في رحلة الصعود إلى تكوين المجتمع وإمداده بكل ما يلزم لتكوين نسيج اجتماعي مترابط، وقادر على صياغة نموذجه الحضاري؛ تبدو الأسرة وحدة نهوض للمجتمع والحضارة ، وشرطًا ضروريًّا لذلك؛ مادمنا نفهم الحضارة بصفتها بناءً معنويًّا وماديًّا معًا، أو تكوينًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا وعمرانيًّا ومدنيًّا بلا انفكاك، فالمجتمع في سعيه لبناء نموذجه الحضاري لا يتحرك كأفراد، وإنما يتحرك كوحدات؛ سواء أكانت هذه الوحدات إنسانية أم حقوقية أم اقتصادية أم سياسية.

فمثلاً، على المستوى الإنساني يظل الفرد مجرد فرد، جهده محدود وتأثيره قليل.. لكن لو استطاع هذا الفرد تكوين أسرة، ثم الأسرة تمتد وتتفرع إلى عائلة، والعائلة تتشابك مع عائلات.. فإننا نكون بإزاء نسيج اجتماعي متواصل، ونكون أمام “مجتمع” وليس مجرد “مجموعة أفراد”.

وقل مثل ذلك على أي مستوى آخر من مستويات الحياة؛ فـ”المال الفردي” يظل محدود الفائدة والتأثير، لكن لو تحول إلى “مال اجتماعي”، أي دخل في شبكة الإنتاج والتبادل؛ فإنه فائدته تعم، وتأثيره يقوى.. وينتقل المال من مجرد “ثروة” إلى “رأس مال”، كما أشار مالك بن نبي (شروط النهضة، ص: 110).

وأيضًا نلاحظ الشيء ذاته، على المستوى السياسي. فرأيُ الفرد رغم أهميته يكون عاجزًا عن التأثير في مجريات الأحداث؛ أما إذا انضم الرأي إلى نظيره، والصوت إلى مثيله؛ فيتكوَّن رأي عام يمكنه ترك الأثر فيما يتصل بالقضايا والتوجهات.

الأسرة هي الوحدة الأساسية

نعود فنقول: المجتمع لا يتحرك في بناء ذاته وتحقيق طموحاته، كأفراد؛ وإنما كوحدات. و”الأسرة” هي “الوحدة الأساسية” التي يتكون منها المجتمع. ولهذا علينا أن ننظر للأسرة ليس فقط باعتبارها توفِّر للإنسان قدرًا من احتياجاته؛ وإنما بوصفها وحدة أساسية للمجتمع، وشرطًا ضروريًّا لبنائه النفسي والعمراني.

الأسرة تلبي للإنسان حاجاته وتحفظه من الحرمان والتشرد وهو صغير.. ثم هي ترعاه وتُكسبه الخبرات شابًا.. ثم هو يمارس القيادة من خلاها رجلاً. كما أن الأسرة تُشبع حاجات الإنسان النفسية، وتحفظه من التشتت والانحراف.

وعلينا أن ننظر إلى المجتمعات التي تحللت من رابطة الأسرة.. لندرك كيف تنتشر فيها المفاهيم والسلوكيات الشاذة المضادة للفطرة السوية، والمخالفة لأوامر الله تعالى!! لقد أقام الله سبحانه الكون على “سُنة الزوجية”، لكن هؤلاء يريدون أن يقيموه على “الفردانية”!!

والمفارقة، أنهم- ودون أن يدروا- يعترفون بضرورة الأسرة ككيان وكرابطة مجتمعية، إذ يغالطون أنفسَهم حين يزعمون إمكانية تكوين الأسرة على غير النمط الذي أراده الله، والذي عرفته سائر المجتمعات على اختلاف العصور؛ أي تكوينها من رجل ورجل، أو امرأة وامرأة؛ بدلاً من اجتماع الرجل والمرأة!!

إنهم لربما أراحوا أنفسهم، واتسقوا مع أفكارهم المنحرفة، لو انخلعوا تمامًا من رابطة الأسرة، ولم يمارسوا هذا الخداع بتكوينها على هذا الشذوذ!!

