالفقهاء غالبا ما تنحصر في الاطلاع على مصنفاتهم الفقهية، وتدريسها لطلاب العلم، لكن – حسب اطلاعي الضعيف- فإن العناية بالتاريخ الاجتماعي للفقهاء قليل بل نادر، وربما كان من الجيد توجيه طلاب الدراسات العليا إلى دراسة الأدوار الاجتماعية للفقهاء، وألا تنحصر الدراسات حول المنهج الفقهي أو الاختيارات الفقهية لفقيه أو لمدرسة، فعطاء الفقهاء أكبر وأشمل من أن ينحصر في بيان الأحكام الفقهية.
دراسة الأدوار القيادية والاجتماعية والاقتصادية للفقهاء: وذلك يكشف تلك الأدوار للفقهاء في قيادة المجتمع، ولا نعني بهذا أن يدخل الفقهاء أنوفهم في كل مجالات الحياة، بل هي محاولة لقراءة تجارب تاريخية حصلت للفقهاء في عصورهم ومجتمعاتهم، وكيف تعامل الفقهاء سلبا وإيجابا مع تلك القضايا المجتمعية.
إحياء منهج التكامل في تكوين الفقهاء: فقد كان فقهاء الأمس يجمعون بين الشريعة والحقيقة، ولما دعا الناس إلى فصل الفقه عند الدعوة، وفصل الفقه عن التربية والتزكية بدعوى التخصص؛ أصاب الأمة ضرر كبير في فقهائها، فنحن بحاجة إلى إحياء ( الفقيه الرباني).
إحياء الفقيه الحضاري: ذلك أن حضارة الإسلام لا يمكن أن تقوم في معزل عن الفقيه، ولكن هل فقهاء اليوم عندهم القدرة على الإسهام في الإنجاز الحضاري؟ وأن يقودوا المجتمع نحو قضايا التنمية والبناء والاستدامة، وأن يساهموا في تلك القضايا العالمية التي أضحت ضرورة ملحة؟ أما مازال الفقيه واقفا عند مسائل العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها، دون النظر إلى الأبعاد الكبرى في قيادة الأمة نحو حضارة إسلامية أصيلة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، مستفيدة من مناهج السابقين، مستصحبة أحوال الواقع بكل تقعيداته وتفاصيله اليوم.
إحياء ملكة الاجتهاد الفقهي: فرغم المدارس الفقهية المتعددة، ومئات المدارس والجامعات التي تعنى بتدريس علوم الشريعة وتخريج المتخصصين في الفقه، ورغم المئات من دكاترة الفقه والشريعة، فمازالت ملكة الاجتهاد ضعيفة في غالب الأحوال، وأن منهج الجمع بين التراث الفقهي بعظمته، ومعرفة الواقع بتفاصيله، والقدرة على تقديم اجتهاد يتشبع بروح النص، ويلبي احتياج الواقع، ويقوم بدور الإصلاح في المجتمع، مازال ضعيفا إن لم يكن في الغالب معدوما.
إحياء المدارس الفقهية بشكل معاصر: فمازال النبوغ الفقهي ينبع من آحاد الفقهاء، ولا يعود إلى المؤسسات الفقهية أو التعليمية، وإن أعظم ما قدمه الفقهاء قديما في ذلك المجال هو (المدارس الفقهية) التي يتولد عنها عشرات الفقهاء عبر العصور، وإننا اليوم بحاجة إلى إحيائها، لكن ليس استجرارا لتجربة الفقهاء قديما بشكلها وهيئتها وكتبها وكل تفاصيلها، بل نحن بحاجة إلى مدرسة فقهية معاصرة، تلبي احتياج المجتمعات الإسلامية اليوم.
تلك خواطر عابرة جالت في خاطري حول دور الفقيه في المجتمع المسلم، أردت تسجيلها، مشاركة لأساتذتي وإخواني وطلاب العلم والمهتمين بدور الفقهاء في المجتمع، عسى أن يكون فيها نفع، أو تقود إلى ما هو أنفع.