“الأسرة” هي المحضن الوحيد الذي يمكن أن ينشأ من خلاله إنسان سوي، في نفسه وفي علاقاته. وإذا كنا نلمس أن الخلافات بين الأبوين داخل الأسرة تؤثر سلبًا على أبنائهما، فما بالنا لو انهدم هذا الكيان وأُلغي وجوده من الأساس؟ كم يشقى الإنسان حينئذ!!

نعم، بإمكان الدولة أن تنشئ كيانات ومؤسسات لرعاية الأطفال الذين يولدون من خارج نطاق الأسرة.. لكن، لن يكون بإمكانها أن توفر لهؤلاء الأطفال جوًّا نفسيًّا وتربويًّا مثلما توفره مؤسسة الأسرة.

ولعل من المفارقات هنا، أن كثيرًا من الغربيين حينما يقتربون من أسر مسلمة، سواء داخل المجتمعات الغربية أو البلاد الإسلامية؛ فإنهم يعبِّرون عن إعجابهم بما يلاحظونهم من دفء وتماسك أسري، على الرغم مما أصاب مجتمعاتنا من ضعف وتفكك!!

لكن، والحمد لله، مازالت مؤسسة الأسرة في مجتمعاتنا قادرة على التعافي. ولهذا، نراها في مرمى الاستهداف من قبل المنظمات الغربية التي تحاول الترويج للأفكار الهدامة، تحت مزاعم شتى ودعاوى متهافتة!!

الأسرة في التعبير القرأني

إن حضارةً ما بإمكانها أن تحرز تقدمًا ماديًّا غير مسبوق، وأن تنشئ مؤسسات عملاقة في مختلف المجالات.. لكنها لن تستطيع تعويض الأسرة عما فقدته من اتساق في الوجود مع الفطرة، أو من دفء وسكينة وتراحم بين أفرادها. سيكون المجتمع في حالة فقدان الأسرة أو تفككها مجرد مجموعة أفراد، تنحصر اهتماماتهم في إشباع نوازعهم الفردية والمادية، وبطريقة متوحشة وفردانية.

سيفقد الإنسان اتزانه النفسي وسلامه الداخلي. لن تغني عنه مناصب رفيعة ولا مكاسب مادية يحققها.. ذلك لأن الإنسان لم يوجد في الحياة ليعيش فردًا، ولا ليعبّ من الشهوات مثل كائنات لا تعقل!

ولهذا، نلاحظ دقة التعبير القرآني حين يحدثنا عن نعمة الله سبحانه علينا بأنْ خلق لنا من “أنفسنا” أزواجًا. وبأنْ جعل الهدف من ذلك أن “نسكن” إليها. ثم جعل ذلك محاطًا بسياج من “المودة والرحمة“.. يا له من تعبير! ويا له من هدف! ويا له من سياج! قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (الروم: 21).

جاء في تفسير ابن كثير: قوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي: خلق لكم من جنسكم إناثًا يكن لكم أزواجًا. {لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189): يعني بذلك حواء، خلقها الله من آدم من ضلعه الأقصر الأيسر.

ولو أنه جعل بني آدم كلهم ذكورًا وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم، إما من جان أو حيوان؛ لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس. ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم ، وجعل بينهم وبينهن مودة: وهي المحبة، ورحمة: وهي الرأفة؛ فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمة بها، بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما، وغير ذلك (تفسير ابن كثير، 6/ 309).

إذن، علينا أن نتعامل مع الأسرة بمنظار أشمل وأهم؛ أي بصفتها وحدةَ نهوضٍ للمجتمع والحضارة؛ وبالتالي نبذل لها كل ما يمكِّنها من تحقيق هذا النهوض المجتمعي والحضاري؛ سواء قبل تكوُّنِها: من حيث العناية بالنشء، وتدريب الشباب على معنى الأسرة ومفاهيمها وقيمها ومهاراتها.. أو بعد تكونها: بتوفير العوامل النفسية والمالية التي تستديم ترابطها، وتنفي عنها أسباب الشقاق.

الأسرة أهم من أن تُترك لمجرد العادات والتقاليد، وأخطر من أن ندعها تواجه وحدها صعوبات الحياة، وأثمن من أن نفرِّط فيها لمن انتكست فطرتهم وتسلط عليهم الشيطان.. إنها رباط المجتمع المتين، ووحدته الأساس وهو يشق طريقه للنهضة والحضارة.